الدراما العراقية حائرة.. بين تكرار الوجوه وانعدام التشويق

اتفاق على إنتاج مسلسلات ذات طابع سياسي تتناول الفترة الزمنية نفسها

فنان عراقي يقوم في بغداد بتمثيل دور شخصية عراقية لمسلسل «النخلة والجيران» الذي تدور أحداثه بين الحربين العالميتين الأول والثانية (إ.ب.أ)
TT

كانت السياسة، وما زالت، تحكم وتتحكم في الشخصية العراقية على مختلف المستويات، ومنذ بدايات القصة العراقية (أحد أركان الدراما) مطلع القرن العشرين والأعمال الأدبية والفنية تقيم من هذا المنطلق (السياسة). أما المواضيع الاجتماعية الأخرى، كالحب والمرأة وغيرهما.. فلا تلقى نفس الاهتمام، بل تصنف كأعمال رديئة أو تافهة! في العشرينات من القرن الماضي كتب رائد القصة العراقية محمود أحمد السيد 3 روايات عن الحب والمرأة قوبلت باستهجان من الوسط الثقافي آنذاك، لأنها لم تتحدث عن الوطن أو السياسة، فشعر بالندم على كتابتها واعتبرها غلطة عمره ثم أعلن براءته منها!.. ولحد الآن ما زالت تلك النظرة سائدة وذلك الموقف مهيمنا! ومع افتتاح تلفزيون بغداد عام 1956 «كأول تلفزيون عربي» ظهرت تمثيليات لا تخلو من نقد للوضع السياسي، ثم ابتعدت الدراما عن السياسة، وبشكل واضح، تجنبا للوقوع في المحظور، لكن السياسة عادت مع ظهور الفضائيات بعد 2003 وصارت الأعمال التي تتناول مواضيع سياسية تحظى بالاهتمام والتقدير، بغض النظر عن مستواها الفني والفكري.. وحاليا يعتبر العمل نموذجيا إذا تناول حقبة النظام السابق، ويكفي ذكر شخصيات سياسية أو معلومات، وإن كانت معروفة، لكي يجذب الفضائيات ويدغدغ عواطف البسطاء! وبسبب تدهور مستوى التعليم وإعادة تدوين التاريخ لصالح الأنظمة الحاكمة أصبحت المعلومات التاريخية، الحديثة، تستمد من مصادر شفوية، كالتجارب الشخصية للكتاب والناس المعاصرين للأحداث، وهذا تتحكم فيه الأهواء والأمزجة والمستويات الثقافية والفكرية للأشخاص، لذا لا تخلو النتيجة من التحريف والحذف والإضافة والمبالغة، سلبا أو إيجابا، حسب مشيئة أولئك الأشخاص.

