الأفلام والمهرجانات والمسلسلات على المحك

النشاط الفني والثقافي يشهد تراجعا بعد الثورات العربية

توقعات تراجع النشاط الفني في المرحلة المقبلة («الشرق الأوسط»)
TT

بعد الأحداث المؤسفة لمباراة كرة القدم بين نادي الزمالك المصري ونادي الأفريقي التونسي تقرر تأجيل مسابقة الدوري العام الكروي إلى أجل غير مسمى وهكذا صار سلاح الإلغاء أو التأجيل هو الوسيلة الوحيدة لمواجهة الخوف من الانفلات الأمني!! في مصر صرنا نعتبر أن هذا هو الحل الأول وربما الوحيد أمام بوادر الخوف من أي خلل في الانضباط ولهذا تم إلغاء أكثر من تظاهرة فنية بدأت بالمعرض الدولي للكتاب الذي تصادف تواكب موعده مع بدايات الثورة فكان الإلغاء مبررا.. ثم مهرجان سينما الأطفال الذي جاء موعد إقامته في شهر مارس (آذار) الذي كان أيضا من المستحيل المطالبة بإقامته في هذا التوقيت.. ثم أصدر وزير الثقافة عماد أبو غازي قرارا بإلغاء مهرجان المسرح التجريبي والمهرجان القومي للسينما المصرية، وصار مهرجانا القاهرة والإسكندرية الدوليان وغيرهما من المهرجانات الفنية والثقافية على المحك!! مهرجان الإسكندرية السينمائي تعثر سنوات كثيرة من قبل وألغيت حتى الآن 6 من دوراته على مدى تاريخه لأسباب متعلقة بعدم توفر التمويل المادي.. أما مهرجان القاهرة السينمائي فلقد تم إلغاؤه فقط في عام 1980 لدورة واحدة بسبب خلافات نشبت بين وزير الثقافة الأسبق منصور حسن، والجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما التي كانت تتولى في تلك السنوات من عمر المهرجان مسؤولية إقامته فتوقف في ذلك العام، لكنه عاد في العام التالي مباشرة، ولم تلغ أي من دوراته على مدى تاريخه بعد تلك الدورة، خاصة أن مهرجان القاهرة هو الوحيد في الشرق الأوسط الذي يشرف عليه الاتحاد الدولي للمنتجين، ولا يملك حرية مطلقة في تأجيل فعالياته أو تغيير موعد إقامته، وينبغي أن يحصل أولا على موافقة الاتحاد الدولي، ورغم ذلك فإن الموافقة على التأجيل أو الإلغاء ليست مستحيلة، سبق وأن ألغيت دورة مهرجان «كان» عام 1968 تضامنا مع ثورة الشباب التي انطلقت من فرنسا حيث رأى منظمو المهرجان أن عليهم إلغاء الاحتفال وظلت دورة وحيدة سقطت من عمر المهرجان طوال تاريخه.

