مهرجان دمشق السينمائي في مأزق الثورات

النقابات الفنية في مصر والعالم العربي تتأهب للمقاطعة

TT

صارت المهرجانات السينمائية أحد أمضى الأسلحة للتعبير عن الوجه السياسي والوطني الذي تعيشه الدول.. يعرض اليوم في مهرجان فينسيا فيلم «الطيب والشرس والسياسي» المستوحى من عنوان للفيلم العالمي الشهير الذي أخرجه سيرجيو ليون قبل أكثر من 45 عاما «الطيب والشرس والقبيح»، وأتيح لي أن أشاهد الفيلم المصري قبل عرضه في فينسيا.

يروي الفيلم أحداث الثورة المصرية برؤية تسجيلية تتكون من ثلاثة أجزاء، أخرجها تامر عزت وأيتن أمين وعمرو سلامة، من خلال وجوه ثلاثة: «الطيب» هو الشعب المصري و«الشرس» ضباط الشرطة الذين نفذوا التعليمات بضرب وقتل المتظاهرين، أما الجزء الثالث الذي استبدل من خلاله بصفة «القبيح» «السياسي»، فإن المقصود به هو «مبارك» الديكتاتور، ويتميز الجزء الثالث بروح ساخرة تشبه أفلام مايكل مور المخرج الأميركي الشهير.

يعرض أيضا مهرجان فينسيا أفلاما سورية تنتقد ما يجري الآن من قتل للمتظاهرين في ظل نظام قمعي، والأفلام هي «الطلائع»، و«حاضنة الشمس»، و«النهاية»، وبعض المخرجين حذفوا أسماءهم خوفا من بطش النظام! المهرجانات السينمائية صارت حريصة على أن تمنح فعاليتها مذاقا ثوريا.. مهرجان «كان» في دوراته الأخيرة دائما ما يوجه رسائل تضامن مع المخرجين الإيرانيين جعفر باناهي ومحمد رسولوف الممنوعين من ممارسة المهنة وهما الآن قيد الإقامة الجبرية في طهران.. كما أن مهرجان «كان» أول من احتفل بالثورتين المصرية والتونسية في دورته الأخيرة! مهرجان دمشق السينمائي الدولي قرر أيضا أن يلعبها هذه المرة سياسة.. نجوم سوريون يمارسون ضغوطا على النجوم العرب لكي يشاركوا في حضور هذه الدورة.. المؤكد أنه ليس مهرجانا ثقافيا يعقد من 20 إلى 27 نوفمبر (تشرين الثاني) حيث يقام المهرجان تحت رعاية بشار الأسد وفي دار سينما «الأسد»، ومن المنتظر أن يتحول إلى مبايعة للأسد.. كان المهرجان في الدورات الأخيرة يحرص على أن كل الكلمات الافتتاحية تتحول إلى وصلات في مديح بشار الأسد، «هذه المرة من المؤكد سوف تزداد الجرعة ردا على زيادة مساحة الغضب في الشارع السوري». محمد الأحمد مدير مهرجان دمشق أكد أن الدورة التي تحمل رقم «19» لن تتأجل وأن الاتصالات بالنجوم والفنانين العرب والأجانب لم تتوقف، وعلى الرغم من ذلك بدأت في الكواليس خاصة على الساحة العربية بوادر مقاطعة للمهرجان.. كانت البداية من خلال نقابة السينمائيين المصريين التي أصدرت بيانا قبل شهر تضامنت فيه مع الفنانين السوريين الذين يواجهون النظام السوري، وفي الوقت نفسه فإن النقابة أكدت في بيانها أنها تقف مع الشعب السوري وهذا يحدث لأول مرة في تاريخ النقابة، أن تتخذ موقفا سياسيا ينحاز إلى تطلعات شعب شقيق، وسوف تصدر نقابة السينمائيين هذه الأيام بيانا آخر تطالب فيه أعضاءها بمقاطعة مهرجان «دمشق» حتى لا يقفوا ضد تضحيات الشعب السوري من أجل الحرية.

