الفنانون من بطش السلطة إلى غضب الشعب

أحمد فتحي غنى للثوار.. وسامو زين غنى لبشار

TT

مع بداية الثورة في اليمن، انحاز المطرب والملحن أحمد فتحي إلى جانب الشعب وغنى في الميدان مع الثائرين.. بينما عندما بدأت شرارة الغضب في سورية كان المطرب سامو زين قد اختار الوقوف إلى جانب بشار الأسد، وذهب قاصدا السفارة السورية في القاهرة وغنى لبشار ورقص الدبكة، ردا على من تظاهروا من السوريين المقيمين في مصر ضد بشار.. الفنان لا يمكن أن يقف وينتظر الجبهة الرابحة ليعلن ولاءه لها، الشعب ينتظر أن ينضم إليه والحاكم ينتظر أن يؤيده في هذا الموقف المصيري.. الشعب لديه قائمة سوداء لمن لم يناصره، والحاكم في العالم العربي طالما في يده السلطة يستطيع أن يمنح ويمنع ويبطش أيضا!! الثورة أي ثورة تعني الخروج من الذات إلى آفاق وحدود أبعد وأرحب لتصل إلى حدود الوطن بأحلامه التي لا تعرف مستحيلا.. الناس بكل طوائفها ومشاربها تشارك عادة في ثورات الغضب، إلا أن كل من لديه مصلحة ما يفكر ألف مرة ماذا لو قال نعم وأيد مطالب الثوار ولم تنجح الثورة؟ لا شك أن الحل هو الانتقام الذي لا يعرف التسامح. قد لا تتمكن السلطة في العالم العربي من ملاحقة كل أصحاب رؤوس الأموال الذين ارتبطوا بها في صعودهم، إلا أنها تتوعد في العادة النجوم الذين تعتقد أنها منحتهم الجوائز والتكريمات من أجل شيء واحد وهو أن عليهم دعمها، وأن نجوميتهم ليست كلها لهم، إنهم يعتبرون أنها ملك للحكام أيضا.. الدول الديكتاتورية تتصور أنها صانعة للنجاح الجماهيري بل وضامنة لاستمراره.. على الجانب الآخر ينتظر الجمهور، الصانع الحقيقي للنجوم، أن يرد هؤلاء النجوم الجميل وينحازوا إليه. ولا ينسى الناس بسهولة مواقف النجوم، خاصة أننا في عصر التوثيق عبر النت. لا أحد يستطيع أن يقول كلمتين متناقضتين في نفس الوقت، لا أحد يركب حصانين وينطلق بهما.. مع الأسف فعلها عدد من النجوم في مصر، كنا نرى مثلا أحمد بدير في إحدى الفضائيات يبكي ويقول ما تزعلش مننا يا ريس، وبعدها بخمس دقائق يقول على فضائية أخرى: «ارحل بقى كفاية عليك كده»؟! يعتقد بعض النجوم أن هناك حلا سحريا وهو الوقوف في المنطقة الآمنة، وهي أن يعلن أن المتظاهرين لديهم حق في مطالبهم ولكن للدولة وللرئيس الحق في أن نذكر إنجازاته.. وهذا الحل مثلا لجأت إليه هند صبري في أول تعقيب لها بعد أيام من اندلاع ثورة الياسمين في تونس، ولكنه لم يشف غليل الجمهور التونسي الذي اكتشف أن هند لا تزال تقف في جانب بن علي. إلا أنها بعد ذلك في نفس اللحظة التي غادر فيها بن علي تونس متجها إلى المملكة العربية السعودية، قالت «بن علي كان خاطفا لتونس..»