ملامح جديدة لإبداع ما بعد 25 يناير

تأكيدا على أن مساحة من الحرية غير المسبوقة باتت ممكنة في المقبل من الأيام

مشاركة أعداد كبيرة من الفنانين المصريين في المظاهرات التي شهدتها البلاد بعد 25 يناير الماضي (رويترز) و (أ.ف.ب)
TT

نعم.. وُلدت مصر أخرى بعد 25 يناير (كانون الثاني) سياسيا وثقافيا وفنيا لا يمكن أن نرى الوجوه نفسها التي كانت من رموز العقود الثلاثة الأخيرة وهم يتصدرون المشهد مرة أخرى.. أسماء كانت تشكل حضورا مؤثرا ولافتا في دنيا السياسة، سواء أكان ابتعادها عن البؤرة قسرا أم بإرادتها لا أعتقد أنها سوف تحتل المساحة نفسها بعد 25 يناير.

مزاج الجمهور الفني يتغير تماما بعد كل أحداث مصيرية تمر بها الأمم.. لا أعني بذلك أن يرى الناس فقط أعمالا تتحدث عن تلك الثورة السلمية التي فجرها هؤلاء الشباب، لكن دائما ما تؤدي مثل هذه الأحداث العظيمة إلى تغير في حاسة الاستقبال لدى الناس، ولهذا فإن كل المشاريع الفنية الكبرى التي كان قد بدأ تصويرها أو الإعداد لها قبل 25 يناير لا أتصور أنها من الممكن أن يتم تنفيذها من دون تغيير جذري أو إضافة مشاهد لترقيع النص الدرامي بما يتماشى مع مشاعر الناس.

لا شك أن أفكارا أخرى سوف يلهث وراءها السينمائيون تدور حول تفشي الفاسدين.. المناخ الفاسد يخلق بالضرورة وحوشا تبحث عن أي غنيمة.. سوف نرى صورا مباشرة وغير مباشرة عن شخصيات نعرفها مدانة أو على أقل تقدير تحوطها اتهامات بالفساد قد يلجأون إلى الإشارة في البداية وليس التصريح المباشر، لكن المؤكد أن الفكر تغير.

زواج السلطة برأس المال أحد المحاور التي سوف تتناولها الأفلام والمسلسلات المقبلة.. من الذي شرع لنمو الفساد سوى أن هناك قانونا تم تفصيله من أجل شخص بعينه أو فئة داخل المجتمع تسعى لتحقيق صفقة مع اتجاه محدد أو مجموعة ما؟

القضاء أحد المعالم التي سوف تتناولها الأعمال الفنية.. لا يمكن أن ننسى موقف القضاة أمام نقابتهم عندما ارتدوا ثوب القضاء وأعلنوا غضبتهم وذلك قبل نحو 3 سنوات ووقتها قالت الصحف القومية إن القضاة قد عبروا الخط الأحمر بحجة أن القضاء ينبغي ألا يفقد هيبته وينزل إلى معترك السياسة.. لقد تمت اعتداءات من بعض أفراد الشرطة على القضاة.. لا أتصور أن هذا المشهد من الممكن أن يمحى من الذاكرة وسوف ينتقل برؤية إبداعية إلى الشاشة.

فكرة التوريث بكل ما تثيره من زخم إبداعي عندما يتعلق الأمر بنقطة حساسة وفارقة في مصير مجتمع كان يعيش تحت وطأة هذا الهاجس.. إحساس يتردد بقوة بأن هذا السيناريو هو المقبل لا محالة.. أعتقد أن توريث السلطة تيمة سوف نراها في عشرات الأعمال الفنية.

العالم الافتراضي الذي يعتبر هو المؤشر الحقيقي وراء ثورة الشباب.. إنه شباب النت الذي استطاع أن يتخاطب من خلال قنوات جديدة لم يستطع الجيل الأكبر أن يتقبل قواعدها بسهولة.. كانت النظرة إلى هذا العالم تعتبره مجرد تسلية شبابية.. البعض كان لا يتعامل معها بمثل هذه البساطة ولكنه يدينها أيضا، يعتبرها فعلا يستحق أن يثير الريبة فيمن يفعله.