الأسباب المعلنة في مصر لإلغاء مهرجان القاهرة السينمائي وعلى لسان وزير الثقافة عماد الدين أبو غازي متعلقة بالأزمة المادية التي تحول دون التمويل، والحقيقة أن مأزق التمويل هو إحدى أكثر المشكلات التي واجهت المهرجان على مدى عمره منذ انطلاق أول دوراته عام 1976 ورغم ذلك كان يتم التغلب على هذه العقبات في ظل ما هو متاح من إمكانيات.. كما أن الاستعانة برجال الأعمال طوال الدورات السابقة محفوفة بالمخاطر، وكانت كثيرا ما تؤدي مشاركة رجال الأعمال إلى تفاقم المشكلات بين صاحب رأس المال وإدارة المهرجان.. أكثر من ذلك فإن المهرجان كثيرا ما عانى في السنوات الأخيرة من تراجع الممولين عن تنفيذ تعهداتهم بعد الاتفاقات المبدئية التي كان بعضها قد تم إبرامه معهم إلا أنهم لا يلتزمون!! هل لا يدرك المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يتولى حاليا الحكم في مصر أهمية إقامة المهرجان، أم أنه يريد أن ينتظر انتخاب رئيس مدني للبلاد يتحمل هو المسؤولية في تحديد أولويات الاهتمام، وبالطبع فإن انتظار انتخاب الرئيس الجديد لا يعني سوى إلغاء كل الأنشطة الثقافية والفنية طوال 2011.. من الواضح أن إدارة مهرجان القاهرة استسلمت تماما لما يريده الوزير وهي تميل إلى تأجيل هذه الدورة وتسعى إلى إقامة جناح باسم مصر في مهرجان «كان» الذي يفتتح يوم 11 مايو (أيار) ورحبت إدارة المهرجان بتلك المبادرة وفى حالة اتخاذ موقف نهائي بالتأجيل سوف يتضمن الجناح المصري عددا من الأفلام الروائية القصيرة والتسجيلية التي تم تصويرها عن ثورة يناير (كانون الثاني). كما أن الدعوة سيتم توجيهها إلى كل الضيوف الذين سيحضرون إلى مهرجان «كان» وسبق لهم الاشتراك في مهرجان القاهرة لزيارة الجناح ومشاهدة الأفلام التي تناولت الثورة المصرية.

أما مهرجان الإسكندرية السينمائي حتى الآن لم يحدد مجلس إدارته موقفه النهائي وكيف يستطيع مواجهة الأزمة، خاصة أنه لا يحقق من خلال العروض السينمائية إيرادات تمكنه من الإنفاق على فعالياته واعتماده الحقيقي على الدعم الذي تقره وزارة الثقافة ومحافظة الإسكندرية، وعلى هذا فلا يملك أحد أن يتحمل مسؤولية إقامته بعيدا عن الدولة، وهكذا فإن القرار الأقرب للتحقيق هو تأجيل هذه الدورة، إنه المصير الذي ينتظر مهرجان الإسكندرية هذا الصيف.. كذلك مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة لا يمكن إقامته بعيدا عن الدولة لأنها هي الداعم الرئيسي، بل والوحيد له، ورغم ذلك فإن رئيسه الناقد علي أبو شادي أكد أنه سوف يقاتل من أجل إقامة المهرجان في موعده أكتوبر (تشرين الأول) المقبل ولا أحد يدري ما الذي من الممكن أن يفعله إذا أصرت الدولة على الرفض، خاصة أن المهرجانات ينبغي أن تبدأ في الاتصال بصناع الأفلام من الآن، ولن يستطيع أن يبدأ الاتصالات إلا بعد موافقة الدولة ممثلة في وزارة الثقافة!! مهرجانات أخرى غير تابعة مباشرة لوزارة الثقافة ولكنها تحصل على دعم مباشر مثل مهرجان الأغنية الذي يقام سنويا في الإسكندرية في شهر سبتمبر (أيلول) مهدد أيضا بالتوقف.. مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون الذي تقيمه وزارة الإعلام بعد إلغاء الوزارة وتقلص الميزانية التي رصدها المجلس العسكري لاتحاد الإذاعة والتلفزيون أظنها أيضا لن تسمح بإقامة المهرجان في دورته القادمة التي تحمل رقم 17، ولم يحدث مع انطلاق المهرجان عام 1995 أن أرجئت إحدى دوراته مهما كانت الأسباب المعلنة، ولكن التوقيت الزمني لعقد المهرجان الذي يواكب الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مصر أظنه لا يسمح بإقامته.

