«الشبكة الاجتماعية».. محيط من البشر ابتدعه شاب منطو خدع أقرب الأصدقاء إليه

المخرج أثرى مادة فيلم كان من الصعب الاعتقاد بأن أحدا يستطيع صنع عمل ترفيهي مثير وعميق منه

جيسي أيزنبرغ يؤدي بطولة «الشبكة الاجتماعية»
TT

المشكلة لم تكن يوما مولد النجم، بل المشكلة هي بقاؤه نجما لما بعد الرحيل. سعاد حسني، وشارلي شابلن، وجون واين، وفريد شوقي، ومارلين مونرو، وغاري كوبر، وألفرد هيتشكوك، وصلاح أبو سيف، هؤلاء وسواهم كانوا نجوما حقيقيين حين عاشوا وبقوا نجوما، كل في مجاله، إلى أن رحلوا.

مارلين مونرو هي الأخرى نجمة.. ما زالت موجودة. مثيرة للاهتمام. ما فتئت أيقونة تعود إليها السينما ويذكرها الإعلام بتقدير، علما بأنه في حياتها اعتبرها الكثيرون مجرد ممثلة شقراء جميلة وغبية.

حاليا في بريطانيا يصورون فيلما عن زيارتها سنة 1956 عندما اختارها الممثل المسرحي والسينمائي البريطاني لورانس أوليفييه لتشاركه بطولة «الأمير وفتاة الاستعراض». حينها طلب من شخص اسمه كولن، أن يكون تحت تصرفها ومرافقها والجاسوس عليها، وكولن وضع خلاصة تجربته الفريدة مع مارلين في كتاب يستوحي منه الفيلم أحداثه. إنه لا يمكن أن تكون غبية من وصفت تمثال الأوسكار وصفا دقيقا: «صورة لشخص فقد جزءا من رأسه. الجزء الذي يكمن فيه العقل».

أي مارك زوكربيرغ صنع «فيس بوك»؟ زوكربيرغ المرفوض من المرأة؟ زوكربيرغ العبقري؟ زوكربيرغ الخائن لأصدقائه؟ أم زوكربيرغ ذو الروح المغلقة؟

أول وصف له يأتي في مشهد رائع في مقدمة فيلم ديفيد فينشر الجديد «الشبكة الاجتماعية»، عندما تقول له الفتاة التي كان يصادقها: «اسمع.. سوف تصبح شهيرا وثريا، لكنك ستمضي في هذه الغاية معتقدا أن الفتيات لسن معجبات بك لأنهن يعتقدن أنك فريد. وأريد أن أخبرك من أعماق قلبي أن هذا ليس صحيحا. الصحيح هو أنك أحمق».

رائع.. ليس بسبب هذا الوصف، على أهميته، بل لأن المخرج فينشر، صاحب «زودياك» و«قضية بنجامين بوتون الغامضة»، يبدأ مع بداية اللحظة الأولى للصورة كما لو كنا في منتصف الفيلم لا في مطلعه، ولأن المتحاورين مارك زوكربيرغ (جيسي أيزنبرغ) والفتاة إريكا (روني مارا) يجيدان توجيه الكلمات كطلقات رشاش ناري. حوار طويل. محدد الكلمات. سريع الوقع والإيقاع على عكس آخر الكلمات التي تقال في الفيلم، على الرغم من أنها تؤدي المعنى الذي في الكلمات الأولى، حين تخبره محامية شابة: «إنك لست إنسانا عاطلا، فقط تحاول جهدك أن تبدو أحمق».

والكاميرا تنتهي بالتركيز على مارك وهو جالس وحده في غرفة نصف مضيئة وأمامه الكومبيوتر. روح معزولة فوق جزيرتها رغم كل المعطيات التي كان يمكن أن تخلق منه إنسانا اجتماعيا داخل أو خارج الشبكة الاجتماعية التي ابتدعها.

