هل حارب النظام البائد «مسافر» عمر الشريف

هزائم الفنانين سببها مبارك

TT

حتى الآن لم يعرض فيلم «المسافر» الذي أنتجته وزارة الثقافة المصرية ولعب بطولته عمر الشريف. ظل الفيلم على مدى عام ونصف داخل العلب لا يفرج عنه إلى دور العرض. هل تقاعس الدولة عن عرض الفيلم له علاقة وطيدة بأن مخرج الفيلم أحمد ماهر كان أحد الأصوات التي أيدت محمد البرادعي كمرشح محتمل لرئاسة الجمهورية فقرروا معاقبة المخرج؟ هل تعثر الخطوات الفنية لعلي الحجار سببها أنه كان يقدم أغنيات معارضة تكشف الفساد في البلد مثل «عم بطاطا» وغيرها فأغلقوا أمامه الماء والهواء؟ هل توقف استعانة الدولة بالمطرب محمد ثروت في الحفلات الرسمية قبل نحو 15 عاما وهو الذي حمل لقب المطرب الرسمي الأول القريب من السلطة في الثمانينات.. وهل لجوء الدولة إلى جيل آخر من المطربين ليصبحوا هم المفضلين لديها، هذا يعني بالضرورة أن هناك حربا وجهت ضد هذا الفنان؟ أم إن الدولة كانت تبحث عن المطرب الأكثر اقترابا من الناس ولهذا غيرت أوراق اللعب؟! نعم، من حق كل فنان أن يختار التفسير الذي يريحه، خاصة بعد أن تلاشت المسافة بين الفن والسياسة والإعلام لأن المصالح دائما تتصالح.. الكثير من تفاصيل الفساد من الممكن أن تعلن عن نفسها بوضوح في العلاقة بين الفساد السياسي الذي عاشته مصر على مدى ثلاثة عقود من الزمان وبين ما كان يجري في الحياة الفنية والثقافية والإعلامية حيث كان التشابك واضحا.. الدولة تريد السيطرة على مجريات الحياة بكل أطيافها، ودائما فإن الوسط الفني في المواجهة وعلى الخط. والحقيقة أن القسط الوافر من الفنانين والإعلاميين والمثقفين في العادة لا ينتظرون النداء؛ هم الذين يقدمون طلب الالتحاق بتلك المنظومة التي تمتد سطوتها إلى كل جنبات الحياة، والتجربة أثبتت أن أغلب نجومنا لا يعنيهم إلا دائرة نجاحهم.. قناعاتهم الفكرية هي تعبير مباشر عن مصالحهم، لا أتحدث عن الكل بالطبع، ولكن الأغلبية، فلقد أكد عدد من الفنانين، خاصة في قطاع كبير من الشباب، أنهم توجهوا إلى ميدان التحرير، وشاركوا في المظاهرات منذ 25 يناير (كانون الثاني) ولم يكن لديهم خيار آخر غير الوطن، وكان من الممكن أن يدفعوا الثمن مضاعفا لو أن النظام استطاع استعادة مراكز قوته، خاصة أنه متغلغل بقوة والقضاء عليه كان أقرب للأحلام المستحيلة، إلا أن ما حدث هو أن الثورة انتصرت. وكما أن هناك مطالب فئوية متعددة قد أعلنت عن نفسها في قطاع عريض من المجتمع، فإن هناك أيضا تفاصيل ونوازع شخصية أو لعلها إحباطات عاناها بعض الفنانين سواء كانوا من مؤيدي مبارك أو ممن أعلنوا انضمامهم للثورة ضد مبارك وجدوا أن نجاح الثورة من الممكن أن يصبح متنفسا لهم وطوق نجاة ينقذهم من عثرات فنية عاشوا تحت وطأتها. لنكن صرحاء؛ ليس كل إخفاق أو تعثر فني وراؤه بالضرورة فساد نظام مبارك!! مثلا وزارة الثقافة المصرية مترددة في عرض فيلم «المسافر». أكثر من مرة يتحدد موعد ثم تخشى الدولة من إخفاقه جماهيريا، فيتم التأجيل، ليس عن مؤامرة ضد الفيلم أو لتوجيه عقاب لمخرجه، ولكن هناك إحساس بأن الفيلم لن يصل إلى الجمهور. وزارة الثقافة أنتجت الفيلم ورصدت له نحو 4 ملايين دولار وهو يتجاوز ضعف متوسط ميزانية الإنتاج في السينما المصرية. وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني تحمس للفيلم وأنتجه بعد أن ظلت وزارة الثقافة المصرية بعيدة عن الإنتاج على مدى 35 عاما. الدولة لم تفتح الباب أمام كل الأطياف السينمائية ولكنها فقط اتجهت إلى سيناريو «المسافر» الذي كان يحمل في البداية اسم «من ظهر راجل» وشكل الوزير لجنة من عدد من النقاد سمير فريد ورؤوف توفيق وكمال رمزي وأيدت هذه اللجنة رأي الوزير في الحماس للفيلم وبدأت عجلة الإنتاج مباشرة. وتجاوز الوزير الأسبق كل المحاذير التي تقتضي أن الدولة ينبغي عليها أن تفسح المجال لكل أصحاب المشروعات السينمائية للتقدم لها وبعد ذلك تختار الأفضل بينها، خاصة أنها متوقفة تماما عن الإنتاج أي إن الدولة ممثلة في الوزير تملك إصدار القرار لصالح سيناريو واحد متجاوزة تحقيق العدالة وربما كان السيناريو هو الأفضل إلا أن ذلك لا يعني أن لا تمنح الدولة الفرصة متساوية أمام الجميع.. الفيلم ابن شرعي للنظام، بل إنه دلالة صارخة على أن النظام كان متحيزا وغير منصف.. الحقيقة أن الفيلم تعرض لهجوم ضار منذ أن عرض في مهرجان فينسيا 2009 وكان صاحب أعلى الأصوات في الهجوم هو بطل الفيلم عمر الشريف الذي أعلن استيائه من المونتاج النهائي.

