صراع الأصل والصورة في دراما رمضان

مسلسلات السيرة الذاتية شر لا بد منه

لقطة من مسلسل «محمود درويش»
TT

كانت وصية «هند رستم» لابنتها الوحيدة «بسنت»: «لا تسمحوا لأحد بأن يقدم حياتي في عمل فني».. كانت «هند» قد شاهدت المسلسلات التي تناولت حياة فنانين من معاصريها، وهي شاهدة إثبات على جانب من الوقائع، إلا أنها لم تعثر عليها، فاختلطت الحقائق بالأكاذيب، ولهذا أوصت ابنتها بألا يعبث أحد بتاريخها!! من عايشوا الزمن الذي تجري فيه أحداث عدد من مسلسلات السير الذاتية وكانوا فاعلين أو حتى قريبين من شخوصه وأحداثه كانت لديهم دائما انتقادات، إلا أن المثير هو أن الجمهور أيضا كثيرا ما يعتريه التحفظ وأحيانا الغضب من هذه المسلسلات، على الرغم من حرصه على أن يشاهدها!! الذي يثير الدهشة في مسلسلات السيرة الذاتية هو التباين الشديد بين الأصل والصورة.. الشخصيات الفنية والسياسية لدى كل منا، سواء عرفنا هذا الفنان أو السياسي عن قرب أم لا، صورة ما تنطبع عنها في أذهاننا حتى لو خالفت الحقيقة، إلا أنها يظل لها في أحيان كثيرة طعم الحقيقة!! مع كل فشل تحققه مسلسلات السيرة الذاتية نعتقد أنها النهاية لهذا النوع الدرامي، ثم نكتشف في رمضان التالي أن الباب لم يغلق بعد، وأن هناك المزيد من الأعمال الفنية في الطريق إلينا!!.. هذا العام زادت الجرعة، وأيضا ارتفع معدل الاعتراضات، حتى تلك التي تقاضى أصحاب السيرة الحقيقيون أجرا للموافقة عليها، إلا أنهم لم يركنوا للصمت وكان لديهم أيضا اعتراضهم.. صباح «الشحرورة»، وأحمد الريان «الريان»، ومحمود درويش «في حضرة الغياب»، والمسلسل الوحيد الذي أفلت من الغضب هو «رجل لهذا الزمان» الذي يقدم حياة عالم الذرة المصري «د.علي مصطفى مشرفة»، وذلك لأنه يتناول الجوانب الإيجابية فقط لتلك الشخصية على المستويين العلمي والشخصي، كما أن هناك مسافة زمنية أكثر من ربع قرن تفصلنا عن حياة «مشرفة».. والغريب أن الغضب امتد إلى مسلسل «نونة المأذونة» الذي لا يقدم حياة مأذونة بعينها إلا أن هذا لم يمنع أن أول مأذونة في مصر اعتبرت المسلسل يشوه حياتها رغم أنه لا يتناول من بعيد أو قريب حياتها!! المسلسلات الثلاثة «الشحرورة» و«الريان» و«في حضرة الغياب» سوف نرى العديد منها يشغل مساحة أمام القضاء بحجة تعمد التشويه.. كانت بداية شلالات الغضب بعد الحلقة الأولى من مسلسل «في حضرة الغياب» الذي يتناول حياة الشاعر الكبير «محمود درويش»، من تأليف الكاتب السوري المعروف «حسن يوسف» وإخراج «نجدت أنزور».. أيضا «سولاف فواخرجي» تشارك «فراس إبراهيم» البطولة. «محمود درويش» مر على رحيله ثلاث سنوات، وهو مع «نزار قباني» و«عبد الرحمن الأبنودي» يشكل كل منهم لدى الناس حضورا خاصا، فهم بين الشعراء القلائل في عالمنا العربي الذين حققوا شعبية جماهيرية بهذا السحر الخاص، ليس فقط سحر الشاعر، ولكن سحر الشخصية بقدرتها على أن تخرج بعيدا عن دفتي ديوان الشعر لتلتقي مباشرة بالجماهير في علاقة حميمة.

