«المسافر».. هل كان جريمة وزارة الثقافة المصرية؟

عمر الشريف كان أشرس المهاجمين للفيلم

ملصق فيلم المسافر
TT

أخيرا، عرض قبل يومين فيلم «المسافر»، أول إنتاج سينمائي لوزارة الثقافة المصرية بعد أن ظل قرابة عامين حبيس العلب.. فالدولة قبل الثورة كانت مترددة في عرضه وكأنها ارتكبت ذنبا تخشى لو سمحت له بالتداول أن يتحول إلى فضيحة «بجلاجل».

الحقيقة هي أن هذا المشروع السينمائي، وهو مجرد سيناريو على الورق، فرض نفسه منذ البداية كنقطة انطلاق محل خلاف رئيسية. كان السؤال: لماذا تتحمس الدولة وترصد أكثر من 20 مليون جنيه، كانت تساوى وقتها 4 ملايين دولار، لفيلم دون أن تمنح فرصة متساوية للجميع؟ هذا هو السؤال الذي سيظل لصيقا بـ«المسافر»، فلا يمكن أن تعود الدولة - أي دولة - للإنتاج بعد أكثر من 35 عاما مع مشروع بعينه دون أن تحقق العدالة لكل السينمائيين من خلال مسابقة يجد فيها الجميع أنهم متساوون أمام الحكومة.. كما أن ما حدث أثناء تصوير «المسافر» قد ساهم في زيادة الشكوك بعد أن طالت أسابيع التصوير لتصبح شهورا، واحتل المقدمة الحديث عن إهدار المال العام بالإضافة إلى الميزانية التي تجاوزت السقف المفروض. كان هذا هو أحد العناوين الرئيسية للفيلم قبل أن يجد طريقه للشاشة.

المحطة الهامة التي سبقت عرض الفيلم كانت هي ترشيحه للاشتراك في المسابقة الرسمية لمهرجان «فينسيا» عام 2009، ليصبح الفيلم الرابع خلال 67 دورة، هي عمر المهرجان، التي تشارك فيها السينما المصرية بعد أفلام «وداد» 1936 فيرتز كرامب، «حدوته مصرية» 1982 يوسف شاهين، «هي فوضى» 2007 يوسف شاهين وخالد يوسف. نعم، حدث هام في تاريخ السينما المصرية، ولكن كان ينبغي أن نرنو إلى ما هو أبعد من مجرد المشاركة إلى التطلع للحصول على جائزة. ما حدث أثناء عرض الفيلم في فينسيا وبعد العرض مباشرة، وكان كاتب هذه السطور أحد حضور تلك الدورة في المهرجان، هو أننا شاهدنا غضبا عارما اعترى عمر الشريف، الاسم الأكبر، إنه ليس فقط عنوانا للفيلم، ولكن أحد العناوين الكبرى لمهرجان «فينسيا»، وهكذا أعلن «عمر الشريف» تنصله من الفيلم والمخرج والبطل المشارك، خالد النبوي.

وانفلتت الكلمات الغاضبة من عمر الشريف ولم يستطع أحد إيقاف شلالات الثورة المسجلة تلفزيونيا.. كانت صدمة عمر الشريف الدافع إليها حالة الفيلم بوجه عام وأيضا بسبب وجوده الهامشي أو الذي رآه هو هامشيا.. كما أنه لم يرضَ عن أداء خالد النبوي، بطل الفيلم الرئيسي.. وانتقلت مساحات الغضب إلى فريق العمل بالفيلم، عدد من الفنيين المشاركين في الفيلم صرخوا أكثر مما صرحوا بالغضب.. الفيلم قبل عرضه أخذ طعنة من داخله، والمفروض أن كل المشاركين في العمل الفني حتى لو كانت لديهم ملاحظات تظل بينهم وبين المخرج في الغرف المغلقة على الأقل حتى يرى الفيلم النور بعد عرضه جماهيريا، ورغم ذلك اتسع الخرق على الراتق، صارت محاولة إيجاد مخرج لما حدث ضربا من المستحيل.. وعاد الفيلم من «فينسيا» إلى القاهرة وهو مكلل بالهزيمة، وانتقل إلى الكثير من المهرجانات دون تحقيق أي قدر من النجاح.

