طارق عبد الحكيم.. مفجر متعة الحس في الروح عبر إبداعاته الموسيقية

سادس العالم وأول عربي يحصل على جائزة اليونيسكو في الموسيقى

مع ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز في افتتاح المتحف الموسيقي بالرياض
TT

في مطلع الخمسينات الميلادية انطلقت بدايات الموسيقار السعودي طارق عبد الحكيم، فبين مزارع والده في ضاحية المثناة إحدى ضواحي مدينة الطائف السعودية حيث يمتهن أهلها حرفة الزراعة والرعي وتشتهر بمزارعها ومياهها العذبة وزراعة أجود أصناف الفاكهة والخضار، ولد طارق عبد الحكيم قبل 93 عاما، حيث كانت موسيقى الطبيعة تعزف أجمل ألحانها وينهل الصغير منها ويختزن إيقاعات الكون وأصداء التراث القديم.

من هذه الأجواء صارت الموسيقى ولعه وولهه وعشقه حتى تحقق لجيلين أن يدينا لموسيقار الجزيرة طارق عبد الحكيم بتفجير متعة الحس في الروح عبر الموسيقى التي أبدعها، وأشبع بها عواطف الجيلين بما يرغد الوجدان الإنساني، ويرقى به إلى قمة الإحساس بالجمال، وبمتعه الأمن النفسي الذي تشيعه الموسيقى - كما عبر عن ذلك الراحل الكاتب عبد الله الجفري - في تقديمه للكتاب الذي جمعه إسماعيل عيسى حسناوي عن عميد الفن السعودي الموسيقار طارق عبد الحكيم وصدر قبل 12 عاما وتضمن رصدا لحياته وأعماله الفنية، وحكايته مع الفن، ومؤلفاته الموسيقية والمناصب التي تولاها والشهادات التي حصل عليها حيث رأس المجمع العربي للموسيقى بجامعة الدول العربية، وعد أول موسيقي عربي يحصل على جائزة اليونيسكو للموسيقى «الأوسكار» من المنظمة العالمية «المجلس الدولي للموسيقى» عام 1981م، كما يعد سادس موسيقي في العالم يحصل على جائزة اليونيسكو في الموسيقى.

خلال نحو قرن حفلت بالكثير من الأحداث للموسيقار طارق عبد الحكيم، وفتحت له الأيام منذ سن مبكرة ما تخفيه الأقدار من قسوة وآلام ومصائب عصفت بداره وشلت أفكاره وأظلمت الأفق في وجهه البريء، إلى أن أصبح يافعا ليدخل الحياة العملية محاسبا عند أحد الأثرياء، ومسؤولا عن بيع الفواكه والخضار ومساعد دلال في تسجيل المبيعات اليومية وجرد الحسابات الختامية للمزارعين والعمال وتصفية حقوقهم من ذمة الشيخ عبد الوهاب حلواني الذي أغدق على طارق المكافآت التشجيعية لإخلاصه في عمله ودقة تنظيمه وترتيبه لكافة المستندات والأوراق الخاصة بعمليات البيع بكفاءة واقتدار.

وبعدها تحول إلى العسكرية وأصبح عميدا في الجيش السعودي بعد مروره بالرتب العسكرية وعدة مناصب منها: مدير فني لموسيقات الجيش العربي السعودي، ومدير لنادي ضباط الجيش، ثم انتقل إلى مديرية الشؤون الإذاعية والصحافة والنشر وأسس فرقة موسيقى الإذاعة، ثم عين مديرا لموسيقى الأمن العام ومشرفا على معهد التربية الرياضية التابعين لوزارة الداخلية، ثم نائبا لرئيس الجمعية العربية السعودية للفنون في أول مجلس لإدارتها عند تأسيسها قبل نحو أربعين عاما، وكان الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن رئيسا لمجلس إدارة الجمعية، ثم بعد ست سنوات على تأسيس الجمعية تم تعديل اسمها إلى الجمعية العربية للثقافة والفنون، ثم كلف عام 1974م بتأسيس نادي الأمن العام لخدمة ضباط وموظفي الأمن العام في الرياض، ثم انتقل لوزارة الإعلام مشرفا عاما لموسيقى الإذاعة والتلفزيون، وأسس إدارة الفنون الشعبية التابعة للرئاسة العامة لرعاية الشباب وأصبح مديرا لها.

