ملح وبهار في فيلم «سولت»

حين تجد الـ«سي آي إيه» نفسها متهمة

مات دامون له تجربة مع الـ«سي آي إيه» في سلسلة «بورن»
TT

خلال تصوير «سولت»، ثم لاحقا في مرحلة الترويج له التي كلفت نحو 30 مليون دولار تضاف إلى تكلفته التي تجاوزت المائة مليون بقليل، جرى حديث مواقع الإنترنت حول جيمس بوند امرأة. «أخيرا»، قال أحد المواقع مؤكدا: «هناك رد على جيمس بوند يستحق المشاهدة». لكن الحقيقة هي أن الفيلم ليس فقط لا علاقة له بسلسلة جيمس بوند إلا من حيث انتماء الموضوع إلى النوع «الجاسوسي – الأكشن» العام، التي انضوى تحتها منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 أكثر من 40 فيلما من إنتاج الاستوديوهات الرئيسية، بل إن هذا الرد، على افتراضه، يأتي متأخرا بعد أن أحيل جيمس بوند إلى التقاعد حينما لم تجد شركة «مترو غولدوين ماير» الممولة، في صميم أزمتها الاقتصادية الحالية، 200 مليون دولار أخرى تصرفها على حلقة جديدة من مغامراته.

فيلم فيليب نويس، وهو مخرج جيد بصرف النظر عن نوعية ما يخرجه، هو أقرب إلى سلسلة أخرى منه إلى سلسلة بوند، هو أقرب إلى سلسلة «بورن» تلك التي يقوم بها مات دايمون. كلتا الشخصيتين متشابهتين على أكثر من وجه. سولت، مثل بورن، تعمل لصالح وكالة المخابرات الأميركية. وهي مثله متهمة بذنب لم ترتكبه. مثله هي مطاردة من قبل رجال الـ«سي آي إيه» الذين يريدون قتلها أولا وسؤالها عن تهمتها فيما بعد. كلتا الشخصيتين أيضا تجد نفسها مضطرة للتحرك مسبقا قبل أن تطبق المصيدة عليها، ومثل بورن الذي فقد هويته بفقدانه ذاكرته، هي شخصية فقدت هويتها الخاصة حين وجدت نفسها محسوبة على أنها روسية الأصل وليست أميركية النشأة والانتماء.

ثقوب سيناريو

* إلى ذلك، كل منهما فقد ثقة الـ«سي آي إيه» به. ما حدث لها حينما انبرى جاسوس روسي يعمل لصالح الـ«سي آي إيه» للقول إنها عميلة روسية مزروعة في العضل الأميركي، أن الجهاز انقلب عليها من دون تردد ما جعلها في موقع حرج، من ناحية تريد أن تدافع عن حياتها وحريتها، ومن ناحية أخرى تريد الوصول إلى رئيس الجمهورية الأميركي لكي تنقذه من الاغتيال الذي تدرك أنه سيتعرض له. وتحقيق الغايتين لا يتم عبر الجدال، وخصوصا أن أقرب الناس إليها هم أعداؤها.

في الحقيقة تستطيع إذا ما كنت تعرف بعض الممثلين الآخرين الذين معها، أن تعرف من هو «الداسوس» (من دسّ، يدس، فهو داسوس) الحقيقي في العملية بأسرها، ولن يخيب ظنك على الإطلاق إذ سيكشف الفيلم عنه كاملا قبل نحو ثلث الساعة من النهاية. هذا لا يرجع إلى ثقب في السيناريو أو تنميط في الشخصية، بل استخدام ممثل يقول لك «هذا أنا» من اللقطة الأولى.

طبعا هناك ثقوب في السيناريو.. لا يمكن أن تشاهد امرأة (أو حتى رجلا) تقفز من سيارة مسرعة فوق الجسر إلى ظهر شاحنة، ومن ظهر شاحنة تمر فوق جسر آخر إلى ظهر شاحنة أخرى، لتركب بعد ذلك دراجة نارية وتنطلق بها متجاوزة مخاطر أخرى. لكن هذا ليس مشكلة على الإطلاق. معالجة الفيلم نجحت، تقنيا وعلى صعيد ثقة المخرج بالمادة وقدرته على سد ثغراتها «المنطقية»، لدرجة أن ما تقوم به سولت يمتزج بالفيلم ولا يخرج من صلبه.

تقوم القصة على نظرية مؤامرة هدفها إعادة الحرب ساخنة بين الشرق والغرب. هناك عملاء روس يعيشون ويعملون سرا في الولايات المتحدة ومهمتهم إشعال حرب فورية بين روسيا والولايات المتحدة تمتد لضرب دول في الشرق الأوسط لإبادة «مليون مسلم» كما يأتي في الخطة المعدة.