الفكرة التي اتكأ عليها أحمد ماهر، كاتب ومخرج الفيلم، أراها شديدة الذكاء والخصوصية، فهي حميمية داخل صانع الفيلم وكأنها قد مرت بمرحلة الحضانة التي طالت ربما أكثر مما ينبغي، فلقد ظل يحلم بالمشروع قرابة عشر سنوات.. ما الذي يحدث بعد انتهاء الرحلة مع الحياة؟ عمر الشريف يروي لنا بعد انتهاء رصيده من السنوات أن ما تبقى له ثلاثة أيام فقط، خريف 48 وخريف 73 وخريف 2001.. وكأنه يستعيد قول الشاعر أحمد شوقي «قد يهون العمر إلا ساعة.. وتهون الأرض إلا موضعا».. أي أن كل ما مر بنا من أيام بحلوها ومرها وكل الأماكن التي رأتها أعيننا بجمالها وقبحها، لا يتبقى منها إلا هذا القليل الذي نحيا عليه لأنه يعيش فينا.. الجديد الذي أضافه أحمد ماهر هو أن تبقى الذكرى بداخلنا بعد انتهاء الحياة.. ولكن هل ما يتبقى فعلا هو الواقع كما حدث أم أننا دائما ما نضيف إلى هذا الواقع خيالا، معتقدين أن هذه هي الحقيقة بعينها؟ علميا لا يمكن أن نستعيد الحدث القديم بمعزل عن سنين العمر التي عشناها والتي تضيف وربما أيضا تحذف الكثير، وهكذا قدم أحمد ماهر الأيام الثلاثة في حياة بطل الفيلم «حسن» بعد أن منحها خيالا لا يعرف حدودا ولا قيودا.. اليوم الأول في السفينة التي ينتقل إليها بالقطار.. إنه الشاب «حسن»، موظف في البوسطة، أدى دوره خالد النبوي، ونستمع إلى صوت عمر الشريف وهو يروي حكاية البطل الذي لديه خطاب من «فؤاد»، أدى دوره عمرو واكد، حبيب «نورا» سيرين عبد النور، إلا أنه يريدها لنفسه ويخون واجبات وظيفته ويشعر بأنها قدره المحتوم ولا بد من العثور عليها.. اختار المخرج موقع السفينة التي قدمها مهندس الديكور أنسي أبو سيف بكل تفاصيل الأربعينات مع أجواء للرقص بالشمعدان وموسيقى أغنية «يا حسن يا خولي الجنينة ادلع يا حسن»، وهي موسيقى فولكلورية أعاد الموسيقار الراحل محمود الشريف تقديمها بكل ما تحمله من شجن نبيل.

القبطان، يوسف داود، يحاول أن يعثر على الفتاة التي يبحث عنها «حسن». هو يريد أن يغير القدر، يرتبط بها بدلا من حبيبها الحقيقي «فؤاد»، يتبقى من تلك العلاقة محاولة خالد النبوي في الاستحواذ على سيرين عنوة.. أوحى الفيلم بذلك في لقطات ثم تراجع في لقطات لأننا لا نرى عيون البطلة والبطل، فقط يد خالد النبوي وهي تحاول نزع الفستان، ويد سيرين ومقاومتها الحادة ثم استسلامها.. ويرتدي خالد زي العريس وبدلته ثم يلقي بنفسه في البحر، وينقذه عمرو واكد، تتزوج نورا من عمرو في نفس اليوم من خريف 1948.. ويعترض خالد النبوي ويكتفي بأن يستعيد فقط من العريس البدلة.

