محمود المليجي.. المواطن السينمائي الأول

مهرجان القاهرة يهدي إليه دورته

محمود المليجي
TT

مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي يفتتح الثلاثاء المقبل يهدي دورته رقم «34» إلى كل من محمود المليجي وأمينة رزق، بمناسبة عيد ميلادهما المئوي.. ورغم العطاء الخصب لأمينة رزق التي تركت بصمة لا تمحى في الحياة الفنية فإن اسم محمود المليجي يظل هو العنوان الأكثر تعبيرا عن التمثيل السينمائي.. إنه الوجه الأكثر تكرارا وعمقا في السينما المصرية، يكفي أن نذكر أنه قدم 700 فيلم روائي وهو ما يتجاوز 20% مما أنتجته السينما المصرية طوال تاريخها، وهو رقم غير مسبوق إلا أن قيمة محمود المليجي تجاوزت الكم إلى الكيف، فلا شك أنه ترك بصمات لا تمحى في تاريخنا السينمائي.. صحيح أنه لم يكن طوال مشواره نجما للشباك، ولكنه بهذا التكريم الاستثنائي في هذه الدورة أصبح هو النجم الأول.

التصق به لقب شرير السينما المصرية، ورغم ذلك فأنا أراه دائما يتجاوز التعبير عن وجه واحد فقط من الإبداع، فهو أيضا من الممكن أن يصبح زعيما في عالم الخير.. دولته الإبداعية امتدت تخومها إلى كل الأطياف الدرامية لتجده وقد استقر رمزا لها، فأنت عندما تقول السينما المصرية، يقفز أمامك على الفور اسم محمود المليجي.. إنه المواطن السينمائي الأول.. «آدم» السينما المصرية!! أين يكمن سر وسحر محمود المليجي.. إن كل لمحة من إبداعه من الممكن أن تقدم لنا مفتاحا وتكشف لنا لغزا.. محمود المليجي بحساب السنين كان شاهد إثبات على بداية تاريخ السينما المصرية.. ثم إن محمود المليجي صاحب مساحة عريضة امتدت نحو نصف قرن من الزمان لم يغادر خلالها موقعه في البلاتوه ولم يسمح له الجمهور بأن يترك مكانته على الشاشة.. إنه بالأرقام - كما سبق أن ذكرت - صاحب أعلى رقم عرفته السينما للنجوم حيث شارك في بطولة 700 فيلم أي نحو 20% من كل إنتاج السينما المصرية!! ولكن من قال إن الفن بالحساب والعدد والأرقام فقط.. إن هذا يمثل بُعدا واحدا للصورة ويبقى الأهم والأقوى تأثيرا من الحجم إنه العمق.. يبقى التنوع.. يبقى التأثير.. يبقى.. يبقى.. يبقى.. أشياء كثيرة تبقى نحاول الإمساك بها!! ولد محمود المليجي عام 1910 في حل المغربلين، وهو أحد الأحياء الشعبية بمدينة القاهرة.. كانت أمنية محمود المليجي أن يصبح مطربا في المدرسة الخديوية الثانوية، غنى وطرده أستاذ الموسيقى في تلك السنوات - نهاية العشرينات - الموسيقار محمد عبد الوهاب لأن صوته نشاز.. ملحوظة نفس هذا الموقف تكرر مع الأخوين مصطفى وعلي أمين والشاعر مأمون الشناوي والروائي إحسان عبد القدوس، كانوا جميعا أصحاب الأصوات النشاز وطردهم عبد الوهاب من حصة