«صرخة نملة».. لا سينما إبداعية ولا ثورة شبابية

الفيلم المصري الذي يعرض على شاطئ الريفييرا

الفنان عمرو عبد الجليل في مشهد من فيلم «صرخة نملة»
TT

بينما تتدفق على النقاد والصحافيين عشرات من الأفلام التي من الصعب عدم تلبية ندائها، يأتي عرض فيلم مصري ضمن فعاليات المهرجان حتى ولو كان حدثا هامشيا، إلا أنه، ولا شك، يثير شهيتنا لمشاهدته.. لم أستطع أن أنتظر حتى الخميس المقبل ليعرض الفيلم على شاطئ الريفييرا ضمن عروض «البلاج» التي يقدمها المهرجان في الهواء الطلق.. وحرصت على أن أشاهد «صرخة نملة» قبل أيام قليلة من افتتاح مهرجان «كان»، هذا الفيلم الذي تم ترشيحه معبرا عن السينما المصرية بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني).. إدارة مهرجان «كان» لم تختر الفيلم المصري الأفضل، ولكنها بالتأكيد كانت تريد فيلما معبرا عن الثورة، ولم يكن متاحا أمامها سوى ثلاثة أفلام؛ «الفاجومي» الذي يتناول حياة الشاعر أحمد فؤاد نجم، إخراج عصام الشماع، و«كف القمر» إخراج خالد يوسف، و«صرخة نملة» إخراج سامح عبد العزيز.

الفيلمان الأول والثاني لم يسعفهما الوقت المتبقي على مهرجان «كان» للحاق بموعد المهرجان، ولهذا أصبح الفيلم المتاح من الناحية الفعلية للعرض هو الثالث. جيل جاكوب، رئيس المهرجان الذي صرح قبل بداية المهرجان بتكريم مصر كضيف شرف للمهرجان، لم ينس أن يشير إلى أن الاختيار ليس مرتبطا فقط بالثورة المصرية، ولكن لأن مصر لها تاريخ حافل أيضا مع المهرجان منذ بدايته، وذكر اسمي المخرجين الراحلين صلاح أبو سيف ويوسف شاهين.

هل كان الفيلم الروائي الطويل «صرخة نملة» لائقا للتعبير عن السينما والثورة المصرية؟! إجابتي هي: لا.. الفيلم كما هو معروف تمت كتابته قبل الثورة وصورت أكثر من 90 في المائة من مشاهده قبل 25 يناير، ووافقت الدولة على السيناريو في عهد الرئيس المخلوع، حسني مبارك، وكان اسمه في البداية «الحقنا يا ريس»، تستطيع أن تدرك من العنوان الأول للفيلم أنه كان ينتقد الفساد في مصر، لكنه يستجير بالرئيس لإنقاذ البلد مثل عدد كبير من الأفلام كان يقدم حاملا هذه الرؤية، أذكر منها «جواز بقرار جمهوري»، و«عايز حقي»، و«كراكون في الشارع»، و«طباخ الرئيس» وغيرها.. بعد الثورة أصبح عنوان الفيلم «صرخة نملة»، والمقصود بالنملة هو المواطن المصري الذي عليه أن يفعل مثل النمل، وإذا كان المثل الشعبي يطلب من الإنسان البسيط أن يمشي بجوار الحائط، فإن الفيلم يطالبه بأن يحفر في الحائط ثقبا مثل النمل حتى يعيش في أمان.. بطل الفيلم (عمرو عبد الجليل) الذي أدى دور مواطن مصري محبط يلتقط بقايا رزقه مما يتركه الآخرون له.

