القفزة الخاطئة لأحمد السقا

«الديلر» سينما للخلف در

TT

في هذا الفيلم «الديلر» (Dealer) غاب المنطق.. بداية من اختيار العنوان الذي يفسره قاموس «المورد» بأنه «التاجر، البائع، الموزع لورق اللعب». الترجمة ليست لها علاقة بحالة الفيلم، فهي ربما تقترب من المهنة غير المشروعة التي مارسها بطلا الفيلم، لكنها أبدا لا تملك أن تضع مفتاحا لقراءة الفيلم، ولا أدري ما هي الحكمة في استخدام اسم أجنبي لا يتم التعامل به كثيرا في الحياة المعاصرة داخل مصر! نستطيع أن نرى الفيلم وهو يقسم الحياة بين شخصين يكره بعضهما بعضا من الطفولة، كل منهما يتمنى زوال الآخر بلا منطق سوى البغضاء. وتسأل: من يغار ممن وعلى أي أساس؟ فلا تعثر على إجابة. ثم تضع الحياة بينهما طفلة أيضا، كل منهما يقع في حبها، وتكبر الطفلة وهما لا يزالان على حبها.

هذه المعادلة الثلاثية ليست الزوج والزوجة والعزول، ولا هي أيضا الطيب والشرير وبينهما المرأة.. هل هي جينات وراثية داخل كل منهما دفعته لكي يكره الآخر من دون مبرر، ولهذا يكبران مع الزمن ويتجدد صراعهما خارج حدود الوطن لنجد أمامنا شابين ضائعين كلا منهما له سجل حافل في الاتجار وتوزيع المخدرات أو لعب القمار.

الطفلة تكبر في مصر. تعمل راقصة شعبية. ويواصلان الوقوع في حبها أيضا خارج الحدود. اختارت الفتاة التي أدت دورها مي سليم الفتى الشقي خالد النبوي لتقيم معه علاقة وتصبح حاملا، بينما الشقي الثاني أحمد السقا لا يزال يحبها ولا يثور عليها عندما يكتشف حبها للنبوي بقدر ثورته على خالد النبوي.

في الجزء الأول من الفيلم رغم كل شيء نرى روح ونبض المخرج أحمد صالح في اختيار أماكن التصوير، وتتابع الحركة والانتقال بين لقطة وأخرى بمجهود وإبداع خاص من مهندس الديكور فوزي العوامري، لكن يفقد السيناريو منطقه تدريجيا عندما نجد أن أحمد السقا يقرر الهرب خارج الحدود من خلال السفر مع الفرقة الاستعراضية. والمفروض أن الذي يساعده على الهرب هو غريمه خالد النبوي مقابل الحصول على الثمن مضاعفا.

كان يبدو لي السفر في هذا الفيلم لا يرتكن إلى حتمية درامية، فهو فقط مجرد فرصة للتصوير الخارجي سواء في أوكرانيا أو تركيا، ولم يستند إلى منطق درامي بقدر ما كان الهدف سياحيا، حيث تتغير المناظر التي تعود عليها الجمهور المصري والعربي. المخرج يبحث عن حالة أخرى لا بأس، لكننا لسنا بصدد نزهة خارج الحدود!! يلجأ سيناريو مدحت العدل إلى أسلوب القطع المتوازي بين السقا في مصر داخل السجن ومعه المساجين الأشقياء، الذين يبدأون في عدائه، ثم يتحولون إلى صداقته بعد أن وشى به النبوي فتم إلقاء القبض عليه قبل الهرب إلى أوكرانيا. بينما نرى في المقابل النبوي في أوكرانيا مع مي سليم يتاجر أيضا في المخدرات ويعلم أن مي صارت مدمنة مخدرات. ينطلق النبوي إلى تركيا ويقدم المخرج أحمد صالح مشهدا نرى فيه كل الهاربين من دولهم بهجرة غير شرعية إلى تركيا وهم في هذه الساحة التي ضمتهم جميعا ليعملوا في أرض الغربة هربا مما يجري في بلادهم. مواطنون من كل الجنسيات تجمعهم آمالهم القليلة في حياة أفضل مشهد كان من الممكن أن يصبح نقطة انطلاق لفيلم آخر ممتع.