الموسيقى ليصبحوا بعد ذلك علامات في مجالات إبداعهم المختلفة!! بعد ذلك عرف المليجي طريقه وهو التمثيل، وبدأت حياته الفنية مثل الكثيرين مقلدا أساتذته في الفصل الدراسي، سوف نلاحظ أن التقليد هو بداية أغلب الممثلين، ومر زمن ليصبح المليجي هو الهدف الأول للمقلدين، لما يتمتع به من ملامح صوتية وشكلية وأدائية مميزة، وهكذا مثلا تعرف الناس على أحمد زكي لأول مرة عندما قلد المليجي في مسرحية «هالو شلبي».. أول من تبناه فنيا هي الفنانة الرائدة فاطمة رشدي، حيث التحق بفرقتها المسرحية منذ نهاية العشرينات وشاركها أول أفلامها «الزواج» عام 1933، هذا الفيلم بعد أن شاهدته فاطمة رشدي، لم يعجبها أداؤها وقامت بحرق نسخة الفيلم الوحيدة، ولكنه ظل محتفظا بقيمته التاريخية، مشيرا إلى أنه أول ظهور للمليجي سينمائيا.. التحق بفرقة إسماعيل ياسين المسرحية، وشارك في كتابة عدد من الأفلام مثل «سجين أبو زعبل».. قال عنه يوسف وهبي، محمود المليجي هو الممثل الوحيد الذي أستطيع أن أقول إنه أفضل من يوسف وهبي!! عندما انتعشت السينما المصرية وبدأ الإنتاج السينمائي يزدهر في الأربعينات كان الاتجاه المبدئي هو أن يتم تقسيم الممثلين إلى طيبين وأشرار.. الطيبون ملامحهم هادئة ونظرتهم مستكينة، بينما الأشرار ملامحهم حادة ونظراتهم أكثر حدة، وعلى هذا أصبح المليجي تبعا لهذه القسمة من الفريق الثاني، ويقف في مقدمة الصف.. لم يقاوم المليجي، اعتبر هذه القسمة مثل القضاء والقدر، ورغم ذلك استطاع أن يحتل مقدمة الطابور ويصبح «الألفة» بين الأشرار الذين بمجرد أن ترى ملامحهم تتأكد أنهم سوف يدبرون الجريمة، فكان المليجي هو الشرير الأول والمجرم الدائم على شاشة السينما، رغم أن كل من عرفوه أكدوا أنه كان يخاف من خياله!! هل كان محمود المليجي مجرد ملامح تنضح بالشر.. أم أنه يمتلك شيئا أبعد؟ من المؤكد أن قوة التأثير عند الجمهور لا تخضع فقط لقسمات الوجه ونبرات الصوت، إن هناك الإحساس والإشعاع اللامرئي بين الممثل والجمهور، ومحمود المليجي كان لديه هذا الفيض من الجاذبية التي تتيح له أن يمتلك مشاعر الناس.. وهكذا انطلق المليجي، في أفلام «غزل البنات»، «السجينة رقم 17»، «أمير الانتقام»، و«من القلب للقلب»، و«البيت الكبير»، و«سجين أبو زعبل»، و«الحب الضائع»!! بمقياس شباك التذاكر لم يكن محمود المليجي نجما يقطع له الجمهور تذكرة الدخول إلى دار العرض.. لقد عاصر محمد المليجي فترات ازدهار كل نجوم السينما المصرية ومن كل الأجيال؛ يوسف وهبي، ونجيب الريحاني، وأنور وجدي، ويحيى شاهين، وكمال الشناوي، وفريد شوقي، وعمر الشريف، ورشدي أباظة، ومحمود ياسين، ونور الشريف، ومحمود عبد العزيز، وأحمد زكي.