، لم يصدقها الناس، الكل شعر أنها تنحاز لمن يكسب، حيادها كان يحمل ترقبا تتجه بعده للفائز.. لطيفة أيضا قالت في عز الثورة التونسية كلمات محايدة مثل «اللهم احم تونس» ولم تزد، رغم أنها كثيرا ما كانت هي صاحبة الصوت الأعلى في مؤازرة القضايا العربية.. الفنان العربي في العادة يستطيع أن يعبر عن مواقفه بحرية لو كنا بصدد قضية عربية متفق على تفاصيلها مع توجهات النظام، وهكذا مثلا يعلو عادة صوت الفنان عندما يتعلق الأمر بحقوق الشعب الفلسطيني أو شجب العدوان المسلح ضد غزة.. الفنان العربي يصول ويجول ويفتح على الرابع، كما يقولون باللهجة المصرية، إذا تعلق الأمر بقضية عربية عليها توافق.. ولكن إذا انتقل إلى قضايا بلده فسوف يبقى عليه أن يواجه العين الحمراء من النظام، ولهذا يؤثر في العادة السلامة ولا يتعدى المسموح.. مثلا الفنانة رغدة هي أكثر الأصوات التي شاهدناها في القضايا العربية في حصار غزة أو ضرب العراق أو الاعتداء الإسرائيلي على الجنوب اللبناني، دائما رغدة هي صاحبة الصوت الأعلى، الآن في عز ثورة الشعب السوري لم نسمع منها رأيا.. اختارت رغدة أن تصمت تماما، هي حاليا تلعب دور الملكة اليمنية بلقيس على خشبة المسرح القومي بالقاهرة. ولم تكن بلقيس سوى صوت للحق وخاضت معارك عديدة للدفاع عن الحق في اليمن، فما الذي أصاب رغدة؟ إنها تدرك بالطبع مثل الجميع قسوة النظام السوري في التعامل مع من يخالفونه الرأي، وأظنها ستحاول حتى اللحظات الأخيرة الوقوف على الحياد.. القسوة هي عنوان النظام السوري الذي لا يدرك حجم التغيير في العالم وأن سورية مثل كل دول العالم لا يمكن أن تظل في إطار تلك المقولة التي باتت تنتمي للعهود السحيقة «بشار للأبد»، فلم تعد الرئاسة مدى الحياة ممكنة في العالم العربي، نعم كانت الجماهير تردد لوالده «حافظ إلى الأبد»، لم يعد هذا مقبولا الآن.. الأجهزة السورية القمعية لم تطور أدواتها في التعامل مع الواقع الذي صار يسمح بقدر من الاختلاف، لا يرضى النظام السوري بأي درجات أقل من الخضوع المطلق للحاكم ولكل ما يصدر عن الدولة، وهكذا مثلا تمت الإطاحة بالصحافية سميرة مسالمة وإقصاؤها عن رئاسة تحرير جريدة «تشرين» التابعة للدولة لأنها طالبت بإجراء تحقيقات في بلدتها درعا التي تعرضت لقسوة من النظام.. لم يغفر لها هذا النظام دفاعها الدائم عن شرعية بشار ووقوفها ضد التظاهر ومنحها شرعية فض التظاهر، فقط هي ضد الاستخدام المفرط للقوة ضد المتظاهرين.. وبعد إقالتها عن منصبها ظل الخوف قابعا بداخلها، قالت إنها سوف تربي أولادها على حب الوطن وحب بشار. والغريب أن أهلها في درعا تبرأوا منها لأنها لم تناصرهم منذ البداية!! لا تستطيع أن تطلب من الفنان العربي في الوطن العربي أن يتمتع بنفس القدر من الحرية التي يمارسها الفنان في الغرب.. في العالم العربي العقاب يختلف وتتفاوت درجاته.. في سورية من الصعب أن تجد فنانا يعلن معارضته للنظام.. في مصر وقبل 25 يناير كان عدد قليل جدا من الفنانين لديهم هامش مثل خالد الصاوي الذي شارك في تنظيم «كفاية» وكثيرا ما شارك في المظاهرات، كما أنه في يوم 25 يناير كان هناك العديد من النجوم المصريين في الشارع مع المتظاهرين مثل عمرو واكد وآسر ياسين وأحمد عيد هؤلاء وغيرهم انضموا مبكرا للثورة.. بالتأكيد لو أخفقت الثورة ولم تحقق أهدافها كان هؤلاء سوف يتحولون إلى أعداء للنظام وبعضهم كان سيجبر على التراجع عن مواقفه السابقة مؤكدا أنه غرر به.. الدولة