لبنان: عمالقة الأغنية أبعدهم الزمن الفني الرديء

مع سيطرة فناني وفنانات الشكل على ساحة الغناء

TT

إنه زمن الفوضى الفنية، ولكن في لبنان بلغت هذه الفوضى ذروتها، مع سيطرة فناني وفنانات الشكل على الساحة، وإقصاء الأصوات الجميلة التي فضل أصحابها التنحي والابتعاد، بل وحتى الاعتزال، بعدما وجدوا أنفسهم غير قادرين على مجاراة موجة أطاحت بكل ما له علاقة بالأصالة والجودة، رافضين تقديم تنازلات على كل المستويات الأخلاقية والفنية والشكلية.

قد يكون الشكل ضروريا، وقد يُبرر لبعض الأصوات الجميلة الخضوع لمبضع الجراح لتقديم فن يرضى عنه الناس، تماما كرضاهم على شكل الفنان، وهذا النهج اعتمده معظم فناني العالم العربي، ولكن في لبنان يبقى الوضع خاصا واستثنائيا جدا، لأن فنانيه تمسكوا بنغمة «إنه عصر الصورة والصوت»، فتحول معظمهم، وخصوصا الفنانات، إلى التسابق على تقديم الاستعراض في السرير والصالون والحديقة وغرفة المكتب والشارع، لإرضاء جمهور تبحث عينه عن مشهد إغراء هنا وحركة مثيرة هناك، دون الإصغاء إلى مطالب الأذن، التي يبدو أنها اعتادت على سماع أغنيات من دون معنى أو مضمون. لطالما سمعنا أنها موجة ولا بد أن تنتهي، ولكن يبدو أنها لن تنتهي في القريب العاجل، خصوصا بوجود منتجين يدعمون ووسائل إعلام تروج لمن يستطيع أن يملأ هواءها غنجا ودلالا... تحت مسمى الفن.

الكل يتذكر الفنانة منى مرعشلي صاحبة الصوت الرائع الذي غنى «تركني إنسالي إسمي»، «سافر يا حمام»، «شمس المغارب»، «علشان عيونك»، «مالي ومالك»، «يا شمس عمري غيبي»، «ليه تحلف بعنيا»، «لك شوق عندنا»، وغيرها من الأغنيات التي تترد بأصوات مطربي هذا الجيل. مرعشلي التي يضم رصيدها نحو 23 أغنية خاصة بدأت مشوارها الفني من خلال برنامج «استوديو الفن» في عام 1973 وأذهلت الجميع بصوتها. ويومها قال عنها الموسيقار سيد مكاوي: «لازم تيجي القاهرة علشان نسمعها كويس ونقدم لها الحاجة الكبيرة اللي تليق بيها»، أما بليغ حمدي فأعلن: «أنا جاهز لكي أتفرغ لها فورا»، بينما رأى الملحن محمد سلطان أنها «من طينة الكبار وتحتاج إلى رعاية خاصة».

مرعشلي المبتعدة عن الساحة منذ 8 سنوات ردت على الذين يعطون الشكل أهمية متقدمة على الصورة: «فليحتفظوا بالصورة لأنفسهم، أنا لا يهمني سوى الصوت، وهناك الكثير من الأصوات الجميلة التي ظُلمت ولم تنَل حقها في العصر الذين يُعرف بعصر الصورة والصوت، وأنا من بينها، وإن كنت أتحمل بعضا من المسؤولية لأنني خجولة ولا أرضى على نفسي الاتصال بالصحافيين لكي يكتبوا عني، ولكن مهما حصل، في النهاية لا يصح إلا الصحيح».

قليلون جدا هم الفنانون الذين يلفتون انتباه مرعشلي، «كل من يقدمون الفن بأشكالهم لن يستمروا أبدا، وبصراحة أنا لا أتابعهم، لأنهم لا يعجبونني ولا يمكنني تحملهم أو تحمل أصواتهم، وهؤلاء تبلغ نسبتهم 80% من إجمالي عدد المغنين الموجودين على الساحة. لم يعد يعجبهم سوى الريش، الغناء على الأسرّة والأغطية الملقاة على الأرض، وأنا لا أفهم الجدوى من ذلك. قد يحتاج التلفزيون إلى مثل هذه الأشكال، ولأنني لا أستطيع أن أكون مثلهم وأرفض النزول إلى معركة كهذه، وفضلت المكوث في بيتي، أنا وكثيرون غيري، لأن هذه الظاهرة ليست لنا ولا تناسبنا. وأنا ألوم الملحنين والشعراء لأنهم من المفترض أن يكونوا مبدعين، وأن يرفضوا التعامل مع هذا المستوى من الأصوات، وفرضهم على الناس، لأن معظمهم فرضوا فرضا، وهذا ما يعرفه الجميع».