ما الذي كان ينقص محمود المليجي لكي يصبح نجما للشباك والاسم الأول على الأفيش وفي التترات.. مهما حاولنا أن نعثر على أسباب منطقية لمقومات نجم الشباك لن نستطيع سوى أن نحيلها إلى إرادة لا شعورية تتجمع في لحظة داخل مجتمع فيتجهون إلى هذا الفنان ليصبح معبرا عنهم سواء كان مطربا أو ممثلا.. نجومية شباك التذاكر لم تكن هي المعبر عن الموهبة أو تفردها، وهكذا يعشق الجمهور محمود المليجي، لكنه لو قرأ اسمه متصدرا التترات لا يقطع من أجله تذكرة الدخول لدار العرض.. كان المليجي هو أستاذ فريد شوقي يكبره بنحو 12 عاما وعندما بدأ فريد في الأربعينات أداء دور الشرير على طريقة أستاذه المليجي.. كان المنتجون يرون في فريد بديلا له، وهكذا كانت الأدوار تعرض أولا على المليجي وعندما يرفضها يذهبون إلى فريد شوقي.. وبلغ تسامح المليجي أنه كان بعد الرفض يسارع بالاتصال بفريد يؤكد له اعتذاره حتى يتمكن فريد من رفع أجره لأنه لا بديل للبديل!! يمر زمن بعدها لا يتجاوز السنوات العشر ويصبح فريد منذ مطلع الخمسينات نجما جماهيريا وسوبر ستار يقطع له الجمهور تذكرة السينما، بينما أستاذه لم يتصدر اسمه الأفيش أبدا.. حتى فيلم «الأرض» الذي ينسبه الجميع إلى محمود المليجي سوف تكتشف أن اسم نجوى إبراهيم كان يسبقه على التترات؟! ولكن ما يتبقى مع مرور الزمن ليس التترات ولا الأفيشات إنه الشريط السينمائي وهكذا ظل المليجي، هو الفنان الذي لا يمكن أن ننسى إطلالته على الشاشة حتى لو جاء اسمه في المركز الثالث أو الثامن.. ودعونا نتذكر بعض لمحات هذا الفنان الاستثنائي!! أحيانا تصبح قوة تأثير الفنان أكبر من الدرجة المطلوبة وربما أدى ذلك إلى قدر من التعاطف مع الشخصية الدرامية التي يؤديها الفنان تخصم من التأثير العام المطلوب من العمل الفني.. لقد حدث ذلك مرة مع محمود المليجي في فيلم «غروب وشروق» وكادت نظرات المليجي من فرط الصدق أن تؤدي إلى انقلاب في المعنى السياسي للفيلم من الرفض للبوليس السياسي إلى التعاطف الإنساني مع رجل البوليس السياسي.. تم تشكيل لجنة متخصصة من مخرج الفيلم «كمال الشيخ» والمونتير «سعيد الشيخ» كاتب سيناريو وحوار الفيلم «رأفت الميهي»، وكان السؤال لماذا انقلب الإحساس من الرفض إلى التعاطف اكتشفوا أنها نظرات المليجي لسعاد حسني في المشهد الأخير، وهكذا قرر الثلاثة اختصار زمن اللقطة!! لم يتوقف عطاء محمود المليجي، عند جيل واحد فقط فلقد ساند الجميع.. طالما استشعر محمود المليجي الموهبة عند أي فنان فهو يدفعه للمقدمة.. من المؤكد أن محمود المليجي كان يشكل ليوسف شاهين حالة إبداعية خاصة.. لقد قال يوسف شاهين بعد رحيل محمود المليجي، كنت أرى فيه صورة أبي.. إن العلاقة الفنية بينهما حملت قدرا من الخصوصية ليست فقط الأبوة بمعناها المباشر بقدر ما هو الارتباط الذي يعني امتزاج الدماء الفنية.. وهكذا كان المليجي يشكل الحالة الإبداعية التي يحلم بها يوسف شاهين في أفلام مثل «ابن النيل»، و«جميلة»، و«حب للأبد»، و«الناصر صلاح الدين»، و«الأرض»، و«الاختيار»، و«الناس والنيل»، و«العصفور»، و«عودة الابن الضال»، و«إسكندرية ليه»، و«حدوته مصرية».. 