وقد عرف الكتاب اللعبة فصاروا ينسبون أحداثا، ولو غير مؤكدة، إلى الفترة التي يريدونها أن تمرر وتنفذ بسرعة، إذا جاءت موائمة لرغبة ونهج فضائية ما! ودراما رمضان العراقية، لهذا العام، جمعت بينها السياسة وتكرار الوجوه وانعدام التشويق، فقد هبت جميع الفضائيات، في الخارج، وكأن هناك اتفاقا مسبقا بينها على إنتاج مسلسلات ذات طابع سياسي وتناولت الفترة الزمنية نفسها، فجاءت متشابهة وبدت أقرب إلى التسجيلية منها إلى الدرامية، وامتلأت بالعنف والقتل والانفجارات، وزاد الحزن والبكاء وروح الانتقام من كآبتها، أما الحالات الاجتماعية والعاطفية فكانت خطوطا ثانوية أو هامشية.. إضافة إلى تكرار الوجوه في جميع الأعمال، فقد ظهر الممثل الواحد في 4 أو 5 مسلسلات وبأدوار متشابهة أحيانا، مما خلق حالة من الالتباس والضجر لدى المشاهد، كما أن الأعمال جميعها صورت في بيئة بديلة «مفترضة»، والبيئة المفترضة مهما بلغت من الشبه لا يمكن أن تكون بديلا عن البيئة الأم، المتغلغلة في ذاكرة المشاهد ونفسيته.. والمرتبطة، جذريا، بماضيه وحاضره، وأي تغيير على ملامحها يقطع ذلك الترابط الروحي بينهما ويزعزع قناعته بالعمل ويؤثر سلبا على متعة المتابعة! وخصوصا في الأعمال الواقعية أو التاريخية.. وهذا ما أفقد أغلب الأعمال الصدق والأصالة، فكانت تلك العوامل (السياسة وتكرار الوجوه والبيئة المفترضة، إضافة إلى السيناريوهات التقليدية والجر والتطويل فيها) من أهم الأسباب التي أفقدت تلك الدراما عنصري التشويق والجذب! ويبدو أن هناك عشوائية في الاختيار تدل على عدم التنظيم والتنسيق، فقناة «البغدادية» أنتجت 3 أعمال تناولت كلها مواضيع سياسية، وتدور في الحقبة الزمنية نفسها، فترة النظام السابق وحتى الآن! وهي «السيدة» و«قنبر علي» و«بيوت الصفيح» وهذا الأخير فاز بجائزة القناة للدراما «المكتوبة وليست المرئية» تدور أحداثه حول معاناة عائلة من الجنوب في ظل النظام السابق.. وما ميزه فعلا هو تسليطه الضوء على معاناة العراقيين المقيمين في أوروبا، بعكس ما هو شائع من أنهم مترفون ومن دون مشكلات.. وهو مليء بالحزن والعنف واللقطات الأرشيفية! أما قناة «الشرقية» فقد أنتجت، إضافة للأعمال الغنائية، عملين لمخرج واحد، حسن حسني، هما «آخر الملوك» تأليف فلاح شاكر، ويروي سنوات حكم الملك الراحل فيصل الثاني 1952، 1958، وهو نسخة طبق الأصل من مسلسله السابق الباشا، من حيث اعتماد الخطوط الثلاثة في بناء السيناريو، خط الطبقة الحاكمة وهو سرد تاريخي للأحداث وكيفية الحكم في ذلك العهد، دون معالجة درامية، وساهم ضعف الحبكة وعدم توفر المادة التاريخية في إضعاف هذا الخط، وخصوصا مشاهد الملك، في حياته الخاصة، التي جاءت مفبركة ومفتعلة.. وكما فعل في «الباشا» حاول إسقاط ذلك على الحاضر فأظهر السياسيين يتنافسون فيما بينهم في أجواء ديمقراطية، شفافة، في حين غاب دور المعارضة وأبناء الشعب، فلاحين وعمال وموظفين.. إلخ، فبدا كأن البلد من دون مشكلات والجميع راضون عن الوضع!.. ثم خط المثقفين «شعراء أو كتاب» وقد اختار كاتبين معروفين «غائب طعمة فرمان وحسين مردان» لم يكن لهما أي تأثير على الأحداث ولم يتأثرا بها، اكتفيا بنقل الأخبار والتعليق عليها، وتجاهلهما في النهاية، وخصوصا في الحلقة الأخيرة حين استعرض كل الشخصيات وردود أفعالها حول ما كان يجري قبل مقتل الملك!.. كان وجود الشعراء في مسلسل «الباشا» أكثر درامية وتأثيرا.

ولم يكن موفقا في اختيار الشخصيات الشعبية أيضا، ففد اختار نماذج لا تثير التعاطف ولا دور لها في خلق الأزمات وليست متضررة «لا من النظام ولا من صعوبات الحياة» وهم التاجر، الذي يزود القصر بالمواد الغذائية، وعائلته وأصدقاؤهم «باستثناء المرأة الفقيرة وجارها الأعرج» وقد ركز، في بعض الحلقات، على المنافسة السمجة بين زوجات التاجر، أكثر من تركيزه على الملك، محور المسلسل!.. ولو حذفت تلك الشخصيات من العمل لما تأثر البناء ولا اختل التوازن! ومشكلة المؤلف «وأغلب المؤلفين» مع الحوار واضحة، فباستثناء الملك، كانت حواراته قليلة ومختصرة، تحدثت أغلب الشخصيات بلغة واحدة غير مهذبة، حتى الوصي على العرش كان يزعق ويشتم كأي رجل عادي، وإذا تعلل المؤلف بالواقع فأين هو دور الفن؟ أليس من مهام الدراما نقل الواقع بطريقة فنية؟ والحوار أهم أركان الدراما وهو الآن بقلم مؤلف شاعر؟.. وجاءت بعض المشاهد خارج التصور، مثلا، لا يمكن تخيل الوصي مترنحا تحت المطر يصرخ، داعيا الله أن يساعد العراق وقت الفيضان، فلو جعله في وضع مختلف عما ظهر به، أو عكس ما هو معروف عنه، كأن يكون منزويا يدعو ربه بهدوء، دلالة على عجز الإنسان، مهما كانت قوته ومنصبه، أمام غضب الطبيعة، لأعطى الموقف بعدا إنسانيا وكسبت الشخصية تعاطفا أكبر.