يتغير حال السقا بعد أن يتعرف على تاجر كبير أدى دوره الوجه الجديد نضال الشافعي الذي يؤدي دور مواطن شامي، فهو يبيع المخدرات بالتجزئة ويتحول إلى وسيط في تلك التجارة الممنوعة، ونشعر بأن السيناريو نسي تماما وجود خالد النبوي في أوكرانيا، ويتحول الفيلم إلى تقديم حكاية السقا ومغامراته، وفجأة يقرر أن يذهب من تركيا إلى أوكرانيا وفي ذهنه غريمه القديم، وبدلا من أن يلتقيه يشاهد في ملهى استربتيز مي سليم وهي تعرض جسدها، وبمجرد أن تقع عيناها عليه تغادر الموقع، ويلاحقها، ويتعرف على مأساتها، ونكتشف أن النبوي قد أخذ منها ابنها، وتعترف له بضعفها ولجوئها إلى بيع نفسها لكي تعيش. ويواصل السقا قصته معها للاستحواذ عليها والزواج منها، ويقع في مأزق عندما تضيع صفقة المخدرات ويجد نفسه وقد أصبحت حياته مهددة بالفناء، بينما النبوي يتحول إلى اللعب بالسياسة فيصبح مواطنا أوكرانيا يصل إلى منصب حزبي رفيع رغم جذوره المصرية، لكن ينتخبونه، ويتزوج من حسناء أوكرانية إلا أنه لم ينه صراعاته القديمة، وهكذا تسرق عصابة أوكرانية ابنه لتهديده، وفي نهاية مفتعلة يلتقي مع السقا وهو في الوقت نفسه يبحث عن ابن النبوي ليعيده إلى أمه مي سليم التي صارت زوجته، ويقول له النبوي ارجع إلى عمك على طريقة «أنا واخويا على ابن عمي وأنا وابني عمي على الغريب».

وهكذا يتوحد الغريمان في الغربة بلا سبب مثلما كانت لديهما كل هذه المشاعر من الكراهية أيضا في مصر والغربة بلا سبب. ويقتل النبوي برصاصة من عصابة التاجر الكبير، ويستطيع السقا قتل التاجر، ويأخذ الطفل ويعود إلى بيته ليكتشف موت زوجته أثناء الولادة، فيعود للقاهرة مع الطفلين، وينتهي الفيلم وهو يكذب على الطفل قائلا «أنا وأبوك كنا أعز أصحاب». عاد مرة أخرى إلى الحي العشوائي الذي نشأ فيه ليصطحب معه ابن غريمه الأبدي! ما الذي يريد السيناريو الذي كتبه مدحت العدل أن يقوله للجمهور؟ وما هو البعد النفسي القائم على هذا التناحر بين شخصيتين لديهما حقد متبادل منذ الطفولة لم تطفئه السنين على تراكمها ولم يستطع اختلاف المشارب والأهداف أن ينهيه؟

لماذا يحدث كل ذلك؟ المخرج لم يجهد نفسه كثيرا في البحث عن أسباب تمنح أحداثه منطقا. والسيناريست المخضرم مدحت العدل الذي نذكر له الكثير من الأفلام مثل «أميركا شيكا بيكا»، «آيس كريم في جليم»، «قشر البندق»، «أصحاب ولاّ بيزنس»، «صعيدي في الجامعة الأميركية» لم يمنح فيلمه أي ثراء فكري أو نفسي.. كان حريصا هذه المرة على الأكشن فقط لا غير.. كان يبدو الأمر أقرب إلى الجهد الضائع.. السقا يمنح جمهور دائما ما يتصور أنه ينتظره وهو زيادة عدد القفزات والصراعات والقنص والجري، وأغلب ما تراه من مشاهد خطرة يقدمها بنفسه، مما يعرضه للمخاطر، ومن الممكن أن تشعر بإخلاص السقا في تنفيذ هذه المشاهد لكن ليس هذا هو الإبداع ولا هذا أيضا هو التمثيل.. ربما كان خالد النبوي هذه المرة كممثل في أفضل أدواره خاصة أنه يدرك أن المشروع السينمائي مصنوع من أجل السقا، ومساحته (أقصد السقا) على الشاشة أكبر، لكن في المشاهد التي قدمها النبوي كان لافتا أكثر.