من المنتظر أيضا ألا يقتصر الأمر على النقابة السينمائية، ولكن سوف تصدر خلال أيام أيضا نقابة الممثلين بيانا مشابها وربما يعقب ذلك اتحاد النقابات الفنية، الذي لن يقف هذه المرة مكتوف الأيدي، ولا أستبعد أن نرى مواقف عربية مشابهة من عدد من النقابات الفنية العربية تؤازر فيه الشعوب وتطالب فنانيها بمقاطعة مهرجان «دمشق»! ما أبعد الليلة عن البارحة.. ونتذكر ما حدث قبل عامين فقط بسبب مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر، عندما قررت النقابات الفنية الثلاث وغرفة صناعة السينما ودار الأوبرا المصرية أن كل ما له علاقة بالجزائر سوف يتم محوه بـ«أستيكة» وكأنه لم يكن، وألغيت كل الفعاليات الفنية المتعلقة بالجزائر، وكان مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بصدد تكريم المخرج الجزائري المعروف أحمد راشدي في الختام وتقرر وقتها إلغاء تكريمه.

لا يمكن التعامل مع كل تلك الأحداث باعتبارها مجرد مشاعر عبر بها الفنانون عن موقفهم، ولكن الحقيقة هي أن الدولة وقتها أصدرت تعليمات من بيت الرئيس تقضي بفتح النيران ضد كل ما هو جزائري، وأعاد العديد من الفنانين جوائزهم للسفارة الجزائرية في القاهرة أو على أقل تقدير صرحوا بذلك ثم انتقلوا إلى سفح الهرم رافعين الأعلام المصرية، وألقيت خطبة باللغات الثلاث العربية والإنجليزية والفرنسية ضد كل ما هو جزائري، إلى درجة أن البعض طالب بسحب السلام الوطني الجزائري ومنع تداوله لأنه من إبداع الموسيقار المصري الراحل محمد فوزي. كانت النقابات تتلقى تعليمات من النظام السابق وتحول مجرد صراع كروي إلى موقف سياسي.. الآن الدولة المصرية على الصعيد الرسمي لم تتحرك بإصدار بيان سياسي ضد بشار، ولكنها في الوقت نفسه لا تتدخل في توجيه النقابات الفنية.

الفنان العربي هل تغير بعد ثورات الربيع العربي وصار يراهن على نبض وإرادة الشعوب وليس الحكام؟.. لا نستطيع أن نصدر حكما قاطعا. في تونس أصدر الشباب هناك قوائم سوداء كانوا هم أول من رفعوا هذه القوائم ضد الفنانين الذين ناشدوا بن علي الترشح مجددا في 2014، على الرغم من أن الدستور التونسي الذي وضع في عهد بن علي بعد الإطاحة ببورقيبة كان يحول دون ترشحه لأنه تجاوز الـ75 عاما.. الفنانون التوانسة لم يكتفوا بالغناء لابن علي بل إنهم صمتوا أثناء الثورة التونسية - أتحدث بالطبع عن الأغلبية - ولم ينحازوا لمطالب الثوار، فكان عقابهم هو تلك القوائم، حتى إنهم منعوا المطرب لطفي بوشناق من إحياء حفل غنائي للثورة في تونس على الرغم من أن لطفي غنى بعد نجاح الثورة التونسية للثوار، ولكنهم لم يصدقوه، ولهذا استبدلوا به مطربا لم يتورط في الغناء لابن علي أو كان منافقا للحكام! في مصر لا تزال المقاطعة مستمرة لعدد من النجوم، ولا يزالون أيضا يحاولون تبييض وجوههم باتخاذ مواقف تنفي تواطؤهم مع النظام البائد.. المقاطعة ليست مصرية أو تونسية أو سورية ولكنها عربية. مثلا في الجزائر قبل أسابيع قليلة منعوا المطرب السوري نور مهنا من الاشتراك في حفل هناك وكان السبب أنه لم يقف مع الثورة السورية.. في قناة «mbc» احتج السوريون على عرض برنامج «انت تستاهل» من تقديم جورج قرداحي، بينما قناة خاصة سورية وهي «الميادين»، التي يملكها مذيع «الجزيرة» السابق غسان بن جدو، تعاقدت مع جورج وتستطيع أن ترى أصابع بشار وهي ترد الجميل لجورج قرداحي وتدافع عنه.. اختار قرداحي أن يقف إلى جانب بشار واعتبر أن ما يجري هو مجرد أجندة أجنبية وسخر من الثوار ولهذا عاقبوه بالمقاطعة. وهو نفس ما يواجهه الآن المطرب جورج وسوف الذي غنى في حفل لتأييد بشار قائلا: «كلام النت لا بيقدم ولا يأخر»، ساخرا مما يكتبه الثوار على الإنترنت! أغلب الفنانين السوريين لا يزالون في صف بشار وسوف يعتبرون أن مهرجان دمشق السينمائي الدولي هو الوثيقة التي ينتظرها النظام لتأكيد حبهم وولائهم له.. هذا هو مهرجانهم وسوف يجدونه فرصة لإثبات الخضوع المطلق، وخاصة أن الإعلام السوري لا يزال يستخدم سلاح الإنكار.. كل ما تذيعه الفضائيات العربية «الجزيرة» و«العربية» وغيرهما يراه الإعلام السوري يحمل رسالة مغرضة ضد النظام، وأن المظاهرات التي تتناولها يوميا تلك الفضائيات وغيرها مجرد تزييف إعلامي تستخدم فيه تقنية «الفوتوشوب» التي تضاعف عدد المتظاهرين، والرسالة التي تبث هي «بنحبك يا بشار» أو كما يقولون باللهجة الشامية «منحبك يا بشار».