وعلى المستوى العربي وفي عام 1976، رشح من قبل الأمير الراحل فيصل بن فهد لتمثيل بلاده في عضوية المجلس التنفيذي للمجمع العربي للموسيقى بجامعة الدول العربية، وخلال أربع سنوات بجانب عمله السابق تم انتخابه بإجماع أعضاء المجمع لمنصب نائب رئيس المجمع ثم تولى رئاسة المجمع.

وتمكن طارق عبد الحكيم من أن يخرج الأغنية السعودية الحديثة من عنق الزجاجة ليظهرها على الساحة الفنية العربية بطابعها المميز ونكهتها الخالدة معلنا ميلادها وانطلاقتها الحقيقية وشيوعها في الساحة الفنية العربية من المحيط إلى الخليج، ويقفز بها الحواجز والمنعطفات ويستقر بها في القلوب التواقة لسماع المغنى والطرب الأصيل، ففي القاهرة وبيروت نجح وبرع في عملية التزاوج الفني العربي وأظهره إلى حيز الوجود بإبداعه الموسيقي في الألحان واختياره الموفق في انتقاء الكلمات والأصوات.

ورصد المؤلف حسناوي فهرسا لأغانيه وألحانه حيث بلغ عدد الأغاني العاطفية التي أداها ولحنها وأداها فنانون سعوديون وعرب نحو 252 أغنية وتجاوز عدد ألحانه الـ500 لحن، وبلغ عدد المطربين والمطربات الذين تغنوا بألحانه 140 مطربا ومطربة، أما كتاب الكلمة الغنائية والشعراء الذين تعاون معهم فبلغ عددهم 157 شاعرا وشاعرة، وبلغ عدد الأناشيد الوطنية في هذا الجانب 104 أغان، بالإضافة إلى 17 نشيدا وأوبريتا دينيا، و10 مونولوجات، ومثلها أغان ومشاركات وجدانية عربية، و19 أغنية للعبة المجرور الشعبية بألحانه، و9 عرضات ورقصات شعبية من ألحانه وعشرات من المجالسيات الخاصة بالشعر الشعبي، كما سجل 36 لحنا لأناشيد خاصة بحرب الخليج، وأنجز تأليف 111 مقطوعة موسيقية، بالإضافة إلى تأليف 14 سيمفونية سجلها خصيصا لـ«صوت العرب» وألّف 14 مارشا عسكريا هي: مارش عاهل الجزيرة، ومارش السعود، ومارش الفيصل، ومارش العبد الله، ومارش السلطان، ومارش النايف، ومارش المنطقة الغربية، ومارش المنطقة الشمالية، ومارش المنطقة الشرقية، ومارش المنطقة الجنوبية، ومارش المنطقة الوسطى، ومارش مكة المكرمة، ومارش المدينة المنورة، ومارش القدس.

شارك الموسيقار طارق عبد الحكيم في 34 مناسبة ومهرجانا موسيقيا في داخل بلاده، كما شارك في 38 مهرجانا دوليا ممثلا لبلاده في عدد من الدول العربية والأجنبية والأممية، ونال 53 شهادة تقديرية في بلاده والدول العربية والعالمية والمنظمات العالمية، كما حقق الأولوية في 40 مناسبة مختلفة داخليا وخارجيا.

أسس طارق عبد الحكيم متحفا وطنيا للفنون والتراث عرف بـ«قلعة الفنون التراثية»، ففي خريف العمر لم ينس أو يتناس عميد الفن هوايته وعشقه للفن والفنون، فهو حبه وشغفه الذي نما وترعرع في كيانه ووجدانه منذ نعومة أظفاره وأينع مع مرور الأيام وطي السنين كالمروج الوارفة الظلال حتى أصبح الفن هاجسه وولعه وجزءا لا يتجزأ من أهداف حياته وأمنياته التي يسعى جاهدا لتحقيقها في مشوار حياته.