أنت لا تتعامل مع واقع بالطبع، ولكن المخرج يحاول أن يخرج بعيدا عن هذا القيد لنتعايش مع هذه الحالة من الرؤية، وهو الجزء الذي قدمه المخرج بإيقاع نابض وأيضا لا يخلو من خفة ظل.. مثل هذا المشهد الذي نرى فيه مجموعة من الشباب يستمعون إلى أصوات العاهرات مقابل دفع أموال وهن في علاقة مع جنود الاحتلال البريطاني، على أساس أن شم رائحة الكباب أفضل ما دام أنه منه المستحيل أكله.. هكذا انتقل إلى اليوم الثاني واختار له 73، تحديدا يوم 6 أكتوبر (تشرين الأول).. وهو ما يدعم الاختيار الأول في 48 بأننا نتابع الإطار الخارجي الذي عاشته مصر والأمة العربية من 48 عام النكبة إلى انتصار 73، مع الأغنيات التي ارتبطت بتلك المرحلة مثل «على الربابة باغني» و«خلّي السلاح صاحي».. أي أنه قد مر 25 عاما على تلك الواقعة، ماتت الأم «نورا» سيرين عبد النور وأنجبت ابنة تشبهها تماما «نادية»، أدت دورها أيضا سيرين عبد النور.. هل هي ابنته؟ هكذا نعتقد كمشاهدين، خصوصا وأن الصورة التي كانت تحتفظ بها الأم التي التقطت فوق ظهر السفينة كنا نرى فيها ملامح خالد النبوي، وتؤكد له سيرين عبد النور أن شقيقها التوأم نسخة منه.

في هذا الجزء يبدأ التحول في فن أداء الممثل خالد النبوي، حيث نشاهد خالد النبوي بعد أن قرر تقليد عمر الشريف في الأداء الصوتي والحركي، بل في نظارته في فيلم «إشاعة حب»، ويبدأ تقييد الفيلم في هذا الإطار الضيق، وهي بالطبع ليست مسؤولية الممثل منفردا ولكنها إرادة النجم هي التي فرضت على المخرج الإيقاع أو ربما كانت هي أيضا رؤيته، لا أدري بالضبط ما الذي حدث، ولكن كان هذا الجزء أضعف ما في الفيلم لأنه سرق منه الإحساس الذي كان ينبغي أن نعيشه، أحال الفيلم إلى مجرد تماثل بيولوجي بين الشخصيتين، والغريب أن هذا اليوم امتد ليستحوذ على 50% من أحداث الفيلم.. «علي» يغرق في البئر.. «علي» هو شقيق «نادية» التوأم المعروف أنه بيولوجيا ابن عمر الشريف، هكذا يوحي الخط الدرامي للفيلم.. تتزوج سيرين عبد النور «نادية» في لحظة «جابر» المتخلف عقليا الذي أدى دور صديق شقيقها، وهو الممثل محمد شومان.. نرى في الفيلم بداية العلاقة بين البطل «حسن» وابنته تبدأ بنقطة ساخنة، المخرج كالعادة يتجنب نظرات العينين ونرى الكاميرا من الخلف توحي بأن هذا يعد بمثابة شروع في علاقة.. الرؤية المباشرة هي أننا بصدد زنا المحارم، أب مع ابنته، لا أدري لماذا تركها هكذا بلا إجابة قاطعة، فلا هي أكدت العلاقة ولا تركتها بلا يقين قاطع.. الرجل لم يكن يعنيه تماما الحقيقة، فهو يستعيد حياته بعد انتهائها، وأخطاؤه يدخل فيها اللاشعور والأمنيات التي تمناها ولم يستطع أن يحققها، فهو من خلال الرؤية المباشرة للفيلم لا يمكن اعتبار أن تلك العلاقة تدخل في هذا الإطار، كما أن لهذه العلاقة ضرورة درامية، حيث إنها تنجب أيضا طفلا بعد ذلك، ليختلط الأمر علينا هل هو ابن «حسن» أم حفيده.. وينتقل إلى المرحلة الثالثة، الحقيقة مع «حسن» عمر الشريف بعد أن تجاوز السبعين، واختار خريف 2001. ضرب البرجين حدث عالمي أثر على الإنسان العربي في العالم كله.. اللقاء مع حفيده «علي»، ابن «نادية»، ونكتشف أنه مثله في شبابه غير قادر على الاقتحام، يخشى العراك مع الحياة على المستوى المادي والعاطفي، ثم تلك الأنف التي تذكره بأنف عمرو واكد المميزة، وهو ما ينفي أنه حفيده. نرى الأنفين يتطابقا، ومن هنا كانت أهمية المشهد الذي يجمعه مع «نورا»، ولكنه للمرة الثانية يقيم علاقة وينجب طفلا يكتشف مع الزمن أنه أبوه رغم أن اسمه أيضا «علي»، وبالمفهوم المصري فإن «حسن» هو «أبو علي».. كان نسيج الفيلم وسياقه الفكري يسمحان بكل ذلك لأنك لا تتعامل مع الواقع، إلا أن هناك بالتأكيد قصورا ما في الرؤية لدى المخرج، أو لأن هناك كما تردد عيون أخرى تدخلت وحاكمت الفيلم أخلاقيا، وكان لها القرار النهائي لتحديد المحذوفات نظرا لانتماء الفيلم في نهاية الأمر إلى وزارة الثقافة.. في الأتوبيس النهري في اللقاء الأخير لعمر الشريف قبل أن يمضي في النهر منهيا حياته الافتراضية عندما نرى امرأة مع طفليها وفي أحشائها جنين لا تدرك بالطبع من هو أبوه تحديدا، وكأنه يعيدنا إلى مرحلة الشك. إنها نظرة وجودية يبحث فيها الإنسان عن علاقته بالحياة والخالق وحدود الصراع وهل الإنسان نفسه أم أنه مقيد بإرادات أخرى.. لا يراهن الفيلم بالطبع على الجمهور، فهو لا يقدم حكاية متتابعة لها بداية ووسط ونهاية، وليس الأمر هنا خاضعا لنوع سينما أفضل من آخر، فلا يوجد في هذه المعادلة فعل تفضيل، فقط اختيار لتلك الرؤية.