11 فيلما أي نحو 30% من أفلام يوسف شاهين، كان المليجي مشاركا في البطولة.. إنها كيميائية خاصة جدا بينهما.. في تصريحات كثيرة ليوسف شاهين يؤكد أنه هو الذي صنع هذه الموهبة والحقيقة أن بعض المواهب مثل محمود المليجي، تشبه الأوتار النادرة تحتاج فقط إلى عازف يستطيع أن يستخرج منها أعظم الأنغام!! بأداء لا يزال يملك الكثير من السحر قدم محمود المليجي دوره في فيلم «الأرض».. «محمد أبو سويلم» في مشهد محاكمة الآخرين ومحاكمة النفس ومحاكمة التاريخ.. بكل أستاذية كانت تتغير ملامحه ونبرات صوته وهو يواجه يحيى شاهين وعبد الرحمن الخميسي وعزت العلايلي وحمدي أحمد.. ولأن الحوار الذي كتبه حسن فؤاد يملك موسيقية الشعر فإنه في كل مقطع ينتهي إلى نفس اللازمة «كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة».. كان المليجي في أدائه مثل ألوان «قوس قزح» تتكامل في هرمونية تنتهي إلى نفس اللازمة.. إنها نظرة ساخرة تقول الكثير لكنها في نفس الوقت تملك روح الإشفاق والتعاطف.. إنها تتهم وتلعب دور وكيل النيابة ثم تصبح المحامي وتترك للمتفرج أن يلعب هو دور القاضي الذي يصدر الحكم.. مشهد ثان في فيلم «إسكندرية ليه» ليوسف شاهين أشعر أيضا أنه أخذ نفس الإيقاع الموسيقي الذي يعود دائما إلى نفس اللازمة حيث كتب السيناريو والحوار محسن زايد، اللازمة هذه المرة هي كلمة «وعايزني أكسبها».. إنه هذه المرة المحامي الذي يدين المجتمع.. نعم يعلم أن أحمد زكي لن ينجو من حكم جائر ولهذا تزداد جرعة السخرية المشوبة بالمرارة وهو يكرر و«عايزني أكسبها»!! كان محمود المليجي، يعلم أن قانون السينما لا يتيح له الكثير من الأدوار الجيدة وأن المتاح أمامه من الفن الجميل قليل.. لكنه في نفس الوقت لا يرضى لنفسه أن ينتظر في البيت حتى يأتي له دور مثل «محمد أو سويلم» ولهذا كان يقبل الاشتراك في أفلام متوسطة فنيا وفي أدوار لا تتيح كل إمكانيات التعبير وكان يبرر هذا الموقف قائلا أفضل أن أصبح جنديا صغيرا في الميدان على أن أكون جنرالا متقاعدا خارج الخدمة.. وظل محمود المليجي في الميدان وحتى النفس الأخير لم يترك موقعة.. وهكذا جاءت نهايته أمام الكاميرا جنديا وجنرالا في الميدان في 7 يونيو (حزيران) عام 1983.. كان يشترك مع عمر الشريف في بطولة فيلم «أيوب» وقبل أن يبدأ التصوير كان يتناول فنجان القهوة مع عمر الشريف ثم نفذ السر الإلهي ليؤكد أن الأشجار العظيمة تموت واقفة!! تزوج محمود المليجي من الفنانة العظيمة الراحلة علوية جميل.. كانت قادرة على احتوائه عندما رحلت والدته ساندته ماديا وأدبيا، ولم ينس لها هذا الموقف ووجد نفسه يتجه إليها لا يدري كيف احتوته ووصلت إلى حدود السيطرة.. ورغم ذلك تزوج عليها مرتين الأولى لم تدم طويلا من فنانة مسرحية مغمورة، عندما علمت علوية بهذه الزيجة قالت له طلقها يا محمود، وبالفعل ذهب إليها في المسرح ورمى عليها يمين الطلاق.. سألته الممثلة لماذا؟! أجابها هذه أوامر علوية.. بعد ذلك في نهاية السبعينات تزوج مرة أخرى من سناء يونس، التي يعتقد الكثيرون أنها رحلت وهي عانس.. ظلت على ذمته حتى رحيله.. أتذكر أنني التقيتها بعد رحيل المليجي وأجريت معها حوارا حكت فيه كل تفاصيل حياتها مع محمود المليجي، ولكن قبل النشر اتصلت بي وطلبت مني ألا أكتب شيئا فلم ترض هي أيضا أن تغضب زوجته علوية جميل، ولكن قبل رحيل سناء يونس التقيت بها وذكرتها بالشرط فقالت لي «يا ريتك ماسمعتش كلامي وكنت نشرته»!! إن الشمس إذا غابت لا تأفل ولكن تحتجب عن أعيننا وتظل في دورانها إلى الأبد، وكذلك الفنان إنه لا يذهب عنا بالموت ولكنه يغيب ليتحول من مظهر في الحياة إلى جوهر للحياة.. وهكذا محمود المليجي تجاوز مكانته ليتحول من مظهر للفنان إلى جوهر للفن ليحمل لقب «آدم» السينما المصرية، فهو السينمائي المصري الأول الذي يستحق عن جدارة أن يهدي إليه مهرجان القاهرة تلك الدورة ليصبح هذه المرة بلغة السينما هو نجم الشباك!!