الأغاني لا تتوقف عن التغني به، مثلما حدث تماما في الإعلام الرسمي المصري أثناء الثورة للإطاحة بمبارك، كل شيء يبدو أنه سوف يتكرر، حتى الإطاحة بحسني مبارك التي استغرقت 18 يوما سوف تصل سوريا إلى نفس الهدف ولكن الثورة سوف تمتد هناك ربما إلى شهور، المؤكد أن الطاغية سوف يرحل في نهاية الأمر.

مهرجان دمشق منذ إنشائه عام 1979 وهو يتبنى شعار «السينما البديلة»، كان المقصود وقتها بالسينما هي السينما المصرية، حيث كانت مصر في ظل مقاطعة عربية بعد توقيعها على اتفاقية «كامب ديفيد» وقرروا أن تصبح أيضا في عزلة سياسية لها وجهها الثقافي، ولم يستمر الأمر طويلا، إلا أن مهرجان دمشق ظل محافظا على توجهه السياسي، فهو كان يرفع في بدايته شعار «سينما من أجل التحرر والتقدم» وكان لا يعرض أفلاما أميركية ولا أوروبية غربية وقت أن كانت أوروبا مقسمة بين شرقية وغربية، مكتفيا بالأفلام القادمة مما كان يعرف وقتها بأوروبا الشرقية.. أيضا كان المهرجان يعرض أفلاما فقط من أميركا اللاتينية مقاطعا الأفلام الأميركية والكندية.. تغير ذلك تماما في السنوات الأخيرة لأن سوريا سياسيا أرادت أن تثبت للعالم أنها تتعاون مع الجميع وتفتح قلبها للجميع، وهكذا صار الشعار هو «دمشق تحتضن العالم»! الفنان العربي الذي سوف يلبي الدعوة ويوجد في المهرجان حتى لو لم يصعد على خشبة المسرح مشيدا ببشار، فإن وجوده في تلك الحفلات التي تتحول إلى جلسات نفاق أراه يضع الفنان العربي في مأزق ولن يغفر له الشعب العربي.. المقاطعة التي ترفعها الشعوب لم تعد سورية أو مصرية أو تونسية ولكنها عربية. جزء كبير من الفنانين العرب خذلوا شعوبهم إبان الثورتين التونسية والمصرية، وهذه هي المعركة الفاصلة الثالثة لهم، فهل يواصلون نفاقهم للحكام أم ينحازون هذه المرة إلى الشعب؟.. انتظروا النتيجة أثناء انعقاد الدورة رقم 19 من مهرجان دمشق في شهر نوفمبر، إنها الفرصة الأخيرة للنجوم العرب لتبييض وجوههم أمام الشعب.