الحكمة القديمة تقول: إن الإنسان عدو ما يجهل.. وأتصور أن هناك نظرة أخلاقية محافظة كانت ترفض النت باعتباره عاملا للإفساد وليس للإبداع.. فما بالكم بالثورة؟ ولهذا فهم ناصبوه العداء؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يستوعبوا مفرداته.. هذا العالم الافتراضي تربة درامية صالحة لعشرات الأعمال الفنية.

قبل 25 يناير كانت السينما، وبالتأكيد الدراما التلفزيونية، غير قادرة على الاقتراب من الكثير من تلك المناطق الشائكة، لكن هناك بالتأكيد من حاول أن يمرر بعض تلك الأفكار.. أتذكر مثلا المخرج داود عبد السيد قبل قرابة 10 سنوات في فيلمه «مواطن ومخبر وحرامي» كان يشير بأسلوب رمزي إلى قضية زواج رأس المال بالسلطة وقدم شخصية المخبر باعتبارها دلالة على الشرطة على الرغم من أنه اختار أحد أفرادها الصغار مجرد مخبر وليس ضابطا كبيرا.. كان الحرامي الذي أدى دوره شعبان عبد الرحيم الذي يسعى لتطبيق أحكامه الأخلاقية على الأعمال الفنية ويحرق الكتب، فهي بالنسبة له مجرد مجموعة من الأوراق لا طائل من ورائها وفي النهاية تم سحق المواطن الذي أدى دوره خالد أبو النجا.

ربما جاء آخر أفلام يوسف شاهين الذي شاركه في إخراجه خالد يوسف «هي فوضى» عام 2007، هذا الفيلم قدم بجرأة الفساد داخل جهاز الشرطة.. بالطبع كانت شخصية أمين الشرطة التي أداها خالد صالح هي البطل، لكن الفيلم لم يكتفِ بهذا القدر.. هناك بالفعل فساد ورشا يشارك فيها الكبار في هذا الجهاز مع مراعاة أن هناك أيضا داخل الجهاز من يرفض ذلك.. وجاءت النهاية لتقدم أفراد الشعب وهم يقتحمون قسم الشرطة ويقذفونه بالحجارة وقتل أمين الشرطة نفسه مع تترات النهاية.

في فيلم «حين ميسرة» عام 2008 لخالد يوسف قدم بانوراما أقرب إلى بوفيه مفتوح لكل ما يجري في المجتمع من فساد، وأشار إلى العشوائيات المنتشرة على ضفاف القاهرة التي تبدو وكأنها تتحين الفرصة للانقضاض عليها.

بعد هذا الفيلم صار لدى الرقابة خط أحمر اسمه جهاز الشرطة.. بالطبع الفيلم قدم في عز قوة الوزير حبيب العادلي الذي أصدر أوامره لوزير الثقافة بعدم الاقتراب من هذا الجهاز الأمني وصار الاتفاق هو أن الأعمال الفنية التي نرى فيها ضابط شرطة ينبغي أولا أن تمر على جهاز الشرطة لدرجة أن فيلما كوميديا بطولة هاني رمزي كان اسمه «ضابط وأربع قطط» اعترضت الوزارة على كلمة «ضابط» وتم تغيره ليصبح «أسد وأربع قطط» كانت حجة الشرطة أنه لا يجوز المساس بهيبة الضباط.. لهذا فإن أفرادا من رجال الشرطة شاهدوا الفيلم كاملا قبل التصريح به.. صار السينمائي الذي لديه مشروع فني لن يستطيع أن يقترب من هذا الجهاز إلا بعد الحصول على موافقة الشرطة؛ حيث إن هذا الجهاز كان يعتبر أن العلاقة المتوترة بين المواطن والشرطة سببها مثل هذه الأعمال الفنية.