بطل الفيلم شاب ذهب إلى العراق وعاد خالي الوفاض، وذلك بسبب الحرب على العراق، ولكن قبل أن يعود كان كل من يعرفه يؤكد جازما أنه قد مات، وقد تقبل أهله العزاء فيه، وبعد العودة وسط دهشة الجميع يبحث عن العيش الكريم في بلده فيكتشف، ونكتشف معه، كم الفساد الذي نعيش فيه، فيبدأ في فضح الكثير منه حتى لو شارك هو في بعضه من أجل أن يجد قوت يومه، لأن السيناريو الذي كتبه طارق عبد الجليل حرص على أن يقدم البطل شخصية درامية تحمل من الضعف أكثر مما تحمل من القوة؛ زوجته (رانيا يوسف) تسافر إلى لبنان وتبيع شرفها، وشقيقتها أيضا تتزوج الأثرياء العرب لمدد وجيزة ثم تحصل على الثمن، وهناك عصابة تتخصص في إنجاز تلك الصفقات المشبوهة، وهذا الموقف يذكرنا بفيلم «لحم رخيص» الذي ناقش هذه القضية قبل نحو 15 عاما.. الفيلم تركيبته تجارية، صحيح أنه يقدم الفساد ويتناول عجز الدولة عن الحسم والمواجهة، بل وتواطؤها، إلا أنه في نهاية الأمر يظل بناؤه تجاريا يرتكن إلى قسط وافر من «الإفيهات» التي تشعر أن العدد الأكبر منها تأليف بطل الفيلم (عمرو عبد الجليل).

كان الفيلم طبقا للسيناريو الذي تم تصويره قبل الثورة ينتهي والبطل يحاول أن يصل بشكواه إلى الرئيس، ولكن بعد الثورة أصبح الأمر مختلفا حيث يذهب البطل إلى ميدان التحرير ونرى المتظاهرين يطالبون بسقوط النظام وتنحي الرئيس، ونسمع صوت الشاعر هشام الجخ يمتزج مع تيترات النهاية حيث صار لقب «الجخ» هو شاعر الثورة.. كل هذا من أجل أن يصدر للجمهور الإحساس بأنه أول فيلم روائي طويل يعرض عن الثورة!! سوف يصطدم هذا الفيلم بشيء خارج عن إرادته عند عرضه في مصر وهو أن الناس لن تقبل أي عمل فني ينتقد الفساد لو لم يكن يشير بوضوح إلى أن رأس الدولة والعائلة الصغيرة والدائرة القريبة من صناعة القرار في مصر كانوا هم أساس هذا الفساد، بينما البناء الفكري والدرامي الأصلي للسيناريو لم يزد هدفه على أن يبعث رسالة إلى الرئيس بأن يرفع الظلم عن الناس، وهذا بالمناسبة يرضي كل رؤساء العالم الثالث لأنه يؤكد لهم أن كل شيء يبدأ وينتهي إليهم.. كان طموح البطل في بعض المواقف الدرامية لا يتجاوز طلب أن يسمح له بمظاهرة صامتة.

أشعر أن الفيلم، سياسيا، لن يرضي طموح المشاهد المصري والعربي، لأن المخرج قرر أن يقحم ثورة يناير في الأحداث.. الجرأة التي توافق عليها الدولة قبل 25 يناير هي أن تنتقد كل الأوضاع ولكنك في النهاية تستجير برئيس الجمهورية وتعود إليه لكي ينقذك.. السيناريو يتهم الرجل الكبير في النظام بالغفلة وعدم إدراك آلام الشعب، ربما كان السيناريو بحالته الأولى قبل الثورة أجرأ مما تحتمل الدولة.. والسيناريو طبقا لقانون المصنفات الفنية المعمول به حتى الآن في مصر لا يمنح المخرج مشروعية عرض الفيلم، حتى ولو التزم بالسيناريو المتفق عليه والمصرح به إلا بعد مشاهدته بعد التصوير، وهذا يعني أن الدولة كانت عن طريق مقص الرقيب تملك أن تحذف الكثير، إلا أن في الوقت نفسه كل ما قدمه الفيلم في أغلب أحداثه لم يكن سوى ترديد لما سبقه من أفلام دائما ما تستجير في نهاية الأمر برئيس الجمهورية لإنقاذها من الحاشية الفاسدة التي تصنع دائرة حول الرئيس تحجب عنه الحقيقة.. كل ذلك وغيره كان من الممكن أن يحقق حالة من الرضا والتنفيس لدى الجمهور قبل الثورة، ولكن الآن فإن الناس تشاهد الفيلم وبداخلها غضب مسبق وإحساس قوي بأن مبارك وابنيه وزوجته هم السر وراء ما عاناه الوطن طوال 30 عاما من الفساد.

