الموسيقار نصير شمة: سأعود للعراق بعد غياب 17 عاما.. وسنفتح بيتا للعود ببغداد

قال لـ «الشرق الأوسط»: «أوركسترا الشرق» في فكرتها وتكوينها لا تختلف كثيرا عن الفرق السيمفونية

الموسيقار نصير شمة
TT

من تجربة موسيقية، هي أكثر من مفاجئة، إلى أخرى يمضي الموسيقار العراقي نصير شمة، حاملا في روحه طموحات كبيرة، وأكثر من أن تحصى أو تحد، محتضنا، مثلما طفلته أو حبيبته، آلته الموسيقية الأثيرة، العود، محققا إنجازات وفتوحات غير مسبوقة في تاريخ الموسيقى الشرقية، ليس أولها تأسيسه لبيت العود في القاهرة ومن ثم في أبوظبي، هذا البيت الذي تتلمذ وتخرج منه مبدعون في العزف على العود موزعين على خارطة عالمنا العربي، ومن ثم تشكيله لفرقة «بيت العود الموسيقية» التي قدمت آخر حفلاتها في مهرجان بعلبك بلبنان، وعلى مسرح دار الأوبرا في القاهرة ضمن فعاليات الملتقى الأول للعود الذي احتضنته وزارة الثقافة المصرية، وليس آخر هذه الإنجازات الإبداعية جمعه لأكثر من 70 عازفا على الآلات الموسيقية الشرقية من مختلف أنحاء العالم ضمن فرقة «أوركسترا الشرق» التي قدمت حفلتها المثيرة في مسقط مؤخرا بمناسبة افتتاح دار الأوبرا السلطانية العمانية.

شمة لا يهدأ، لا يعرف السكينة في داخله فما إن ينتهي من تجربة أو مشروع موسيقي كبير حتى يتهيأ للذهاب إلى مشروعه القادم، يبحث، يجرب، يتدرب، يدرب، هذا غير إشرافه على بيتي العود في القاهرة وابوظبي، غير مهتم على الإطلاق بهجوم ينطلق من هنا أو هناك لينال من إنجازاته من قبل دخيل على الموسيقى أو دعي أو حسود، يقول: «هذا قدر المبدعين دائما في كل زمان ومكان، فهم عرضة للهجوم من قبل فاقدي الموهبة أو أنصاف المواهب أو الأدعياء، وغالبا ما توجه التهم جزافا لهؤلاء الخلاقين في المجالات الفنية والثقافية والعلمية، فلم ينج موتزارت أو غاليلو غاليله أو حتى المتنبي من الاتهامات والهجوم، وأنا لا أضع نفسي بمصاف هؤلاء المبدعين الكبار، لكنني أتلقى قدرا من الكلام الفارغ من الصغار ولا ألتفت إليه، أنا انشغالاتي بالموسيقى والشعر والقراءة والتفرغ لإنجاز ما هو إبداعي لأقدمه للموسيقى العربية والشرقية بل وحتى العالمية».