المخرج أحمد ماهر لا تستطيع أن تنفي عنه تمتعه برغبة في فرض إيقاعه، إلا أنه يبدو في الجزء الثاني الذي استغرق وحده نصف زمن الفيلم وكأنه مقدم فقط لإرضاء البطل خالد النبوي، وهو ممثل ينتمي أداؤه إلى منهج قديم في التعبير، ناهيك بافتقاره إلى الجاذبية التي ينبغي أن يمتلكها النجم السينمائي لكي يتحمل تبعات أن ينقل إلى الجمهور الحالة السينمائية المغايرة.. لقد أفسدت المساحة الزائدة للجزء الثاني من الفيلم الإيقاع العام، وأدت إلى قدر من التشويش في التلقي، ولكن يظل أننا في نهاية الأمر أمام حالة إبداعية.. شاشة بها ثراء بصري وصوتي، ومخرج يقدم جوا عاما للفيلم يساعده على تحقيقه، ماركو أو نوارتو مدير التصوير، ومهندس الديكور أنس أبو سيف، وموسيقى فتحي سلامة.. لدينا فيلم سينمائي ولكن حجم التوقع كان أكبر بكثير من الواقع نظرا لحالة الانتظار المسبق للفيلم.. فرض قانون الواقع على الخيال الذي يقدمه الفيلم يظلم الفيلم لأنه يبدو في قانونه خارج السياق الفني المعتاد، إلا أن هذا لا يكفي لكي تضع الفيلم في مكانة خاصة.. الفيلم به أداء جيد من عمر الشريف ومحمد شومان وسيرين عبد النور وعمرو واكد، ولكن يغيب عنه الكثير من الألق الذي كان يعلن عن نفسه في لحظات ويخبو في أخرى.. ويظل أن سيطرة الممثل خالد النبوي على الفيلم أثرت بالسلب وخصمت الكثير، وهي مسؤولية المخرج، فكان خالد أشبه بعازف منفرد «سوليست» في فرقة موسيقية يقدم لحنا خاصا به ولا يعنيه ما الذي تشير إليه عصا المايسترو، بينما المايسترو المخرج أحمد ماهر الذي لم يكن يعنيه من كل هذه المشكلات إلا إنجاز فيلمه بأقل القليل من الخسائر، فاكتشفنا أثناء عرض الفيلم أن القليل جاء كثيرا.. أكثر من قدرتنا على الاحتمال.