هذا الأحمق هو الذي ابتدع «الفيس بوك».. ذلك المحيط الصاخب بنحو خمسمائة مليون مشترك حول العالم. المجتمع الذي لا يمكن الوثوق بما يرد به، ورغم ذلك أصبح المنبر بين الناس والملجأ لجيل ترك التكنولوجيا تنتصر عليه وتستعبده عوضا عن أن تكون مطواعة له. وهو أصغر ثري في العالم إذ تقدر ثروته بـ25 بليون دولار، وهو لا يزال دون الثلاثين من العمر.. لكن كيف استطاع زوكربيرغ الوصول إلى هذا النجاح هو أمر آخر. في عالم مادي بحت كالذي نعيش فيه، فإن القليلين يكترثون.

انتقل إلى عالم من الحقيقة والفن كما الحال في فيلم ديفيد فينشر الجديد، لكي ترى أن المسألة تستحق النظر، وبالتأكيد تستحق الفيلم.

* صنعه حلم

* الفيلم من سيناريو وحوار شخص بارع اسمه آرون سوركين، ومأخوذ عن كتاب وضعه بن مزريش مستقى من حقائق ومعلومات حول مارك زوكربيرغ وبعض معلوماته وفرها له إدواردو سافيرين، وهو صديق لمارك من جامعة هارفارد. السيناريو يتبلور سريعا حول شخصية زوكربيرغ من دون الوقوع في أسرها ومع الابتعاد كليا عن الوله بها وبنجاحها. هذا ليس فيلما عن كيف تصنع الحلم الأميركي وتعيش سعيدا إلى الأبد، بل عن كيف يصنعك الحلم الأميركي من دون أن يغيرك تماما. يجعلك أكثر ثراء، لكنه لن يبدل ما فيك من خصال سواء أكانت حميدة أو ذميمة.

بعد انصراف إريكا غاضبة نرى زوكربيرغ جالسا مع بعض زملاء الجامعة يستمع إلى فكرة يتداولها الأخوان وينكلوفس (يقوم بهما معا، وبفضل التكنولوجيا، أرمي هامر)، وصديق لهما حول القيام بإنجاز محطة إلكترونية على الإنترنت تكون بمثابة مكان تواصل بين الطلاب الباحثين عن علاقات عاطفية، كل مع الجنس الآخر، من دون اعتماد أسلوب التعارف المعتاد وما يحمله من احتمالات صد وعزوف. زوكربيرغ يعود إلى غرفته ويطلع صديقه إدواردو على الفكرة معترفا بأنه سمعها من الأخوين وينكلوفس، ويطلب منه أن يساعده لتحقيقها. هو سيهتم بالجانب التقني، وعلى إدواردو تأمين ألف دولار لولادة المشروع. حال إنجاز هذه الخطوة التي تبدو من موقعنا اليوم بسيطة للغاية، يكتشف زوكربيرغ نجاحها السريع بين طلاب الجامعة إذ أخذ يؤمها عشرات ثم مئات، مما دعاه إلى توسيع رقعتها لتشمل جامعات أخرى. هنا أفاق الأخوان وينكلوفس وصديقهما على فعلة زوكربيرغ واعتبروها سرقة. ومن هنا هي معركة بين الطرفين يتحول فيها زوكربيرغ إلى فاعل وأصحاب الفكرة الأساسيون إلى منتقدين، لكن زوكربيرغ شخصية معقدة، مثل «الفيس بوك» الذي أسسه قد يكون قريبا منك إذا ما كان بحاجة إليك، أو بقدر حاجتك أنت إليه، وبعيدا عنك لأنه أشبه بشبح ليس له حضور فعلي. ومثله أيضا، يمتلك شخصية منعزلة وغير معزولة. من يدمن «الفيس بوك» يخبرك بأنه في لحظة يصبح على اتصال مع من يريد، لكنه يبقى نقطة في محيط، ونقطة منفردة ليست واثقة من ذلك المحيط. على عكس الصداقات الإنسانية في زمن مضى، فإن العلاقة هنا سطحية واهية وسلعية، ورغم ذلك هي من الانتشار كأي ثورة اجتماعية.

زوكربيرغ، حسب الفيلم، أسس لأسلوب تواصل، بينما تخلو حياته من كل قدرة على التواصل. الرابط الوحيد بينه وبين الآخرين هو كم سيستفيد من وجودهم في مسار حياته. لذلك، وحين بدا له أن إدواردو لن يقدر على الانتقال بهذا المشروع من موقعه الاجتماعي إلى نشاط تجاري مركز ومتطور، يسعى إلى إدخال سواه في اللعبة مستغنيا، ليس عن خدماته وأمواله المحدودة فقط، بل عن صداقته أيضا. شركاء زوكربيرغ الجدد هم رجال أعمال يشاركونه الرغبة في الارتقاء، وهم الذين ساعدوه - كل حسب حصته من الكعكة - للوصول إلى النجاح الذي حققه.