ومنذ أن بدأ مشواره مع الموسيقى كطالب في واحدة من أرقى الأكاديميات الموسيقية في عالمنا العربي (معهد الدراسات النغمية) الذي كان يشرف عليه شخصيا الموسيقار الكبير، الراحل، منير بشير، وشمة يشغل الوسطين الثقافي والموسيقي ببحوثه وإنجازاته المفاجئة، ففي بداية الثمانينات أعلن عن تحقيقه لمخطوطة الفارابي وإنجاز العود بستة أوتار ليثير النقاشات والسجالات حتى اليوم حول هذا العود، يقول لـ«الشرق الأوسط» التي التقته في مسقط، وحادثته عبر الهاتف في أبوظبي حيث كان منشغلا ببيت العود هناك، متحدثا عما تحقق من طموحاته وأحلامه: «في عام 1985 أسست فرقة البيارق في بغداد وأيامها كنت في السنوات الأخيرة بدراستي في معهد الدراسات النغمية ومنذ ذلك التاريخ وأنا أحلم بجمع آلات الشرق بأوركسترا توازي الأوركسترا الغربية ولكن بهوية الشرق المتنوّع وثقافاته المتعددة وآلاته الموسيقية النادرة، ومنذ 13 عاما عند دعوتي لمصر وبحديثي الأول مع الفنان فاروق حسني وزير الثقافة بمصر تحدّثنا عن هذا الحلم وطرحت عليه فكرة الأوركسترا واستمر الحلم عند تأسيسي لبيت العود العربي بالقاهرة عام 1998، إذ بدأت بدعوة العازفين الكبار على آلات الشرق لتقديمهم لطلبتي وللجمهور وأيضا لتتواصل الثقافات كالهندية والباكستانية والصين مع جمهورنا العربي وكل الدول التي تملك عمقا حضاريا وثقافة خاصة، وتواصلت بالعمل مع مختلف العازفين في كل حفلة إلى أن أصبح لدي قائمة كبيرة بعدد العازفين الذين تميزوا ما بين الشرق الأقصى والأدنى والأوسط، وجاء الوقت لجمعهم منذ أربعة أعوام في إطلاق أوركسترا الشرق بمهرجان أبوظبي للموسيقى والفنون والحفل الثاني الذي أقيم مؤخرا بمناسبة افتتاح دار الأوبرا السلطانية في مسقط».

شمة يشتغل على أكثر من مشروع في آن واحد، وماسكا أكثر من تفاحة بيد واحدة، فما بين العود الذي يعشقه، وأوركسترا الشرق هناك العديد من المشاريع المهمة، في مقدمتها فرقة بيت العود التي يقول عنها: «إن مجموعة (بيت العود العربي)، تعتبر من أولى الفرق المختصة في آلة العود وعائلتها المكونة من عود (سبرانو) إلى عود (باص) و(العود ذي الرقبة الطويلة) أو (البزق)»، وهذه الفرقة، كان قد أسسها شمه جامعا عددا من خريجي «بيت العود العربي»، وهو المشروع الرائد الذي عمل عليه منذ أكثر من عشر سنوات عبر خطوات مدروسة ومتميزة.

ماضيا في الحديث عن تفاصيل فرقة بيت العود، بقوله: «هذه الفرقة تتكون من عازفين من خريجي (بيت العود) في القاهرة و(بيت العود) في أبوظبي، وهم ينحدرون من أقطار عربية مختلفة، لذلك هي فرقة عربية بحق تجمعهم آلة العود بأنواعها»، وعندما يقول هذا الموسيقار المتميز «آلة العود بأنواعها» فعلينا أن نتوقف قليلا لنستوضح ماهية أنواع العود ما دمنا لا نعرف سوى آلة عود عربية واحدة شائعة، لكنه يوضح بإسهاب قائلا: «نعم، كانت هناك آلة عود واحدة، لكن اليوم وبفضل دراساتي وبحوثي الطويلة التي تمتد لأكثر من 12 عاما، صار هناك العود المثمن، أي العود ذو الثمانية أوتار، وقبل بلوغ هذه المرحلة كنت قد حققت في العراق مخطوطة قديمة للفارابي عن عود ذي ستة أوتار بعد أن كان شائعا عود الأربعة أوتار»، وهناك صانع عود عراقي أبدع عود «السبرانو» وهو حاصل على براءة اختراع في هذا العود، ثم خططت وأبدعت عود «الكونترباص» وهو بحجم آلة الكونترباص الغربية، وعود «باص» أضخم من العود الحالي وبحجم آلة «الجلو» الغربية ويتمكن العازف من احتضانه، وقد تمكنا من تصنيع عود «الكونترباص» في ورشة «بيت العود العربي» في القاهرة، وهناك تجارب للعزف على العود بالقوس بحيث يأتي صوته ممتدا.

في الحفل الذي قاد فيه شمة اوركسترا الشرق جمع أكثر من سبعين عازفة وعازفا من جميع أنحاء العالم في تجربة موسيقية على الآلات الشرقية، وليقدموا مقطوعات من تأليفه. عازفون تناغمت موسيقى آلاتهم الشرقية في هارموني واحد ومن خلال مؤلفات تبرهن أن روح الشرق واحدة وإن اختلفت الأقطار واللغات.

