أنزور وساندرا ينسحبان من لجنة تحكيم «مهرجان دمشق»

وسط تساؤل .. هل ستظل مناقشات لجان التحكيم سرية ؟

TT

بمرونة وذكاء استطاع الناقد محمد الأحمد، مدير «مهرجان دمشق السينمائي الدولي» أن يعبر أزمة انسحاب عضوين من لجنة التحكيم قبل ساعات قليلة من إعلان النتائج، حيث إنه لم يغفل ليلة الختام وهو على خشبة مسرح الأوبرا السورية من إعلان تلك الحقيقة التي تم تناقلها في أروقة وكواليس المهرجان عندما أكد كل من نجدت أنزور المخرج السوري، وساندرا نشأت المخرجة المصرية، انسحابهما، ورفضا التوقيع على البيان الختامي للجنة التحكيم، بينما باقي الأعضاء البالغ عددهم تسعة قد وقعوا على النتيجة! لم يكتف العضوان المنسحبان باتخاذ موقف، ولكن خرج نجدت في مؤتمر صحافي في صباح اليوم التالي لإعلان النتائج مؤكدا أسباب اعتذاره التي تلخصت في ديكتاتورية المخرج الروسي رئيس اللجنة، فلاديمير ميتشوف، واتهمه بأنه حاول فرض آرائه من البداية وأوقف المناقشات بحجة أنه ينبغي أن يمنح جائزة لسينما البلد المضيف، سورية، وأن باقي الجوائز يجب أن تعبر عن التوجه السياسي لسورية، أي تمنح أيضا للدول الصديقة، يقصد التي لها صداقة مع سورية! في العادة فإن مناقشات أعضاء اللجنة لها سريتها، ولا يمكن الإفصاح عن التفاصيل ولا عما جرى، من الذي انحاز لهذا الفيلم أو ذاك ومن الذي وافق على قرارات اللجنة.. إنها مناقشات سرية ولكن كثيرا من لجان التحكيم تسربت نتائجها والبعض لم يكتف بالتسريب، بل حرص على إعلان مواقفه المبدئية رغم أنه ينبغي أن تظل المناقشات والمداولات سرية بعيدة عن التداول الإعلامي، وهذه القاعدة لا تمس، فلا ينبغي مثلا أن يعرف الناس من الذي انحاز إلى هذا الفيلم ومن الذي رفضه، خصوصا أن هناك قدرا كبيرا من الحساسية كثيرا ما يعلن عن نفسه، وأيضا كثيرا ما تتدخل العوامل السياسية في الاختيارات.