* صورة امرأة

* هذا الانقلاب على إدورادو حدث حين تعرف على شون باركر (جوستين تمبرلايك)، رجل أعمال شاب يعرف كيف ينتهز الفرص ويتسلق السلالم سريعا. حين التقاه زوكربيرغ في مطعم نيويوركي أدرك أنه هو المرحلة الجديدة التي يبحث عنها. أما إدواردو فلم يعجبه شون، وشون أدرك ذلك، لكنه لم يكترث لمجابهة يعلم أنها ستقع لاحقا حين يصبح ذا شأن أقوى في المؤسسة النامية. في ذلك المشهد هناك حركة واحدة تنبئ بشخصية إدواردو غير الواثقة.. بطيبة قلبه وبكونه الأكثر عرضة للأذى بسبب ذلك، شون ينظر إلى صديقة إدواردو ويقول شيئا قصد به أن يكون لماحا لمهارته. إدواردو يسارع لوضع يده وراء كتف صديقته لكي يخبر شون بأنها ملكه. بضم تلك الحركة إلى خلو قلب زوكربيرغ من الحب وفشله في إيجاد الشريك الأنثوي العاطفي المناسب، يكون فينشر قدم لنا مجتمعا ذكوريا جديدا لا يختلف إلا قليلا عن المجتمع الذكوري التقليدي السابق الذي كان يسقط الجانب الإنساني من العلاقة مع المرأة من الاعتبار. إنها (المرأة) متعة. فهمها هو إكسسوار حياتي لا قيمة له. الفتيات اللاتي حول زوكربيرغ وشون و- إلى حد - حول إدواردو، يأتين ويذهبن، لأن هذه هي الطريقة المثلى لمعاملتهن.

لكن الفيلم يقدم صورة أخرى. هناك فتيات لا يدخلن ضمن هذا الوصف، يرفضن أن يظهرن في هذه الصورة، من بينهن إريكا ومن بينهن أيضا المحامية (مطلع الفيلم ونهايته). لكن هذا الطرح لا يستولي على الفيلم أيضا. زوكربيرغ ومنوال حياته وانغلاقه على مصالحه المادية ونبذه للآخر وتعاليه هو ما تتألف منه الصورة. والمخرج يحسن الانتقال بين الحكاية الماثلة وبين النهاية المجسدة. فما هو معروف أمامنا قصة تقع على نحو مزدوج مثل: في غرفة اجتماعات لمؤسسة محاماة يجلس فيها زوكربيرغ ومحاميه في ناحية، وإدواردو ومحاميته ومجموعة الأخوين وينكلوفس ومحاميهم من ناحية أخرى. عبر ما يجري في تلك الغرفة ننتقل إلى مراحل من حياة زوكربيرغ. فالفريق الآخر لجأ إلى القضاء لكي يأخذ حقوقه، وإذ يسرد كل فريق جزءا من الأحداث، ينقلنا فينشر إلى هذا الجزء في مشاهد مصاحبة. بذلك لا يمارس المخرج نقلا بالغ الدقة فنيا وروائيا فقط، بل يثري مادة فيلم كان من الصعب الاعتقاد بأن أحدا يستطيع صنع عمل ترفيهي مثير وعميق منه. وإذا ما كان البعض قال عن أن ستيفن سبيلبرغ يستطيع تحويل دليل الهاتف إلى فيلم مثير، فإن فينشر ينجز هذا بالفعل عبر «الشبكة الاجتماعية».

إنه يذكر بفيلم ألان ج. باكولا «كل رجال الرئيس» (1976)، من حيث قيام الحوار والمشاهد المحبوسة بتسيير دفة الفيلم في إثارة وتشويق فعالين، وفي الوقت ذاته التعليق على مرحلة من حياة البشر. في هذه المرة.. البشر هم نحن الذين انتمينا إلى عصر ربما كان من الأفضل لو أنه لم يقع.