«الجماعة» على حد السيف

TT

لم نصل، بعد، إلا لما لا يتجاوز 25 في المائة فقط، من زمن عرض مسلسل «الجماعة»، تأليف «وحيد حامد»، وإخراج «محمد ياسين»، وعلى الرغم من ذلك فقد فرضت أحداث هذا المسلسل نفسها على كل الفضائيات الناطقة بالعربية. وصار الحديث عنه يشكل الهدف الأول على الرغم من أنه لا يزال يتواصل عرضه وتتابع حلقاته، ولم تكتمل بعد ملامحه النهائية على شاشة التلفزيون، التي تزخر بالكثير من الأعمال الدرامية التي تحمل أيضا قضايا ساخنة ومثيرة. إلا أن القسط الوافر من المساجلات كان من نصيب مسلسل «الجماعة»، وما يجرى عبر الإنترنت، وليس فقط الفضائيات فقد أكد أن توجه المؤشر توقف عند حدود الرؤية السياسية والفكرية للعمل الفني، فصار هو المسلسل الذي استحوذ على الاهتمام المبكر بين كل المسلسلات، على الرغم من التنوع الشديد والغزارة الإبداعية التي نراها على الشاشة الدرامية حاليا.. الكاتب «وحيد حامد» يحركه أكثر من مؤثر، وهو ينسج أحداث المسلسل، أولا الجماعة وجذورها المبكرة، ولهذا يعود إلى طفولة الشيخ «حسن البنا»، التي تواكبت مع اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914.. وفي الوقت نفسه يحركه الواقع الآني للجماعة، وتوقف أمام نقطة فارقة، وهي العرض العسكري الذي تم في عام 2006 في جامعة الأزهر الشريف، وكأنه استعراض للقوة وشعرت الدولة بأن هناك أشياء تعد في الخفاء تهدد أمن الدولة، وأصبح هذا الاستعراض نقطة انطلاق رئيسية للمسلسل، الذي يتحرك دراميا وفق خطي الماضي والحاضر، وذلك من خلال مزج يبحث عن الجذور التاريخية للجماعة، يؤكد من خلالها أن أفكارها راسخة ويتوارثونها جيلا بعد جيل، كما أن الذي يحقق التلاقي بين الزمنين هو المستشار القانوني الذي يؤدي دوره «عزت العلايلي» في حواره مع حفيدته التي أدت دورها «يسرا اللوزي» بين الحين والآخر. ينتقل إليه المسلسل ليقدم زاوية رؤية لطفولة «حسن البنا».

المؤثر الثاني الذي يحرك الكاتب «وحيد حامد» هو أمن الدولة، أقصد الصورة الذهنية الراسخة لدى الجمهور في الشارع المصري، بل العربي عن تجاوزات لحقت بهذا الجهاز الحساس أثناء الكثير من التحقيقات التي أدت إلى أن يتبادل البعض صورا عبر المحمول عن بعض وقائع التعذيب.. فكيف تستطيع الدراما خلق صورة ذهنية مضادة، كان على «وحيد حامد» أن يقدم وجها آخر لهذا الجهاز، لأن أي إدانة له سوف تفرض بالضرورة تعاطفا مع الجماعة.. اختار الكاتب بذكاء شخصية محقق في نيابة أمن الدولة، بالطبع هو ينتمي للسلك القضائي، وليس وزارة الداخلية، إلا أن الجمهور يتفاعل معه، خاصة أن تفاصيل حياته الدقيقة أحد أهم الأهداف التي يحرص المسلسل على رصدها، ومنها مشهد علاقته بأمه «سوسن بدر»، وهو يساعدها في أعمال المطبخ، وموقفه من شقته القديمة التي كان يقطنها هو وأسرته في الماضي عندما علم أن ابن صاحب العمارة يتمنى الزواج فيها، فنجده يعرض نقودا من أجل شرائها، لكي يمنح صاحب العمارة مبلغا من المال يستطيع من خلاله أن يزوج ابنه ويساعده في الحصول على شقة جديدة.. كلها ملامح، المقصود منها تحقيق التعاطف مع هذا الجهاز.. أسلوبه الهادئ والحضاري في التعامل مع الطلبة المتهمين، الذين يجري التحقيق معهم بتهمة الانتماء للجماعة المحظورة، بل إنه أيضا ينتقل إلى ضابط الشرطة، ولا ينسى أن يقدم بين الحين والآخر ضابط مباحث أمن الدولة في صورة إيجابية من خلال الضابط الكبير المسؤول عنهم، وهو حريص على ألا يتم تعذيبهم حتى لو استفزوا رجال الشرطة لاستخدام العنف، فإن العنف مرفوض، وهكذا تزداد معدلات الدراما في تبييض وجه وزارة الداخلية! في أكثر من مشهد كان السيناريو حريصا على ذلك، الكاتب لديه أيضا حسبة أخرى، وهي إحساس مسبق بأن هذا المسلسل مقدم من خلال إرادة دولة تريد إدانة جماعة تعتبرها محظورة، ولهذا فليس أمامه سوى أن يهاجم الحزب الوطني بين الحين والآخر، حتى لا يعتبر أحد أن المسلسل تمهيد لمعركة مرتقبة في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل عندما تبدأ انتخابات مجلس الشعب.. لا شك أن تلك الحسبة السياسية لم يكن من الممكن تجاوزها أيضا.