و«اوركسترا الشرق» في فكرتها وتكوينها لا تختلف كثيرا عن الفرق السيمفونية الغربية، إذ يريد هذا الموسيقار الشاب أن يقول للعالم إن هذه الموسيقى تنبعث من آلات موسيقية يتجاوز عمر بعضها الخمسة آلاف عام. الجوزة مثلا التي يعود تاريخها إلى العصر البابلي، والعود الذي ترجع أصوله إلى الأكاديين في وادي الرافدين، والسيتار الذي ينتمي بقوة إلى حضارة السند الهندية، والسنطور السومري الذي وصلنا من أور ليكون الأب الحقيقي لآلة البيانو الغربية، والناي الذي كان سيد الآلات الموسيقية في العصر الفرعوني بمصر، والليرة التركية، والطنبور الذي أنعش ليالي الطرب العثمانية. آلات موسيقية قد تبدو غريبة، لكنها تنتمي إلى عائلة الوتريات الشرقية في الغالب. تختلف مسمياتها، لكنها تبعث ذات الشجن المخزون في تكوينات متراكمة عبر قرون من التأسيس والإبداع. كانت هذه الآلات تعزف منفردة في مواطنها الأصلية وعلى أيدي أبنائها، إلا أن الموسيقار شمة استطاع أن يلملمها من حضارات شرقية مختلفة ويوحد أنغامها وأصواتها في مؤلفات تقترب في روحيتها من مقطوعات سيمفونية شرقية، ولتقترن هذه الانطلاقة غير المسبوقة بسلطنة عمان وعاصمتها مسقط التي رعت هذه الولادة الإبداعية في تاريخ الموسيقى.

يوضح شمة قائلا: «لقد تمت دراسة أبعاد كل آلة موسيقية في هذه الفرقة لتوظيفها أفضل توظيف ضمن الأوركسترا واستغرق هذا وقتا طويلا نسبيا بسبب أن هذه الآلات تتغير من عازف إلى آخر، مثلا آلة السيرنجي الهندية أو الطنبور التركي أو الليرة بين تركيا واليونان والسنطور العراقي والسيتار الهندي والبيبى الصيني، والكمنشة الإيراني، بالإضافة إلى الأعواد والقوانين والبزق والبزوكي، الرباب الأفغاني والجوزة العراقية، وغيرها من الآلات بعضها شهير وبعضها كان جديدا على المستمع العربي»، منبها إلى أن «معظم العازفين الذين يشاركون في اوركسترا الشرق هم مشهورون بأدواتهم الموسيقية ولديهم مشاركات على مستوى العالم، وأبرزهم: روس دالي الذي يعزف على آلة الليرة التركية اليونانية، وعازف السيتار أشرف شريف خان من باكستان، وعازف السنطور العراقي وسام أيوب وعازف القانون المصري - صابر عبد الستار، وعازف الطبل الباكستاني شهباز، وعازف السيرنجي الدكتور دروبا، وعازف البزق السوري أحمد التشب، وعازف الجوزه العراقي أنور أبو دراغ، وعازف العود المصري حازم شاهين، وعازف الناي هاني البدري».