في بداية الفيلم نتعرف على إيفيلين سولت (أنجلينا جولي) في أحد سجون كوريا الشمالية العسكرية بعدما اتهمت بأنها جاسوسة. لكن سولت سوف تنفي ذلك مؤكدة بأنها مجرد سيدة أعمال. وبفضل زوجها المدني الذي اكتشف مكان اختفائها تتم مبادلتها والإفراج عنها. بعد وقت وجيز نراها قد عادت إلى مكتبها في الوكالة وقد استعادت جمالها وعافيتها. في ذلك اليوم يتقدم عميل روسي من الوكالة ليدلي بشهادة مفادها أن سولت ليست سوى عميلة روسية مزروعة في الـ«سي آي إيه». اتهام لا تحاول الوكالة التحقيق فيه بهدوء، ولا تحاول سولت مناقشته، بل ينتقل الجانبان سريعا إلى لعبة قط وفأر طويلة الأمد، فهي ستلجأ من حينها إلى البرهنة عن براءتها بالطريقة الصعبة: الدفاع عن سلامتها وحريتها ومهاجمة العصابة الروسية التي تعمل على إشعال نيران الحرب، وكتحصيل حاصل إنقاذ حياة الرئيس الأميركي المهددة من قبل العميل الروسي - الأميركي الحقيقي المزروع في الوكالة.

الفيلم لا يقترح أن تصدق أحداثه، بل أن تستمتع بها، في الوقت الذي يحول الـ«سي آي إيه» إلى وكر لا يحمي الولايات المتحدة بل يحفل بالصراعات بين أجهزته. مكان عليك أن تتجنب قبول وظيفة فيه لأنك لن تعرف متى ستنقلب الدوائر عليك فتصبح مطاردا بلا رحمة. وهو دور كان معروضا على توم كروز لبطولته، وهو في البداية وافق، لكنه اعتذر بعد حين عندما فكر، وعن صواب، أن تمثيله هذا الفيلم سوف يضر بالجزء الرابع الجاري تحضيره من سلسلة «مهمة مستحيلة»، ولو أنه - عن خطأ - قام ببطولة فيلم ليس بعيدا عن هذه النوعية هو «نايت آند داي» (فارس ونهار).

حين اعتذر توم كروز عن تمثيل هذا الفيلم، قامت شركة «كولومبيا» المنتجة بالطلب من كاتب السيناريو كيرت وَمر بتغيير جنس البطل إلى بطلة وذلك حين عبرت الممثلة أنجلينا جولي، حتى من قبل أن تقرأ المشروع، عن رغبتها في تمثيل فيلم مغامرات و«أكشن».

تغيير الشخصية من رجل إلى امرأة يتطلب أكثر من مجرد استبدال أحرف وكلمات لها علاقة بجنس الشخصية. في هذه الحالة، هناك القدرة على أن تبدو المفارقات التي تحدث لها قابلة للتصديق في حدود ما هو متعارف عليه من شروط الفيلم الخيالي على الأقل. ولولا أن الممثلة على قدر كبير من الاستعداد البدني واللياقة لما استطاعت كسب هذه المواجهة بينها وبين شخصيتها والمطلوب من تلك الشخصية أن تفعله. إلى ذلك، هناك - في السيناريو السابق - مشهد يتطلب قيام توم كروز بإنقاذ زوجته من أسر العصابة الروسية التي تقوم بخطفها والتي تهدف إلى إشعال حرب ساخنة بين روسيا والولايات المتحدة. إنقاذ الرجل للمرأة هو تقليد قديم في الأفلام من أيام «الشيخ» مع راندولف فالنتينو، وآغنس إيريس سنة 1921، لكن السيناريو اكتشف أنه لا يستطيع قلب الصورة بسهولة. حسب الأحداث، فإن قيام سولت بدخول معقل الجواسيس الروس ثم الخروج منه سليمة هو مخاطرة محسوبة، لكن الدراما الناتجة عن إنقاذها زوجها كانت ستبدو أقل فاعلية فيما لو نجحت في مهمتها. البديل؟ قتل الزوج في حضورها مما يجعلها أكثر تصميما على النيل من القاتل وجماعته وهذا ما يحدث بالفعل.