معركة مسلسل «الجماعة» بدأت قبل أن يشرع «وحيد» في الكتابة والاتهامات جاهزة، ولهذا فإنه يحرص على أن يبعد عن نفسه الشبهات.. ولا شك أن الحسابات خارج المسلسل تؤثر في مسار الدراما داخله، ولكن بترمومتر دقيق جدا ينبغي أن تتوافق كل هذه التفاصيل، لأن المسلسل يتم بثه من خلال تلفزيون الدولة، وحتى لا يضع الناس الكفتين معا، عليه في النهاية على الرغم من كل شيء أن يحافظ على ألا يصل الهجوم الموجه للحزب الوطني إلى حدود تثير غضب الدولة، أيضا. الهدف هو التأكيد على أن جذور الإرهاب مرتبطة منذ النشأة ومع بدايات التفكير في إنشاء الجماعة، ولهذا تتواصل الحلقات في الزمنين الحاضر والماضي، وذلك حتى يستكمل حياة «حسن البنا»، على الرغم من أن المسلسل ليس سيرة ذاتية لحسن البنا، ولكنه في زاوية منه من الممكن قراءته على هذا النحو من خلال الشخصية التي أداها الفنان الأردني «إياد نصار»، وحتى كتابة هذه السطور أجاد تقديمها بدرجة من الحميمية والدفء والقناعة.. الدراما تتحرك في الزمنين معا، دائما يعود إلى الطفل «حسن البنا»، ولكن عندما نشاهد ملامح الطفل «حسن البنا» في القرية نراه يزرع ملامح الشخصية المرفوضة في البداية في علاقته مع شيخ «الكتاب»، الذي يعلمه صحيح الدين ويحفظه القرآن، فلا نراه، حقيقة، طفلا في سلوكه، ولكنه منذ البداية يحمل ميولا لمطاردة الناس والتلصص عليهم، ويتبنى وجهة نظر قاسية جدا في مفهومه للإيمان، فهو يطلق على جماعة أسسها، اسم «النهي عن المنكر» وقبل ذلك يحيل اللعبة الشهيرة «عسكر وحرامية» إلى «كفار ومسلمين».. فهو شخصية قيادية تتحدى الكبار. ولكن السؤال، هل هذه هي حقا الطفولة، فهل مثلا لو تصورنا طفولة أشهر قاتلتين في مصر «ريا وسكينة» فسوف نعتقد أنهما بدأتا حياتهما، وهما يخنقان الكتاكيت، ثم تضعان الجثث تحت التراب، وعندما مر الزمن صارتا تقتلان الناس، على طريقة الكتاكيت.. فالطفولة ينبغي ألا ننزع عنها ملامحها، من أجل الوصول إلى إدانة للشخصية.. المسلسل لا يكتفي بتقديم مشاهد درامية فقط لفضح هذا التنظيم، ولكن أيضا من خلال حوار مباشر بين «عزت العلايلي» وحفيدته «يسرا اللوزي»، أو مع زوج المستقبل لابنته «حسن الرداد»، فإنه يبثه الكثير من الأفكار المباشرة للهجوم على الإخوان؟! كل ذلك لا يمكن بالطبع أن يؤدي لنجاح الخطة، لو لم يتم إحاطة تلك اللمحات بتفاصيل في العمل الفني به قدر لا ينكر من الجاذبية، ولهذا نجد أن عددا من النجوم يشاركون كضيوف شرف في المسلسل، مثل «أحمد حلمي»، و«منة شلبي»، و«كريم عبد العزيز»، ولا أجد في هذه المشاركات سوى مؤازرة من هؤلاء النجوم لأفكار مسلسل، الكل يعلم مدى حرص الدولة عليه.. ومن المشاهد التي رأيت فيها إبداعا فنيا، التتابع الذي قدمه المخرج «محمد ياسين» بين مشاهد تداخل الدعاة في بداية تكوين تنظيم الإخوان، حيث شاهدنا كلا منهم بدأ موعظة من مقهى إلى آخر، وردود الفعل والتركيز على أن الدعوة ينبغي أن تبدأ في أماكن وجود الناس، ولا ننتظر من يأتي إلى الجامع.. كل شيء مصنوع بدقة الرؤية الإخراجية لمحمد ياسين يصل بها للذروة من خلال ضبط إيقاع التتابع وحركة الممثلين.. الانتقال الزمني، الذي يتجاوز 80 عاما يستند إلى تفاصيل في الملابس والإكسسوارات ولغة الحوار، استطاع المخرج أن يضبط تماما كل هذه التفاصيل مع مهندس الديكور المبدع «أنس أبو سيف».

المسلسل يسير على حد السيف، فهو يخشى أن يتهم بالانحياز للدولة، وتحديدا للحزب الوطني، وفي الوقت نفسه يراعي أن الجرعة التي ينتقد بها فساد الدولة ينبغي ألا تتجاوز المسموح به حتى لا يبتعد الهدف عن التوجه الأساسي، وهو إدانة الجماعة، ويجب أيضا ألا ننسى في المعادلة نفسها أنه بقدر ما ينتقد الجماعة، فإنه يدافع عن صحيح الدين حتى لا يفقد جمهوره المتدين بطبعه.. إنها جرعة ينبغي مراعاتها بدقة متناهية وإلا فإن الهدف قد ينتقل إلى الناحية الأخرى تماما ولا نستطيع بالطبع أن نصدر حكما نهائيا حتى نصل إلى شاطئ نهاية الحلقات! [email protected]