موضحا أن الهدف «من جمعهم هو إعلاء شأن الشرق ثقافيا، من خلال موسيقاه التي تمثل روح الشرق وبكثافة البروفات التي ابتدأناها منذ أشهر من خلال توزيع النوتات على العازفين ليطلعوا ويتمرنوا عليها ودائما هناك عشر بروفات تسبق كل حفلة لإظهار العمل بشكل احترافي وعميق»، معبرا عن اعتقاده بأن «هذه المجموعة وآلات الشرق قادرة على أن تؤسس أوركسترا بهوية الشرق تماثل الأوركسترا الغربي دون أن يقلده، وهذه هي البداية التي قدمناها في مهرجان أبوظبي للموسيقى الكلاسيكية والفنون في عام 2008، ومؤخرا في مسقط، ولدينا دراسات عديدة مع أمهر العازفين لتطوير أحجام مختلفة من بعض الآلات لتشكل أوركسترا تنسجم فيزيائيا وتنجح بوضع مقاييس دقيقة لإتلاف هارموني»، منبها إلى أن «هذه الاوركسترا ستحتاج إلى أصوات غليظة مثل الكونتر باص والجلو وآلات النفخ وفعلا حققنا أول آلة عود باص كبير استعنا بخبرات صانع العود ربيع حداد من لبنان، وصانع العود المصري عمر فوزي والذي يشرف على ورشة بيت العود في أبوظبي، وتمت بنجاح وبحرفية عالية صناعة آلة الباص، وهذا ما قصدته بأن الدراسات متواصلة لتصبح بحق اوركسترا محسوبة وظيفة ذبذبات كل آلة بما يتناسب وعدد الآلات تجاه بعضها البعض، وبالنسبة لآلات النفخ فما زالت التجارب متواصلة مع عازف الناي هاني البدري، بإيجاد بدائل مع الناي لتتسع مساحة آلات النفخ في الأوركسترا بالإضافة إلى الكونتر باص الذي ابتكره مايلز جاي الأميركي الذي صمم آلة من جلد البقر تشابه العود القديم الذي ظهر 2350 ق.م في العصر الأكادي التي شارك بهذه الآلة معنا في حفل مسقط».

شمة المهتم والمنشغل بالتجديد والبحث بين المخطوطات والكتب وورش (اسطوات) صناع الآلات الموسيقية، أشرك في اوركسترا الشرق آلات موسيقية حديثة مطورة عن آلات أصلية تراثية، مثل الليرة التركية التي طورها روس دالي بخبرة صانع آلات موسيقية استرالي، وكذلك آلة الجوزة التي عزف عليها نورس الفريح، والسنطور الذي طور أبعاده وقياساته وسام أيوب وهندرين حكمت، يقول شمة: «أنا منفتح على كل الأفكار التي نصل من خلالها إلى نتائج جديدة، وبالاستعانة بتجارب زملائي الذين ذكرت أسماءهم حتما سنوفق في العشر سنوات القادمة إلى الشكل الذي نطمح إليه والذي سيمثلنا أفضل تمثيل، ذلك أن مجال التجريب ما زال يمنحنا فرصة كبيرة للغوص بأعماقنا وبثقافتنا وبأدواتنا الموسيقية والعود كما تعلم هو عنوان لحضارات بلاد بين النهرين ووادي النيل وما بينهما، وهذا الإرث الكبير الذي نقف عليه هو الذي يمنحنا القوة والجرأة في المحاولة نحو التغير لإظهار موسيقى تمثل رؤيتنا المعاصرة للموسيقى تتصل بهذا الإرث وتنفصل عنه».

المؤلفات التي عزفتها اوركسترا الشرق في حفل مسقط كانت جميعها من تأليف شمة، وهي: تحية، جدارية الحياة، أرض الإسراء، مولانا جلال الدين الرومي، زمان النهاوند، بنفسج الأنامل، الشيخ وأنا، والعمل الذي ألفته في مسقط عنوانه رحلة الأرواح، وأخيرا على جناح فراشة.

ويكشف الموسيقار شمة بأن «اوركسترا الشرق ستعزف قريبا جدا في مدينة السليمانية شمال العراق وقلب كردستان العراق، وبمشاركة العازفين العراقيين الذين شاركونا في الحفلين الماضيين وهذه ستكون الزيارة الأولى بعد سبعة عشر عاما من مغادرتي العراق، ولدي شوق عظيم بتقديم كل ما أنجزته من أعمال طوال سنين الغربة، وخصوصا أن هناك مشروع افتتاح بيت العود في قلب بغداد بعد أن تم تخصيص بيت أثري بشارع حيفا لتخريج العازفين المهرة وليكون مقرا لبيت العود العربي في بغداد».