من الأفلام المهمة التي اقتربت من الوضع القائم بحذر فيلم «دكان شحاتة» أيضا لخالد يوسف ولكن يظل هذا الفيلم ملتبسا في تفسيره السياسي.. الدكان الذي قصده المؤلف ناصر عبد الرحمن، صاحب الدكان محمود حميدة لديه ثلاثة أبناء يريد أن يورثه لأحدهم فيقرر أن يختار أصغرهم الذي أدى دوره عمرو سعد لكي يكتب له الدكان وينتهي الفيلم باغتيال عمرو، وسبق ذلك أن أدخله شقيقاه السجن في محاولة للتخلص منه.. يظل الشقيق الأصغر متسامحا مع شقيقيه على الرغم من كل ما يلقاه منهما من عنت وظلم وتلفيق للتهم ولأنهما لم يرتضيا بالتوريث فإنه يلقى حتفه ويصبح البديل في هذه الحالة هو الفوضى، ويشير الفيلم إلى أن الجماعات الإسلامية سوف تتحين الفرصة للانقضاض على الثورة وكأن المعادلة التي أرادها المخرج من خلال تلك القراءة هي إما التوريث وإما الفوضى.

بالطبع فإن المخرج ينفي تماما تلك القراءة السياسية ويعتبر فيلمه على العكس من ذلك تماما، كان يملك استشرافا ورؤية سياسية ترنو إلى اكتشاف الواقع الحالي، مؤكدا أنه كان يواجه التوريث غير مروِّج له بهذا الاختيار القسري وأنه كان يرصد رؤية مقبلة يخشى منها ولا يروج لها!! الإبداع الفني في جانبه الموسيقى على كل المستويات لم يجد بين أغانينا سوى النشيد الوطني «بلادي بلادي» لسيد درويش و«يا حبيبتي يا مصر» لشادية و«يا أغلى اسم في الوجود» التي غنتها نجاح سلام.. كانت الجماهير تردد بصوت جماعي هذه الأناشيد التي تعبر عن ثلاثة اختيارات وطنية «بلادي بلادي» التي كتبها يونس القاضي هي أغنية ثورة 19 التي كان مفجرها وملهمها هو سعد زغلول، أما أغنية «يا أغلى اسم في الوجود» التي كتبها إسماعيل الحبروك ولحنها محمد الموجي فهي من أغنيات حرب 56 وبعد ذلك نأتي إلى أغنية «يا حبيبتي يا مصر» التي كتبها محمد حمزة ولحنها بليغ حمدي فهي إحدى أغنيات انتصار 73.. كانت هذه هي الأغنيات الرسمية التي أنشدتها الجماهير من الشباب وكانت الفرصة مهيأة لكي يستعيدوا من الذاكرة أغنيات كانت ممنوعة في الستينات والسبعينات منذ عصر السادات للشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم.. بالتأكيد سوف نرى أغنيات أخرى تعبر عن هذا الواقع الذي عاشته مصر ولا تزال في تلك الأيام.

ويبقى الحديث عن الإعلام، سواء الرسمي أو الخاص، المؤكد أن مساحة من الحرية غير المسبوقة باتت ممكنة في المقبل من الأيام.. الإعلام الرسمي لن يعود هو إعلام الدولة الناطق فقط باسمها.. التجربة أثبتت أن الإعلام لم يستطع السيطرة على الشارع وأنه أسهم بسبب تلك الرسائل التي قدمها على رفض الشارع لما يراه وزادت مساحات الغضب.. حاول الإعلام أن يغير الرسالة قليلا ولكن هناك انطباعا راسخا بأن الإعلام الرسمي لم يكن منصفا في تناوله للأزمة.

بالطبع فإن هناك توجها قويا جدا من أجل إلغاء وزارة الإعلام الرسمية مثل أغلب دول العالم التي لم تعد ترتكن إلى تلك المنظومة الرسمية، والنموذج المرشح لكي نقدمه هو البريطاني «BBC».

نعم إبداع فني آخر مقبل؛ لأن هناك أيضا مزاجا فنيا مغايرا صار هو السائد الآن على أرض المحروسة.