الإدانة الشعبية لا توجه فقط إلى الحاشية الفاسدة، ولكن مبارك الأب كان هو شيخ الفاسدين، هذه هي المشكلة التي تواجه المخرج، فهو يصطدم أولا بجمهور سوف يرفض أن يرى فيلما أقل في انتقاده مما رآه على أرض الواقع في ظل المكاشفة التي تنتهجها وسائل الإعلام في الكشف عن أرصدة الرئيس والعائلة.. تلك هي المشكلة وهذا هو المأزق الذي سوف يعيشه الفيلم في علاقته بالجمهور.. ويبقى المأزق الآخر الأكثر وطأة؛ وهو الرؤية الإخراجية التي لجأ إليها المخرج لم تقدم خيالا سينمائيا بقدر ما كانت تحكي فقط ما تقدمه الصورة السينمائية.. لجأ الكاتب طارق عبد الجليل إلى أسلوب «الفلاش باك» كثيرا، فكلما أراد أن يحكي عن جذور الشخصية لم يجد أمامه سوى هذا الحل الدرامي مما يؤدي إلى تداخل زمني في تلقي الجمهور للعمل الفني.. كان المخرج يحرص على «الإفيه» الكوميدي، وأن يقدم رقصة وغنوة ونكتة من أجل تأكيد الحالة التجارية التي يقوم عليها بناء الفيلم، وكان كثيرا ما يضحي بالإيقاع العام من أجل تقديم «الإفيه» للجمهور. ولا أتصور أن كل هذا من الممكن أن يجعلنا بصدد فيلم يعبر عن ثورة 25 يناير وهو لا يملك أيضا قوة تعبيرية.

الكاتب طارق عبد الجليل سبق وأن شاهدت له أفلاما قبل خمسة أعوام مثل فيلم «عايز حقي»، كان محملا بجرأة فكرية لم يصل إليها «صرخة نملة»، بل إنه كان يحرص هذه المرة على تكرار تشبيه النملة بالمواطن المصري أكثر مما ينبغي وأكثر حتى مما هو مطلوب، فهل من الممكن أن يثور النمل ويعلن تمرده على ضعفه وهوانه الذي تسبب بخنوعه الدائم إلى استسلامه لمصيره؟ أما المخرج سامح عبد العزيز، الذي شاهدت له الكثير من أفلامه مثل «الفرح» و«كباريه».. كانت تلك الأفلام تستند إلى حالة إبداعية على مستوى الرؤية البصرية التي افتقدتها تماما في هذا الفيلم. الممثلون: سنجد أن عمرو عبد الجليل الذي رأيناه منطلقا في أفلام مثل «حين ميسرة» و«دكان شحاتة» و«كلمني شكرا» لا يزال يمسك بنفس المفردات في «صرخة نملة» لأنها حققت له قدرا لا ينكر من التواصل مع الناس ويحاول استثمارها في إضافة الكثير من جمل الحوار للسيناريو التي تثقل، ولا شك، الأحداث.

هل مهرجان «كان» اختار الفيلم الروائي القادر على التعبير عن السينما المصرية وثورتها؟! إجابتي أنه لم ينجح في الاختيار، وبالطبع فإنه أمام هذا القسط الوافر من الأفلام التي تنهال على الجمهور في «كان» لا أتصور أن عرض فيلم «صرخة نملة» في قسم «البلاج» من الممكن أن يسرق الأضواء ويحفز المشاهد المتخم بالعروض الأخرى أن يترك الصالات المكتظة بالأفلام الإبداعية ويذهب إلى الشاطئ بحثا عن صرخات النمل.