«فراس إبراهيم»، بطل ومنتج الحلقات، فوجئ بأن مساحة الغضب تتجاوز مجرد احتجاج المؤسسة الثقافية الفلسطينية التي تحمل اسم درويش لتمتد إلى المشاهدين العرب من خلال المطالبة بمقاطعة المسلسل.. الكاتب «حسن يوسف» كان يقدم حالة متوازية على مستوى البناء الدرامي، حيث إنه يعيد قراءة أشعار «محمود درويش» التي تمتزج مع سيرته الذاتية لتنسج حكاية وطن، لأن «محمود درويش» ولد قبل النكبة بنحو عشر سنوات وكان على المستوى الشخصي فاعلا في المواقف السياسية طوال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.. كاتب السيناريو كان يعود للقصيدة باحثا عن اللمحة، وكان يقدم القصائد بصوت «فراس»، والناس تحفظ قصائد درويش بصوته، ولهذا زادت مشاعر الغضب كلما ازدادت مساحات التباين بين الأصل والحقيقة!! ولم يسلم مسلسل «الشحرورة» من غضب مشترك من الجمهور وأيضا «صباح»، التي قالت إن المسلسل يشوه تاريخها، على الرغم من أن الكاتب «أيمن الشندويلي» سجل معها تفاصيل حياتها على شريط كاسيت، إلا أنها اتهمته بأنه تعمد ألا يلتزم بالأحداث التي روتها له، على الرغم من أنه قال «لو التزمت دراميا بما روته لي (صباح) لشوهت تاريخها»!! كانت الحادثة التي أثارت غضبها هي مقتل أمها على يد شقيقها، على الرغم من أن الكاتب لم يوضح هل لأنها قد ضبطت في وضع غير أخلاقي أم أنه مجرد شك، خاصة أن المخرج «أحمد شفيق» قدم لنا الأم دائما في صورة المرأة المخلصة، ولهذا كانت مفاجأة أن نصدق خيانتها. كذلك اعترضت «صباح» على صورة والدها الذي قدم في المسلسل باعتباره رمزا للجشع.. بالتأكيد أن «صباح» كثيرا ما تناولت في أحاديثها التلفزيونية العديد من التفاصيل الخاصة والحساسة في حياتها، فهي مثلا لا تشعر بأي حرج وهي تذكر كم المرات التي خانت فيها أزواجها، والناس يحفظون من خلال البرامج التلفزيونية العديد من تلك الوقائع، فهي صاحبة هذا التصريح وهو أنها خانت كل أزواجها.. ورغم ذلك لم تكتف «صباح» بإعلان الغضب، لكنها انضمت إلى أسرة «فيروز» في احتجاجها عندما تحايل المسلسل على قصة الزواج الذي لم يكتمل بين «عاصي رحباني» و«صباح»، حيث أطلق عليهما المسلسل «صاصي» و«نيروز» ورغم ذلك اعترضت «فيروز» وتضامنت معها «صباح»!! الحقيقة أن الصدمة لم يشعر بها المشاهدون بسبب الأحداث، لكن لأن صورة «صباح» في شبابها لا تزال قابعة في خيالنا.. نحن نرى «صباح» في كل الأوقات من خلال الفضائيات التي تعيد دائما أفلامها، ونرى هذا الوجه المضيء الذي يشع حضورا وجاذبية.. «صباح» محفورة في ذاكراتنا، وصورتها في الشباب لا يمكن أن تغادرنا لأن الأفلام رسخت هذه الملامح. كان أول خطأ وقع فيه المخرج أنه منح الدور إلى «كارول سماحة»، وهي لا يمكن أن تقترب شكليا أو نفسيا مع الصبوحة، ولهذا خسر المخرج ضربة البداية، على الرغم من أنه سبق له في مسلسل «ليالي»، الذي تناول بأسلوب غير مباشر حياة المطربة الراحلة «سوزان تميم»، أن أسند الدور إلى «زينة» وهى بالمناسبة لا تشبه «سوزان» أيضا، لكن الفارق أن «سوزان» على عكس «صباح» ليست لها في الذاكرة صورة ثابتة، فهي من الممكن أن تتم إعادة تشكيلها مرة أخرى برؤية مختلفة، وحتى لا نظلم المخرج فأنا أقول إنه قد أجاد ضبط إيقاع الحلقات، لكن لا يزال الخطأ الرئيسي له يكمن في اختيار «كارول سماحة»!! مسلسل آخر وهو «الريان» المأخوذ عن حياة «أحمد الريان»، وكان «الريان» قد تقاضى مقابلا ماديا، ورغم ذلك حرص فريق العمل على التأكيد أن العمل الفني من نسج الخيال ولا يمت بصلة قربى لأي شخصيات بعينها، لكن الحقيقة التي نعرفها جميعا هي أن هذا هو «الريان» وتلك هي عائلته وهؤلاء هن زوجاته.. «خالد صالح» استطاع أن يشع في جنبات الشخصية التي يؤديها قدرا من الدفء، ليدفع الجمهور لكي يحب «الريان»، حيث قدم الشخصية بدرجة عالية من الحميمية، كما أنه أصبغ عليها المفردات الخاصة به وأخذها إلى عالم «خالد صالح». «الريان» بالطبع ليست له صورة محفورة لدى المشاهدين باستثناء اللحية، لكن الناس رسموا له صورة للإنسان الفهلوي القادر على بيع الوهم، وبالفعل هو صدر للناس في مصر أنه يستطيع أن يزيد مدخراتهم بنسب غير مسبوقة وصدقوه.. المعروف أن آلافا من الأسر المصرية فقدت بسببه تحويشة عمرها، ورغم ذلك فإن «أحمد الريان» هو الغضبان من المسلسل الذي تتابعه بشغف الجماهير!! المسلسل الذي أفلت من تلك المشاعر هو «رجل لهذا الزمان» الذي يتناول حياة عالم الذرة «د.علي مصطفى مشرفة».. لا يوجد أي أرشيف مصور لمشرفة باستثناء تلك الصورة الفوتوغرافية التي نسجت على منوالها «إنعام محمد علي» شخصية «مشرفة» التي أداها «أحمد شاكر»، الذي سبق له أن أدى قبل ثلاث سنوات دور «فريد الأطرش» في مسلسل «أسمهان».. الشخصية لها جاذبيتها ومصداقيتها، لكن النص الدرامي لجأ إلى أسلوب السرد التقليدي، ولم يستطع الكاتب «محمد السيد عيد» أن يقفز فوق أسوار الطريقة المباشرة في السرد، وأصبحنا أمام مسلسل مهم لكنه يفتقد الجاذبية.