أما المسلسل الثاني فهو «إعلان حالة حب» وهو من أكثر الأعمال فظاظة وقسوة، مأخوذ عن مسرحية شكسبير «روميو وجوليت» نقلها المؤلف، أحمد هاتف، إلى العراق، الحالي، ويصور صراعا اجتماعيا وسياسيا طاحنا بين عائلتين متنفذتين، وامتلأ بشكل مبالغ بالدماء والخطف والاغتيالات المتبادلة وبث روح الكراهية والحقد والأفكار المتخلفة حول الانتقام والثأر وقتل المرأة، وهو أمر مستغرب من كاتب مثقف!!.. لكنه يؤكد أن الكاتب «العراقي» حين يتعامل مع المرأة «دراميا» يعود إلى عقلية الرجل «الذكر» «المجردة من العلم والثقافة» فيحكم عليها بما هو كائن «وإن كان ظلما» وليس بما يجب أن يكون. ومن أهم أسباب عدم تطور الدراما العراقية أنها ما زالت خاضعة لما هو سائد «اجتماعيا وفكريا» وأن القائمين عليها «وكلهم ذكور» يعتبرون الجرأة هي في تناول المواضيع السياسية فقط! أما الأفكار والمفاهيم المتخلفة والعادات والتقاليد البالية فلا يتجرأون على الاقتراب منها أو إثارتها، إما خوفا من العواقب المتوقعة أو لأنهم غير متضررين منها.. أو للسببين معا! واتسمت الأعمال التي أنتجت في بغداد بالبساطة «فكرة وإنتاجا» فقد أنتجت قناة «العراقية» 3 أعمال، اثنان منها نفذا بنفس الديكور والإكسسوارات والممثلين، مع استبدال اثنين فقط، والعملان هما «يوميات محلة» و«الصيف والدخان» وهذا الأخير آخر ما كتبه الراحل عبد الباري العبودي، ويدور حول العلاقات العائلية والجيران كما في الخمسينات والستينات وبصورة تقليدية نمطية، ويبدو أن النص تعرض للتشريح والتلاعب، وساهم الإخراج المتواضع في إضعافه وتفريغه من محتواه! أما المسلسل الثالث «فرسان المدينة» فيمكن اعتباره أكثر الأعمال تميزا في فكرته وإخراجه، فقد ابتعد تماما عن الصراعات السياسية والعائلية «التقليدية» واتخذ من رجال الشرطة وعملهم في محاربة الجريمة والعلاقات فيما بينهم موضوعا له، وعلى الرغم من أن هذا الموضوع ليس جديدا فقد قدمته السينما العالمية في كارتون وسلسلة أفلام «مدرسة الشرطة» وقدمه الإيطاليون في سلسلة أجزاء تلفزيونية مستمرة للسنة السابعة تحت عنوان «كاري بينيري» فإنه يظل بالنسبة للدراما العراقية أمرا متفردا وسط هذا السيل الجارف من العنف والسياسة والميلودراما المكررة! وقد قدم فيه المخرج السينمائي عدي رشيد «في أول أعماله التلفزيونية» أسلوبا متميزا في الإخراج باعتماد المشاهد القصيرة واللقطات السريعة الإيقاع، والتركيز على المشاعر الإنسانية الطبيعية لشخصياته وتجنب الحوارات الجانبية الزائدة، حيث تعبر الكلمة عن الصورة المشحونة بالقلق والتوتر والانتظار اللانهائي لما هو آت.. ثم الاهتمام بالبيئة كعنصر درامي مهم وجزء لا يتجزأ من التكوين الاجتماعي والنفسي للشخصية الدرامية، واحتوائها بلقطات معبرة، كل ذلك يحرض ذاكرة المتلقي ويخلق رابطا روحيا وعاطفيا، مضافا، بينه وبين ما يعرض أمامه فيجذبه، بالتالي، ويشده للمتابعة. وساهم المونتاج الذكي المدروس في تدفق اللقطات بانسيابية وسلاسة، إضافة إلى الأداء الهادئ المفعم بالإحساس للممثلين «الفرسان، أسعد عبد المجيد، كاظم القريشي، هبة صباح، وسمر قحطان» واستعانته، في مشاهد التحقيقات، بممثلين غير محترفين «من الطلبة أو من الشارع» كمتهمين أو شهود، أضفى على العمل الكثير من العفوية والمصداقية.. ومن المشاهد المعبرة، والذي تكرر من زوايا مختلفة، ذلك المشهد الذي يظهر فيه ظل أحد الحراس منتصبا أمام بوابة حديدية مشبكة، ومن خلال شبكة الحديد يبدو نهر دجلة وديعا مسالما وتظهر وراءه ملامح شاحبة للمنطقة الخضراء، فكأن ذلك الحديد المشبك حماية لتلك المنطقة، وحد فاصل بين عالمين.. يبدو الاقتراب بينهما مستحيلا! وعلى الرغم من حاجة السيناريو إلى الدعم القصصي، مثلا، كابتكار حدث متتابع أو قصة حب وعنصر نسائي إضافي، أكثر فاعلية! فإن مسلسل «فرسان المدينة» قدم وجها جديدا، مختلفا، للدراما العراقية بعيدا عن المبالغات والضجيج، أهملته القناة بعدم الترويج له وخذله وقت العرض، والتوقف لأكثر من مرة! وبهذا العمل كسبت الدراما العراقية مخرجا فذا ذا رؤية فنية واعية وأسلوب حداثي متفرد، ينظر للصورة بعين المشاهد والناقد معا! أما الأعمال التي تصنف تحت مسمى «كوميديا» فإنها تثير الشفقة والبكاء أكثر من أي شيء آخر، لخلوها من أي فكرة أو هدف أو معنى سوى التهريج والإسفاف، وهي في هبوط وانحدار عاما بعد عام! والغريب أن إنتاج تلك الأعمال كان مقتصرا على قناة واحدة أو اثنتين، أما الآن فقد أصبحت ظاهرة، تتنافس أغلب الفضائيات على إنتاجها والبذخ عليها بالأموال والدعاية! ويبقى التساؤل، هل ما تنتجه الفضائيات، في الخارج، يمكن تصنيفه كدراما عراقية؟.. في تلك البيئة البديلة واللهجة الهجين وأركان العملية الفنية، من مخرجين وفنيين ونصف الممثلين، غير العراقيين؟