لا شك أن هناك تناقصا هذا العام في الإنتاج الدرامي على مستوى العالم العربي الذي كان يصل إلى 70 مسلسلا في رمضان.. الرقم المعلن حتى الآن 30 مسلسلا وربما تلمح دلالة إيجابية مباشرة وهي أن العدد الأكبر من هذه المسلسلات كان يؤدي إلى تشتت المشاهدين بسبب الكم الكبير الذي يتجاوز ولا شك قدرة الجمهور على الاستيعاب.. إلا أن الوجه الآخر للصورة هو أن هناك حالة من التراجع لوكالات الإعلان الداعم الأساسي للمسلسلات وكذلك العدد الأكبر من الشركات الإنتاجية أرجأت مشاريعها وهذا يعني تخوف رؤوس الأموال من الرهان على المسلسلات الدرامية فلا يستطيعون المراهنة على ذوق الجمهور في المرحلة القادمة.. والأمر ليس له علاقة فقط بالدراما المصرية حيث إن الدراما السورية حتى قبل اندلاع المظاهرات الأخيرة في بعض المدن السورية قد شهدت تراجعا لارتباطها أيضا بالإنتاج المشترك مع مصر في عدد منها، كما أن بعض الشركات الخليجية تراجعت عن الدخول كشريك في إنتاج عدد من المسلسلات، مما أدى إلى مأزق في التوزيع أثر بدوره على الحالة الإنتاجية.. إنها أشبه بنظرية الأواني المستطرقة، لا شك أن تقليص الإنتاج في بلد بحجم مصر التي كانت تشكل قرابة 40 في المائة من الإنتاج الدرامي العربي سوف يؤثر سلبا على الخريطة التلفزيونية، خاصة أن أغلب الإنتاج الدرامي في الأعوام الأخيرة صار إنتاجا مشتركا مصريا سوريا خليجيا وهكذا حدثت خلخلة في السوق تؤثر على الأنشطة والمهرجانات الثقافية والفنية في العالم العربي.. وإذا كان مهرجان القاهرة قد صار على المحك وأغلب الظن أنه سوف يرجئ هذه الدورة، فإن مهرجان دمشق السينمائي الدولي، الذي أصبح يقام سنويا وتتكفل بإقامته وزارة الثقافة السورية لا أعتقد أن هناك ما يمكن أن يعوق إقامته هذا العام، خاصة أن سورية على الجانب السياسي يعنيها بالدرجة الأولى أن تصدر الرسالة إلى العالم بأن الأحوال مستقرة، ولا يتفق ذلك بالطبع لو تم إلغاء أو تأجيل هذه الدورة.. هذا الأمر غير مطروح داخل الدولة السورية.. أما في تونس، فإن مهرجان «قرطاج»، هذه الدورة تقام للمسرح، حيث إنه يعقد بالتبادل بين المسرح والسينما وحتى الآن لم يعلن أحد تأجيل المهرجان، وعلى هذا فإن المهرجان قائم في موعده نهاية شهر أكتوبر كالعادة، كما أن كل الأنشطة الثقافية مستمرة مع مراعاة أن تتواءم فقط مع ثورة الياسمين!! الأسباب التي تؤدي عادة إلى إلغاء المهرجانات الفنية لا أتصورها بالضرورة اقتصادية، هناك عوامل أخرى قاهرة لا يتم عادة إعلانها، وهي متعلقة بالأمن، خاصة أن إقامة مهرجان ممتد الفعاليات والأنشطة في أكثر من فندق ودار عرض يحتاج إلى قدرة كبيرة على الضبط والربط الأمني، والكل يعرف أن الأمن في مصر في أعقاب ثورة يناير لم يعد إلى كامل قوته وقدرته.. كما أن أحداث المباراة الأخيرة بين فريقي الزمالك والأفريقي التونسي أكدت حالة الانفلات الأمني، وهو ما يضع الأمر في إطار مأزق آخر خارج عن إرادة الجميع، لأن الملف الأمني لا يملك رئيس الوزراء أن يتجاوزه، ورغم ذلك فإن إلغاء التظاهرات الثقافية في هذا التوقيت أراه يحمل ظلالا غير مطمئنة، لأن علينا أن نقدم رسالة للعالم بعودة مصر إلى حالتها الطبيعية، وبالتالي فإن التعثر السياحي الذي عانت ولا تزال تعاني منه مصر في أعقاب الثورة من الممكن أن يحمل تأجيل الأنشطة الثقافية رسالة ملتبسة للعالم تؤثر سلبا على السياحة وأيضا على الدخل القومي لمصر.. الخيوط تتشابك ولكن ينبغي ألا يدفع النشاط الثقافي والفني الثمن!!