فبعد عودته من القاهرة عام 1953 حرص اليوزباشي طارق عبد الحكيم آنذاك على تجميع وحفظ كل أعماله الفنية من أشرطة وأسطوانات ومقطوعات ونوت موسيقية بالإضافة إلى الصور الفوتوغرافية المؤرخة التي جمعته مع عمالقة الفن ورواده منذ بدايته الفنية الحقيقية في الخمسينات والستينات الميلادية في القاهرة وبيروت، كما حرص على اقتناء وجمع الآلات الموسيقية المختلفة سواء كانت شرقية أو غربية بدافع حبه وهوايته المتعطشة لجمع مثل هذه الآلات وتنامي حرصه وشغفه على جمع المزيد منها وكل ما يتعلق بالفن والفنون من أجهزة وإيقاعات. ولم يكتف بهذا الحد، بل كان يحرص جاهدا على استخدامها في العزف وتحديث ألحانه بها حيث دفعه طموحه إلى إدخالها في أعماله الموسيقية في المارشات العسكرية وأغانيه العاطفية وسيمفونياته التي ألفها، وكان شديد الحرص عليها ويوليها جل عنايته في الحفظ والصون.

وخلال سنوات مضت استطاع أن يجمع لديه كما وافرا من هذه المقتنيات النفيسة إضافة إلى الكثير من التحف الأثرية القديمة التي أهديت إليه من أصدقائه ومحبيه، الأمر الذي دفعه وشجعه على تكوين نواة متحفه الفني الذي كان يحلم به.

ومن خلال رئاسته لإدارة الفنون الشعبية ساعده أصدقاؤه ومحبوه بإهدائه ما بحوزتهم من تحف وآثار قديمة ساعدته على عمل متحفه الشخصي المتواضع بمنزله في الرياض ليشاهده أصدقاؤه وزواره في المنزل حيث كان ذلك الحافز والدافع للشروع بعمل متحف أثري متكامل فيما بعد يضم بين جنباته كل ما اقتناه وجمعه من الموروثات الأثرية القديمة التي عفّى عليها الزمان وأسدل عليها ستار النسيان من أدوات المهن وأواني الطهي والملبوسات والحلي والنقود والصور.

وما هي إلا سنوات مضت من عمر الزمان حتى جمع خلالها كما وفيرا لا يستهان به من التحف والمقتنيات الأثرية القديمة التي استطاع أن يفتتح بها متحفه الشخصي في مدينة الطائف الذي أطلق عليه المتحف الوطني للفنون والتراث.

وبعد أن استقر مع عائلته في مدينة جدة استطاع، بتوفيق من الله، أن يحقق حلمه الذي كان يراوده منذ صباه، ويشيد متحفه الشخصي الكبير من دورين بحي النهضة على مساحة كبيرة من الأرض جعلها خصيصا لهذا المشروع العملاق، وأطلق عليه «قلعة الفنون التراثية للعميد الموسيقار طارق عبد الحكيم» وغدا الحلم حقيقة تتراءى للعيان، وأصبح المتحف معلما من معالم مدينة جدة يضم بين جنباته نحو 20 ألف قطعة من التحف الأثرية القديمة من الحرف والمشغولات اليدوية، كالخزف والخوص والصوف والنحاس والجلد والأواني الخشبية والدباغة وتطريز الملابس والصباغة وأدوات الصيد البرية والبحرية والزراعة والطهي والنجارة والحدادة والبناء وعمل الملابس وكيها وصياغة الحلي والحلاقة والعطارة والجزارة وتنجيد الفرش ومقاطيع الورد والزهر وصناعة الحلوى.