لديها أسلحتها في كل الدول العربية القبضة الحديدية تعلن عن نفسها، وهكذا في يوم 27 يناير (كانون الثاني) عندما اجتمع الفنانون المصريون في نادي نقابة الممثلين لإصدار بيان مؤيد للمتظاهرين، تصدى له كل من نقيب الممثلين أشرف زكي وأيضا رئيس اتحاد النقابات الفنية ممدوح الليثي، لأن الدولة تمسك بالكثير من الخيوط وهي التي في النهاية تدعم مرشحيها في النقابات الفنية من أجل حماية مصالحها.. استطاع اشرف زكى في مصر أن يجيش عددا من الفنانين للذهاب إلى باب التلفزيون المصري والوقوف على مقربة ورفع مظاهرات التأييد لمبارك، ثم اتجهوا إلى ميدان مصطفى محمود لمواصلة الهتاف لمبارك، ولكن بعد نجاح الثورة أخذ كل منهم يردد أسبابا واهية تؤكد أنه كان مع الثورة ضد مبارك.. مصر كان بها هامش يسمح بقليل من الاختلاف، مع إيماني بأن هناك مخاطرة ولا شك، إلا أن في سورية أجهزة الأمن ودولة المخابرات تستطيع أن تلعب دورها بقسوة لملاحقة كل من لا يقول «بشار إلى الأبد»، فما بالكم بمن يشارك في مظاهرة!! مع بداية أحداث الثورة السورية قبل نحو خمسة أسابيع.. تباينت ردود فعل النجوم السوريين، كانت سوزان نجم الدين هي صاحبة الصوت الأعلى وأيضا الأول في الدفاع عن شرعية بشار وأصدرت بيانا.. بعد ذلك اتهمت سلاف فواخرجى في بيان آخر المتظاهرين بأنهم مجموعة من البلطجية.. عدد من الفنانين مثل بسام كوسا، منى واصف، نجدت أنزور، جمال سليمان، عباس النوري، دريد لحام وغيرهم، قرروا كتابة كلمة تقف على الحياد: نؤيد مطالب الشعب في الحرية ونطالب الجميع بالوقوف وراء بشار لاستكمال المسيرة.. والتلفزيون السوري يحرص على أن يستضيف الفنانين المؤيدين لبشار الذين يوجهون نداءات للشباب بالتوقف عن التظاهرات مرددا شعار «بشار إلى الأبد».. الإعلام الرسمي في سورية يشبه تماما الإعلام المصري قبل ثورة 25 يناير، في تلك النظرة إلى أي مظاهرة على أنها مجرد محاولات للتخريب.. الناس في الشارع تقول «الله سورية الحرية وبس»، وهم يواجهونهم بشعار آخر يردده بعض المؤيدين لبشار وهو «الله سورية بشار وبس».. في الصراع الدائر دخلت القنوات التلفزيونية الفضائية في المعركة، صارت هذه الفضائيات هي المتهمة في نظر الدول خاصة الجزيرة والعربية وتستطيع أن ترى الهجوم الذي يشنه عدد من الجماهير المنتشرة في أكثر من بلد بالهجوم الضاري على تلك القنوات، بل إن أي ضيف طالما وافق على الاستضافة من سورية يبدأ حواره بالهجوم على المحطة متهما إياها بتعمد التشويه، في حين أن سورية لا تسمح لأي قناة غير سورية بالتصوير في الشارع، رغم أننا في هذا الزمن تأتي دائما الحقيقة من ثقب إبرة. وهكذا لعب الجوال الدور الأساسي في مد هذه القنوات بالمادة الوثائقية التي تؤكد أن المظاهرات هي فعل إيجابي تعيشه تلك الدول، ولكن دائما ما تعتبر السلطة الحاكمة أن هذه القنوات هي العدو الأول للاستقرار. وكما حدث في مصر من تشويش وتغيير لتردد البث لعدد من القنوات العربية، لجأت أيضا الدول العربية التي تشهد الآن ثورات مماثلة إلى نفس الحيلة التي تجاوزها