مي سليم في أول تجربة لها لا تزال مجرد وجه جميل، فهي تجيد الرقص الاستعراضي، إلا أنها ليست لها أي علاقة - على الأقل في هذا الفيلم - بفن التمثيل، وبالطبع فإن الممثل يحتاج إلى مخرج لتوجيهه، وأحمد صالح لم يمتلك هذه الرؤية. كانت هناك مجهودات إبداعية واضحة من طاقم تصوير سامح سليم، وأيضا موسيقى مودي الإمام، لكنها كانت تبدو أقرب إلى حالة من العبث الفني، فلا تضيف شيئا للحالة السينمائية.

الفيلم يقدم المجتمعين الأوكراني والتركي بسلبيات داخل أجهزة حساسة، مثل الشرطة، بل ونظام الحكم، ورغم ذلك سمح بتصويره هناك من دون مشكلات رقابية مع الدولتين، وهو أمر يستحق التساؤل: لماذا في أغلب دولنا العربية تتدخل الأجهزة الرقابية بقسوة لو كان الفيلم يتعرض لأي مظاهر سلبية في البلد المضيف صاحب الأرض ولهذا نرفض سنويا عشرات من الأفلام الأجنبية؟ لكن هذه تظل مشكلة أخرى تحتاج إلى مقال آخر لأن المأزق الأكبر يكمن في «الديلر»، وهو ما نتحدث عنه، والخاص بالحالة السينمائية التي عليها الفيلم وما صاحبه من مشكلات أدت إلى أن يستغرق تنفيذه أكثر من عامين ونصف العام، ثم خلافات حول كتابة الأسماء، ورفض من «خالد» أن يكتب اسمه تاليا لأحمد السقا، وتدخل المنتج لكي يسبق اسمه بكلمة مع النجم خالد النبوي، وهو ما أرضى في نهاية الأمر خالد النبوي وفي الوقت نفسه حافظ على مكانة مميزة في التترات لأحمد السقا ليظل الفيلم منسوبا إليه. لكن هل هذا الفيلم يضيف شيئا لكل من شارك فيه؟ لقد كان السقا هو أول المهاجمين بل والمتنكرين للفيلم بسبب مستواه الفني المتردي، ولا أتصور أنه من الممكن أن يهرب من تحمل مسؤولية الفيلم خاصة أنه قد تم الخضوع لمتطلبات النجم، ومنها انفراده بالمساحة الأكبر على الشاشة، وتقديمه لعدد كبير من مشاهد الأكشن بالفيلم، وانفراده أيضا بالمساحة الأكبر على الأفيش. الآن المطلوب من السقا أن يتغير سريعا، ولا بأس بالطبع من الأكشن فهو يتمتع بلياقة بدنية تؤهله لهذا النوع من الأدوار رغم أن وزنه قد زاد عددا من الكيلوغرامات التي اكتسبها مؤخرا، مما أدى إلى بروز بطنه وترهل في ملامح وجهه، إلا أن الأمر يستحق ما هو أكثر. إنه العمل الفني الذي نرى فيه أحمد السقا، وهو تحديدا ما افتقده مع فيلم «الديلر»، فلم أر سوى مشاهد القفز هي التي تبقت في الذاكرة. أما خالد النبوي فقد أشعلت المنافسة مع السقا قواه الإبداعية فظهر في حالة أدائية عالية، إلا أن المفاجأة كانت في الوجه الجديد نضال الشافعي.

المونتاج لحسن التوني كان نقطة ضعف، وبالطبع لا تستطيع أن تنحي رؤية المخرج عن المونتير، وهكذا شاهدنا الفيلم بكل هذه الحالة من الهذيان الإبداعي. وقفز السقا هذه المرة لكن خارج الكادر السينمائي!! [email protected]