إن الفضائيات تعرض تلك الأعمال لكونها من إنتاجها وليست لأنها عراقية، ولذلك لا تهمها الروحية أو الهوية العراقية بقدر ما يهمها الرواج والدعاية! والدليل أنه لم يحصل أي تبادل أو تعاون بين الفضائيات لإنتاج أعمال مشتركة، لدعم الدراما وتطويرها، كما تفعل شركات الإنتاج العربية المعروفة.. بل صارت كل فضائية تبحث عمن يحققون لها إرادتها وبأقل التكاليف، سواء كانوا عراقيين أم لا! فارتفعت حمى التنافس بين الفضائيات من جهة والفنانين من جهة أخرى، فكثرت التكتلات واحتدم الصراع بينها، كما في السياسة، مما حدا بالكثير من الأسماء المعروفة، في مختلف الاختصاصات الفنية، إلى الابتعاد عن الساحة! والفضائيات، وهي جهات الإنتاج الوحيدة حاليا، ومن خلال إنتاجها الهجيني المفبرك، تساهم، بقصد أو من دونه، على طمس ومحو هوية الدراما العراقية وجعلها تابعا أو جزءا من هويات أخرى، من أجل الانتشار والرواج والمصالح الشخصية!.. وما ينتج الآن من أعمال، يمكن أن يطلق عليها دراما الفضائيات، كما أفلام المقاولات في السبعينات، وليست دراما عراقية أصيلة!!