أما القسم الفني فيحتوي على مجموعة كبيرة من الآلات والأجهزة الموسيقية قديما وحديثا كالأعواد والكمنجات والقانون والإكسيليفون والناي والقيثارة والأورج والشيلوا والكونترباص والإيقاعات المختلفة الأشكال والمقاسات والأحجام والسمسمية والربابة والبزك وغيرها الكثير والكثير من الآلات، أما المكتبة الموسيقية فتحتوي على الكتب الفنية القديمة لأساطين الفن ورواده في العالم العربي، والأشرطة المختلفة، والأسطوانات الحجرية والبلاستيكية، وشنط الأسطوانات المختلفة، أيضا والراديوهات العتيقة والمسجلات والبكمات والفيديوهات، وآلات التصوير والتسجيل ومجموعة كبيرة جدا من التسجيلات القديمة النادرة لمختلف الفنانين العرب على أشرطة ريل وكاسيتات وأسطوانات وصور المطربين والمطربات على ثلاث مراحل قديمة ومتوسطة وحديثة.

كما يوجد بالمتحف أيضا ركن البادية وأسلحة الصيد والسيوف والمحنطات والمخطوطات القديمة والطوابع والعملات القديمة المعدنية والورقية والمجسمات والصور التشكيلية والمكتبة الأدبية وتحتوي على مجموعة كبيرة من الصحف والمجلات القديمة جدا كصحيفة «أم القرى» و«صوت الحجاز» و«القبلة» و«عرفات» وتحتوي أيضا على الشهادات والدروع والنياشين والأوسمة التي أهديت له، كما يوجد بالمتحف ركن الهدايا، وبه كمّ وافر من الساعات والسبح والأقلام والميداليات، أما الجانب الرياضي في المتحف فيشتمل على الكثير من الكؤوس وصور النوادي الرياضية القديمة ومجسمات للألعاب الشعبية القديمة بأنواعها.

وختم الكتاب بسطور كتبها الفنان الراحل طلال مداح عن موسيقار الجزيرة قال فيها: فالحق والحق أقول إنه قبطان سفينة الألحان والأنغام السعودية وقائدها إلى مرافئ الفنون العربية، صقل موهبته الفنية بدراسته الموسيقية الأكاديمية، علاوة على معايشته وملازمته لقدامى الفنانين في بلادنا أمثال الفنان حسن جاوا والفنان الشريف هاشم والفنان فهد أبو حميدي والفنان عبد الرحمن مؤذن «الأبلتين» والفنان سعيد أبو خشبة والفنان إسماعيل كردوس، وغيرهم من قدامى الفنانين، رحمهم الله، وحفظ منهم الكثير من الأنغام والدانات والفلكلورات القديمة فاستطاع بإحساسه المرهف أن يمزج عراقة الماضي بأصالة الحاضر ويقدم لنا خلاصة هذا المزيج في إبداع فني فريد يواكب فنون العصر بألحانه وموسيقاه التي أضفت على فلكلورنا لمسات جمالية ونغمات موسيقية حديثة فيها صدق المشاعر والأحاسيس، فهو الذي أخرج الأغنية السعودية من الرتابة وجعل منها أغنية شعبية راقصة حازت إعجاب الجماهير وفرضت وجودها على الساحة الفنية العربية ولاقتها الآذان والقلوب بالفرح والسرور والتشجيع، ووصل بها إلى عواصم الفنون العربية في القاهرة وبيروت كأول مطرب سعودي وخليجي قادم من صحراء الجزيرة بأنغامه الراقصة وصوته العذب يقتحم حصون الفن العربي لينتزع الإعجاب والتقدير بفنه وإبداعه حتى استطاع أن يفرض فنه واسمه بجدارة متناهية، وكفاه فخرا حصوله على جائزة اليونيسكو للموسيقى كأول موسيقي عربي يحصل على مثل هذه الجائزة الرفيعة مع وجود جيل العمالقة الموسيقيين العرب آنذاك، ولا ننسى رئاسته الطويلة للمجمع العربي للموسيقى بجامعة الدول العربية إضافة إلى عمله كخبير للفنون الشعبية بالجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون.

فهو ابن هذه الأرض الطيبة التي أنجبت الكثير من أمثاله المبدعين الذين نفتخر وتفتخر البلاد بهم بما قدموه وصنعوه من مجد وإبداع يخلد ذكره في سجل المبدعين أتمنى له دوام الصحة والسعادة والتوفيق.