على الرغم من أنه - تاريخيا - لا يمكن فصل السياسة عن الفن، وأن المهرجانات الفنية انطلقت وهي تحمل من البداية مواقف سياسية، مثلا فإن موسوليني الطاغية الإيطالي هو الذي أطلق مهرجان البندقية فينيسيا في ذروة المواجهة بين «دول المحور» و«دول الحلفاء».. كان المهرجان يعبر بالتأكيد عن موقف سياسي، وتتابعت بعد ذلك المهرجانات الكبرى، منها مثلا مهرجان كان في فرنسا يعبر عن موقف الحلفاء كرد فعل لفينيسيا.. كثير من الاختيارات الفنية تحمل توجها سياسيا.. «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» الذي انطلق عام 1976 باعتباره أول مهرجان رسمي في الشرق الأوسط كانت الدولة المصرية لديها معلومات أن إسرائيل تريد أن تحظى بإقامة أول مهرجان يتبع الاتحاد الدولي للمنتجين، أي أنه له مظلة دولية رسمية، وعلى الفور تدخلت السلطة السياسية في مصر وقتها - الرئيس السادات - على مشروع تقدم به الكاتب الراحل كمال الملاخ باعتباره رئيسا لجمعية كتاب ونقاد السينما المصريين، وانطلق المهرجان، ولهذا حرصت الدولة وقتها على أن يفتتح تلك الدورة ممدوح سالم، رئيس مجلس الوزراء الأسبق. المعروف أن أعرق مهرجان عربي هو «قرطاج» الذي انطلقت دورته الأولى عام 1966، أي قبل مهرجان القاهرة بعشرة أعوام، وهو له أيضا توجه جغرافي يعبر عن موقف سياسي، حيث إن مسابقته الرسمية قاصرة على الدول العربية والأفريقية، وهذه هي المساحة الجغرافية التي تعبر عنها اختياراته ولكن «مهرجان قرطاج» ليس تابعا للاتحاد الدولي للمنتجين، وهو بالطبع أحد المهرجانات التي لها مصداقية وقيمة دولية وعربية وأفريقية، ولكنه لا يتبع الاتحاد العالمي للمنتجين الذي يلتزم بقواعد ويضم تحت مظلته أكبر المهرجانات مثل «كان»، و«برلين»، و«فينيسيا»، و«سان سباستيان».. أيضا «مهرجان دمشق» الذي انطلق عام 1979، بعد مهرجان القاهرة بثلاثة أعوام، كان لديه شعار يحرص عليه حتى مطلع التسعينات، وهو «سينما من أجل التحرر والتقدم»، وكانت حدود الاختيارات السينمائية تنطلق فقط جغرافيا من آسيا وأفريقيا ودول أميركا اللاتينية وتستطيع أن ترى الموقف السوري السياسي هنا يؤثر على توجه المهرجان.. بعد ذلك يصبح شعار المهرجان في مطلع الألفية الثالثة «دمشق تحتضن العالم»، وذلك بعد أن صار هذا هو الأقرب إلى التوجه السياسي السوري الذي فتح الباب أمام كل الأفلام السينمائية من أغلب دول العالم في أوروبا وأميركا، لأنه قبل ذلك كان يعرض فقط أفلام ما كان يعرف حتى عام 1991 بأوروبا الشرقية، قبل أن ينتهي هذا التقسيم الجغرافي! السياسة دائما تلعب دورها في الثقافة، ولكن تظل لجان التحكيم بمنأى عن أي صفقة سياسية، هذا هو الذي يمنح المهرجان مصداقيته.. بالطبع نحن لا نعرف ما الذي جرى تحديدا في لجنة التحكيم بـ«مهرجان دمشق» ولكن إعلان عضوي اللجنة نجدت وساندرا كان كافيا لتوضيح توجهات رئيس اللجنة، التي حاولت أن تمنح الجوائز بإرادة سياسية، على الرغم من أن ساندرا مثلا أعلنت أنها متحمسة للفيلم الجزائري «خارج عن القانون» الحاصل على الجائزة الكبرى في المهرجان، وهو أيضا الحاصل على جائزة أفضل فيلم من لجنة تحكيم الأفلام العربية في دمشق، ولا أتصور أن لجنة التحكيم استشعرت مثلا أن العلاقات الجزائرية - السورية على خير ما يرام فتمنحه الجائزة، ولكن الفيلم يستحق بالتأكيد الجائزتين وسبق عرضه في مهرجان «كان» في دورته الأخيرة، رغم مظاهرات الغضب، خصوصا من اليمين الفرنسي، ضد الفيلم، كما أنه عرض في افتتاح «مهرجان الدوحة» قبل أيام قليلة من «مهرجان دمشق».. كذلك فإن منح لجنة التحكيم جائزة لهذا الفيلم لا يعني موقفا سياسيا.

الفيلم السوري «مطر أيلول» حصل على البرونزية والمخرج عبد اللطيف عبد الحميد صرح في أكثر من مطبوعة بأنه كان يستحق أكثر من ذلك، رغم أن نجدت أنزور، المخرج السوري، قال إنه لا يستحق! نعود إلى السؤال هل من حق عضو اللجنة أن يصرح بكواليس ما دار؟ وهل إذا لم تتوافق آراؤه مع أعضاء اللجنة ينسحب؟! إجابة السؤال الثاني هي بالتأكيد لا.. أنا بالطبع لم أحضر فعاليات هذه الدورة من «مهرجان دمشق»، ولكني أتحدث عن منطق الأمور ما صرح به العضوان المنسحبان أن رئيس اللجنة لم يسمح لهما بعرض وجهة نظرهما فهما لم يعترضا على النتيجة، ولكن على أسلوب النقاش، وبالتأكيد لو أن النتائج طرحت للتصويت وانحاز أغلب الأعضاء إلى رأي رئيس اللجنة فليس من حق العضوين المعترضين الانسحاب ويبقى جزءا غامضا في تلك الحكاية، كيف قبل الأعضاء الآخرون ديكتاتورية رئيس اللجنة المخرج الروسي ولم يعترضوا على هذا الأسلوب، إذا صح أنه كان بالفعل يرتدي ثوب الديكتاتورية.. لا أتصور أننا سنحصل على إجابات قاطعة لأنني على يقين بأن باقي الأعضاء سوف يلزمون الصمت، ولن يعلنوا هل خضعوا لرئيس اللجنة، أم أن هذه كانت هي قناعاتهم، وتلك كانت قراراتهم؟!