كما أنني لم أستطع أن أستسيغ الأسباب التي أدت بالمخرجة إلى تقديم الحوار بهذا الأسلوب، فعندما تتحدث بعض الشخصيات الأجنبية نستمع إلى كلمة بالإنجليزية والباقي بالعربية، فصار الأمر يؤدي إلى الضحك في الدراما.. من الممكن أن تلجأ إلى اللغة الافتراضية، أي أن تنطق الشخصيات حتى الأجنبية اللغة العربية والناس يتسامحون معها لأنهم يتعاملون مع هذا القانون مثلما يشاهدون فيلما أميركيا تجري كل أحداثه في فرنسا وشخوصه فرنسيون، لكن الشخصيات تتحدث اللغة الإنجليزية بلكنة أميركية ويتقبل الناس ذلك!! كان من المفترض لولا أحداث الثورة أن نشاهد أيضا حياة «تحية كاريوكا» و«بليغ حمدي» و«رشدي أباظة» و«محمد عبد الوهاب»، وهم أربعة من العمالقة عاشوا في مرحلة زمنية متقاربة مع «صباح»، أي أن المشاهد كان سيجد نفسه يتابع الشخصية الواحدة في اليوم مرتين وربما ثلاثة، لأنك مثلا سترى «عبد الوهاب» في مسلسل «عبد الوهاب» وترى «عبد الوهاب» آخر في المسلسل الذي يتناول حياة «صباح» وترى «عبد الوهاب» ثالثا في المسلسل الذي يتناول حياة «تحية كاريوكا» مثلما حدث هذا التداخل مع مسلسلي «العندليب» و«السندريلا»، اللذين عرضا قبل ثلاثة أعوام، وكانت النتيجة هي حالة التشتت التي عاشها الجمهور، لكن الله سلم هذا العام وتعثرت باقي المشروعات التي تناولت شخصيات فنية باستثناء «الشحرورة»!! مسلسلات السيرة الذاتية في كل عام هي التي تحتل المساحة الأهم على الخريطة الرمضانية، ورغم ذلك فإنها أيضا هي صاحبة النصيب الأكبر من الانتقادات، وكأنها شر لا بد منه.. صارت عادة رمضانية لا نستطيع الاستغناء عنها، وفي الوقت نفسه لا نتوقف عن إعلان الغضب.. كأن نردد أغنية عبد الوهاب «أحبه مهما أشوف منه»!!