وعلى الرغم من أنني لا أشاطر عمر الرأي القاسي الذي أعلنه وقتها، فإن من المؤكد أن الفيلم كان به العديد من نواحي القصور سواء في إيقاعه خاصة في الجزء الثاني أو في أداء عدد من ممثليه مثل خالد النبوي، البطل المشارك في الفيلم الذي كان مثلا يلجأ إلى تقليد عمر الشريف في الجزء الثاني.. أيضا كان من الممكن دراميا أن نستمع على الأقل في البداية إلى صوت عمر الشريف كراو للأحداث بدلا من أن يتأخر لقاؤه إلى الثلث الأخير.. تلقى الفيلم هجوما ضاريا في أكثر من مهرجان شارك فيه وبقيت نقطة واحدة وهي موعد عرضه على الناس. الدولة لا تملك دور عرض، ولهذا فهي تستطيع إصدار قرارا بالعرض وأيضا موزعة الفيلم إسعاد يونس تفكر في المقابل المادي الذي سوف يحققه العرض وهي تخشى الإخفاق الجماهيري. الجمهور المصري لديه نجوم شباك والبطلان الرئيسيان عمر الشريف وخالد النبوي ليسا ممن يذهب إليهما جمهور هذه الأيام. كما أن بناء الفيلم فنيا يحتاج إلى متفرج أكثر هدوءا وصبرا. لا أعتقد أن هناك مؤامرة حيكت ضد الفيلم لمنع عرضه وأن وزارة الثقافة قررت توجيه عقاب له، حيث استند المخرج إلى مداعبة بينه وبين المذيعة منى الشاذلي عندما استضافته تليفونيا في أعقاب عودة البرادعي إلى مصر وقال المخرج إنه من مؤيدي البرادعي فقالت له كده فيلمك لن يعرض. الحقيقة أن مواعيد العرض كانت تتأجل ليس لأسباب متعلقة بالموقف السياسي للمخرج ولكن لأن الموزعة تخشى أن لا يحقق الفيلم إيرادات.

المخرج قال مثلا في أحد أحاديثه إن أتباع النظام السابق هم الذين لم يرحبوا بالفيلم. أرى هنا خطورة شديدة في الخلط بين السياسي والفكري، بل والذوق، فليس كل من يؤيد الفيلم مثلا هو من يؤيد الثورة كما أن من يرفض الفيلم هو بالضرورة من معارضيها؛ الأمر لا ينبغي أن يقاس على هذا النحو.