الزمن.. أتذكر أن مصر قبل إصدار قرار إغلاق مكتب «الجزيرة» جيشت عددا من المثقفين الذين يعملون في الصحف المستقلة لكي تضمن درجة مصداقية ودافعوا عن قرار الإغلاق باعتباره تأخر إصداره كثيرا؟! إلا أن الثورات سوف تنجح في نهاية المطاف ويبقى على الفنان أن يدرك هذا التغيير الذي صار عليه الناس، فلا يمكن مثلا لمجد القاسم المطرب السوري المقيم بالقاهرة أن يصدقه الناس وهو يغني للثورة المصرية بينما هو يقف مكتوف الأيدي أمام ما يجري في بلاده.. كان مثلا حميد الشاعري أكثر ذكاء عندما انضم للثوار في بلده ليبيا، وفي وقت مبكر أعلن هذا الموقف وأتصور أن التوقيت مهم جدا.. لقد كان عمار الشريعي مثلا هو أكثر فنان مصري لحن واستفاد ماديا وأدبيا في عهد مبارك، ولهذا التقط بسرعة روح الثورة وراهن عليها مبكرا، ولهذا تسامح معه الناس بينما لم يغفروا مثلا لعادل إمام تواطؤه مع النظام السابق ودفاعه الدائم عنه، رغم أن عادل حاول بعد ذلك أن يتبرأ من كل مواقفه المؤيدة لمبارك.

الفنان عادة يقول «أنا أكثر واحد انتقدت في أفلامي ومسرحياتى الفساد والحاكم الديكتاتور»، كل ذلك صحيح ولكن الصحيح أيضا أن هذه الأعمال الفنية تخرج للناس لأنها تعبر عن رأي النظام، فهو يعتبرها نوعا من التنفيس عن مشاعر الغضب بعيدا عنه، ويختار في العادة فنانا له شعبية في الدولة ليقدمها. وهكذا كان دريد ينتقد في أفلامه ومسرحياته ومسلسلاته حتى في أيام حافظ الأسد الكثير من السلبيات في المجتمع السوري، إلا أن السقف في النهاية هو الرئيس، ينبغي أن يظل هو ممثل الشرعية الوحيدة في البلاد ويصبح هو الملجأ الأخير.. ولهذا عندما سألوا دريد عن رأيه في القائمة السوداء التي تم تناقلها في مصر وضمت عادل إمام، يبدو أنه تذكر نفسه وقال لهم «إن أفلام عادل كانت تحمل قدرا من الغضب والرفض».. في سورية ولا شك قوائم سوداء ستطال عددا من النجوم ولن يتم تفعيلها إلا بعد سقوط النظام.

إن السؤال الذي ينبغي أن يدركه الجميع هو إذا كانت الجماهير على باطل في مواقفها فلماذا رضخت إذن القيادات لمطالبها؟ لماذا وافقوا جميعا على تخفيف القوانين المقيدة للحريات؟ عندما استشعروا أن الناس تريد إسقاط النظام فقرروا إصلاحه ليحتفظوا بمواقعهم.. هل يؤتمن هؤلاء بعد ذلك على الإصلاح الحقيقي.

في تونس ومصر أصر الثوار على رحيل بن علي ومبارك.. لم تجد تلك المحاولات التي حاولوا فيها تخفيض سقف المطالب، في ليبيا واليمن يحاول القذافي وصالح المقاومة حتى النفس الأخير.. في سورية المعركة أظنها أكثر ضراوة لأن النظام الحاكم لديه قبضة حديدية باطشة، كما أن تعدد الأعراق والأديان في التركيبة السكانية ورقة يحاول النظام السوري الضغط بها ليضمن الانحياز له باعتباره هو الضامن لكل الأقليات.. الثورة في سورية هي بالفعل الأصعب، ولكنها ستصل إلى الذروة وتسقط النظام أما الفنانون السوريون الذين اختار أغلبهم تلك الصيغة التوافقية فلن يستطيعوا أن يظلوا طويلا على هذا الحياد مرددين «نعم للإصلاح ونعم لبشار»، عليهم أن يختاروا قبل فوات الأوان «نعم» واحدة!!