ثم هناك المسألة التي تتعلق بالعالم الذي تم وضع الفيلم فيه. هذا مهم لأنه يفرض البطانة الزمنية والموضوعية للفيلم، تلك المجموعة الروسية النافذة تحلم بروسيا الستينات، شيوعية وقوية ومهابة ومعادية للغرب وهي تسعى إلى العودة إلى السلطة عبر إعادة الوضع السياسي بين الروس والأميركيين إلى أيام الحرب الباردة. والمؤسسة قامت منذ سنوات بعيدة بخطف أولاد وبنات وتدريبهم وغسل أدمغتهم لكي يتحولوا إلى مخلب يساعد على تحقيق الغاية. نعم سولت كانت أحد المخطوفين والمدربين. لكنها لم تتبن النهج حين انتقلت إلى الولايات المتحدة ثم انضمت إلى الـ«سي آي إيه». وهو وضع شائك يستفيد منه السيناريو والفيلم. وكما يشي به العميل أورلوف (الممثل البولندي دانيال أولبريشسكي) هي بالفعل مدربة في مؤسسة روسية قبل انتمائها إلى المخابرات الأميركية، مما يجعلها تبدو كعميلة مزروعة، في أفضل الأحوال. ما يطلب الفيلم منا تصديقه هو أنها لم تقم بالتجسس لصالح الروس ولن تشارك هنا في تنفيذ المهام التي سيتصدى لتنفيذها العميل الفعلي، ذاك الذي سيتم كشف النقاب عنه قبل أقل من نصف الساعة من الفيلم.

في الشأن نفسه، وإذا ما بحثت عن أناس خيرين (أبطال) يمثلهم هذا الفيلم أو يعبر عنهم، لما وجدت الكثيرين منهم. لا الروس على حق ولا الـ«سي آي إيه» على حق، وحتى سولت ليست بريئة تماما من الشوائب. أكثر من هذا، هل شاهدت رئيس جمهورية أميركي عديم النفع كهذا الرئيس (قام بأدائه ممثل اسمه هانت بلوك)؟ اترك كل ما سبق، مشهد قيام الشرير الفعلي (ولن أذكر من هو حتى لا أفسد متعة اكتشافه إذا لم تخمنه من البداية) وابدأ من حين قيام الشرير بضرب الرئيس الذي يسقط مغمى عليه. انتهى. الرسالة التي تتكون أمام العين (وأنا أتحدث لغة الفيلم لا لغة سياسية يحب بعض الكتاب الغوص فيها دائما) هي أن الرئاسة الأميركية أعجز من أن تدافع عن نفسها.

عيب نويس هنا هو أنه في محاولته عدم التخلي عن خط الفيلم والتزامه بالممثلة وشخصيتها، قرر أن باقي الممثلين لا يحتاجون منه إلى إدارة. هذا واضح مع الممثلين الواقفين في الصف الثاني مباشرة: لييف شرايبر، وشيوتل إيوفور، إذ ليس عند المخرج نية تخصيص أي منهما بأي أداء يكشف عن لمعة في الشخصية التي يؤديها. بذلك يبقيان دميتين متحركتين حين الحاجة.

ومن قبيل الصدف أن الفيلم طرح للعرض بعد أسابيع قليلة من اكتشاف عملاء روس في الولايات المتحدة، لكن ليس صحيحا أن الصدفة لم تلعب دورها هنا. ذلك أنه حتى يجدول الفيلم روزنامته الإنتاجية ثم التوزيعية لكي يستفيد من وضع حقيقي كالذي حدث، كان عليه أن يزرع الجواسيس بنفسه وأن يكشف عنها في الوقت المناسب أيضا.

ما هو أمر خال من الصدف تماما هو ذلك القدر من الإدانة التي تتلقفها وكالة المخابرات الأميركية في السنوات التي تبعت، على الأخص، حرب العراق، ما لا يقل عن 10 إنتاجات من استوديوهات رئيسية، ومثلها، إن لم يكن أكثر، من الأفلام التي تلقي ضوءا شاحبا على الوكالة. أقواها فيلم ريدلي سكوت «كيان من الأكاذيب» والأجزاء الثلاثة من سلسلة «بورن» («هوية بورن»، و«سيادة بورن»، و«إنذار بورن») وأضعفها شأنا فيلم رومان بولانسكي «الكاتب الشبح».

لكن تصوير الـ«سي آي إيه» كمؤسسة قد تنقلب على من فيها وتبدأ بأكل أولادها موجود في السينما قبل انتهاء الحرب الباردة بين الشرق والغرب أو انحسارها عمليا من مطلع الثمانينات. المخرج سيدني بولاك أنجز في عام 1975 فيلمه الجيد «ثلاثة أيام من الكوندور»، مع روبرت ردفورد الناجي الوحيد من عملية اغتيال شملت موظفين في مؤسسة تعمل لحساب الوكالة. وأحد الأفلام الأخيرة للراحل سام بكنباه كان «أوسترمان ويك إند» سنة 1983، وفيه يدافع روتغر هاور، وكريغ نلسون، ودنيس هوبر، عن حياتهم بعدما جمعهم رئيسهم، جون هيرت، في عزلة وأرسل وراءهم جيشا من المرتزقة للتخلّص منهم.