أغلب المشاركين في الفيلم هم بالصدفة كانوا من الذين أيدوا الثورة مبكرا مثل عمر الشريف الذي لم ينتظر بضع ساعات إلا وكان مع مطالب الشعب، أيضا عمرو واكد منذ 25 يناير وهو يقود المظاهرات، وكذلك خالد النبوي، والكاتب والمخرج أحمد ماهر رأيه معروف ومعلن قبل قيام الثورة بعد ذهابه إلى استقبال البرادعي في المطار في مطلع العام الماضي، ورغم ذلك فإن الإقبال الجماهيري على الفيلم لا يمكن المراهنة عليه لمجرد التوافق السياسي بين صناعه والثورة.. أعتقد أن الفرصة سانحة لعرض الفيلم الآن مع يقيني أنه في الماضي لم تكن هناك مؤامرة ضده لأن الفيلم تم إنتاجه بل والقفز على منطق العدالة السينمائية في ظل العهد البائد!! فنان موهوب مثل علي الحجار غنى مباشرة لمبارك «النسر المصري شق السما» وشارك أكثر من مرة في أوبريتات أكتوبر (تشرين الثاني) التي كانت تتغنى بمبارك مباشرة، ورغم ذلك يعتقد أنه كان يحارب في زمن الرئيس السابق. يعتقد الحجار أن تعثره الفني كان بسبب تقديمه أغنيات تحمل موقفا انتقاديا مثل «عم بطاطا» ولهذا ضيقوا عليه الخناق بينما فتحوا المجال للمطرب العراقي كاظم الساهر.

الحقيقة أيضا أن علي أحيانا كان يتعرض لمحاصرة من التلفزيون المصري لأسباب ليس لها علاقة بتوجيه عقاب سياسي له بسبب معاني أغانيه، وأتذكر أن رئيسة التلفزيون الأسبق سهير الإتربي أصدرت قرارا بمنع أغانيه عقابا له لأنه رفض أن يشارك في إحدى الحفلات التي كان يقيمها التلفزيون. قرار تعسفي ولا شك، ولكن ليس له علاقة بموقف سياسي للحجار، والدليل أن المطرب محمد منير وهو ينتمي إلى الجيل نفسه وأغانيه لا تقل ثورية مثل «حدوتة مصرية»، «لو بطلنا نحلم نموت»، «إزاى» الأغنية الأخيرة غناها منير قبل 25 يناير فصارت هي أغنية الثورة، لم يستطع أحد أن يحول دون وصوله للقاعدة العريضة من الجمهور وكانت أغانيه تنتقد الكثير من سلبيات الدولة. عادة في ظل الأحكام الشمولية تسمح الدولة بهامش من الانتقادات ما دامت لا تصل مباشرة لرأس النظام، ولهذا لا أتصور أن النظام السابق بكل سلبياته وجرائمه مسؤول عن إخفاقات الحجار! أما محمد ثروت، فلقد كان هو الصوت الرسمي لحسني مبارك في بداية ولايته. هو يعتقد أن إبعاده عن البؤرة مع مطلع التسعينات وراؤه صفوت الشريف وزير الإعلام الأسبق. أيضا يعتقد أن هناك غضبا في رئاسة الجمهورية لأنه في أحد لقاءاته الإذاعية عندما سألوه عن التشابه في الملامح بينه وبين الرئيس السابق وهل هناك صلة قربى جاءت إجابته بأنه من طنطا ومبارك من المنوفية فكيف يصبحان من عائلة واحدة. هذه الإجابة على حد قول ثروت أغاظت الرئاسة فقرروا استبعاده من حفلات أكتوبر وعانى بعدها من التعتيم الإعلامي. أيضا لا أشعر أن النظام السابق مسؤول عن البرودة الجماهيرية التي عانى منها ثروت؛ بل أتصور أن إحساس الناس خلال الثمانينات بأن ثروت هو الصوت الرسمي الذي يؤازر مبارك صنع بينه وبين الناس مسافة من البرودة لم يستطع ثروت أن يتخطاها، والدولة الرسمية تبحث في العادة عن المطرب الأكثر نجاحا بغض النظر عن القيمة الفنية، ولهذا اتجهت مؤسسة الرئاسة إلى عمرو دياب وتامر حسني الأكثر اقترابا من الشباب حتى إن تامر حسني يغادر السجن بعد قضاء فترة العقوبة التي نالها بسبب هروبه من أداء الواجب الوطني لنجده وقد ذهب مباشرة لإحياء حفل رسمي يحضره الرئيس السابق! النظام السابق لعب كثيرا بالأوراق الفنية لصالحه وساهم في مساندة البعض ممن ولاؤهم الشخصي له، إلا أن الحقيقة هي أن ليس كل هزيمة لفنان يتحملها العهد البائد. نعم، كانت رائحة الفساد تفوح في كل جنبات مصر، إلا أن بعض الفنانين لم يهزمهم الفساد وظلوا في المقدمة، والبعض انزوى بعيدا، ليس بسبب الفساد، ولكن لأنهم لم يستطيعوا قراءة الخريطة الفنية على الوجه الصحيح!