وبكلام يجمع بين التشفي والشماتة، تضيف مرعشلي: «ربما نحن هدر حقنا، ولكن لا بأس، فيلجربوا وينالوا فرصتهم. هم لم يأخذوا من دربنا شيئا، وبمجرد أن ننزل إلى الساحة (كل واحدة بتقعد ببيتها)، وبصراحة أنا لا أعرف ماذا يجري في الكواليس لأن علاقاتي مقطوعة بالوسط الفني، ولا أعرف ما هي طبيعة التنازلات التي يجب أن تقدمها الفنانة، ولكن عندما كنت أغني كنت أعامل باحترام، لأنهم كانوا يخافون من الفنان. لست نادمة على عملي في الفن، لأن الجو الفني الذي كنت فيه كان راقيا جدا، والناس كانوا ينتظرونني ويلحقون بي إلى أي مكان أغني فيه. اليوم لم يعد يوجد سمّيعة، والجمهور لا يهتم سوى لـ(الخَلع)، وهو ليس لي. لا أنكر أنني أشعر بشوق كبير للغناء مجددا، ولكنني أكتفي حاليا بالغناء في بيتي، لأهلي وإخوتي». ولكن هل هذا يكفي؟ تجيب مرعشلي مباشرة: «حتى اليوم لم ينسَ الناس منى مرعشلي، وهذا أمر يشرفني ويشعرني بالفخر. صحيح أن الفنان يحب الحضور وتقديم الجديد بين فترة وأخرى، ولكنني مبتعدة بإراداتي، لأن الأجواء الفنية السائدة حاليا لا تليق بمستواي على الإطلاق. الفنان النظيف بحاجة إلى جو نظيف، وأنا لم أنظر إلى الفن على أنه مصلحة، ولم أتعامل معه في يوم من الأيام على أنه مصدر للمال».

كما رأت مرعشلي أن الوضع الفني في لبنان «بهدلة»، بوجود الفنانين الذين أساءوا إلى الفن اللبناني، «هذا معيب جدا، حتى إنهم يتجرأون على غناء أعمال فيروز ووديع الصحافي، ومن الأفضل لهؤلاء أن يتعلموا من هذين الكبيرين قبل أداء أغنياتهم. من لا يملك صوتا لا يحق له أن يغني للعظماء، ولكن يبدو أن الخجل أصبح عملة نادرة في الفن، بل حتى إن هناك من يؤدي أغنياتي من دون إذن مني، وهذا يدل على (قلة ذوقهم)، وبصراحة أنا لست راضية عن أي فنان يغنى أعمالي، لأنهم شوهوها».

الفنانة مها الريم شددت على أنها لم تنَل ما تسحقه فنيا، على الرغم من الجهد الذي بذلته، ولذلك كان قرار الابتعاد. فتقول: «أنا ابتعدت بملء إرادتي، وليس بسبب انتشار موضة الصورة والصوت، لأن العين لها حق كالأذن، بشرط أن لا يسيطر الشكل على المضمون. لا أنكر أنني اشتغلت ولم أنَل ما أستحقه، لأنني كفنانة أعرف قدراتي جيدا، ولقد ساهمت عوامل عدة في ابتعادي، بعضها شخصي، وبعضها الآخر له علاقة بالأساليب التي تنهج في الوسط الفني، وبخاصة المحاربة. وأنا تعرضت لمحاربة عنيفة، لكن طبيعتي كفنانة لا تسمح لي بالاختلاط في الأجواء التي تسمح لي بالمحاربة من أجل اصطياد فرصة.. وأنا حاليا أكرس كل وقتي لابنتي لأن لها حقا علي، على أن ألتفت في مرحلة لاحقة إلى نفسي وصوتي، إذا شاء الله، بأن أستعيد مكانتي على الساحة الفنية».

الريم لم تنفِ التزام الأصوات الجميلة بيوتها، عندما تم تسليط كل الأضواء على «كمّ من الأشكال»، وأوضحت: «أعترف أنني قصرت تجاه فني، ولو كنت على استعداد لخوض المعركة لكان الوضع تغير، بدليل أن هناك أصواتا (رجالية) جميلة جدا تقدم أعمالا جيدة وتنال نصيبها من النجاح والشهرة، والتقصير لا يطال سوى الأصوات النسائية، وهذا أمر لافت، ومن فرضن أنفسهن على الساحة هن صاحبات الأشكال الجميلة والاستعراضية. التنازلات في الفن كثيرة، والأمر يرتبط بالفنانة نفسها، وفي كل الأحوال يمكن التمييز بشكل واضح بين الفنانة التي تقبل بها وتلك التي ترفضها، وهذا الأمر سبّب لي نوعا من القرف الذي لا يمكنني أن أنكره، ولا أنكر أيضا أنني شعرت في فترة من الفترات بالإحباط، لأن الله منحني نعمة غالية تشغل حيزا كبيرا من حياتي وشخصيتي، ويجب أن أقدرها وأن أضعها في الإطار الذي تستحقه. ما نعاني منه فنيا في لبنان يعاني منه الوطن العربي كله، ولكن نحن في لبنان (زيادة شوي). أنا أستغرب كيف أن بعض المحطات تسمح لبعض الأصوات بملء هوائها، من خلال أداء أغنيات دون مضمون يدعون أنها (تطور في الكلمة)، ولكنني لا أجد تفسيرا لها».

الفنانة مادونا التي تربعت على عرش الغناء والاستعراض في مرحلة الثمانينات والتسعينات، تعرضت لمحاربة شرسة، لأنها «أقوى وأجمل امرأة» على حد قولها. وتوضح: «أنا كنت صادقة جدا، والفن في هذه الأيام لا يريد صدقا وحقيقة ووضوحا، بل تنازلات، بيع كرامة وامرأة تُشترى، مع احترامي لبعض الفنانات المحترمات. ببساطة، (السوق عاوز كده)، ونحن لسنا فنانات سوقيات، بل محترمات، نحترم الله، فننا يحترمنا وتاريخنا يتحدث عنا، وكذلك أعمالنا الخيرة وأيادينا البيضاء، وعندما نرحل عن هذه الدنيا لن نأخذ معنا سوى صيتنا وأعمالنا». كما تساءلت: «هل توجد فنانة محترمة في هذا الزمن تنتج أعمالا، على الشكل المطلوب، إلا إذا كان هناك شيء (مش مظبوط) يحصل وراء الكواليس؟ أنا موجودة شكلا ومضمونا، صاحبة نفسية محترمة وأتمتع بالثقافة الفنية، وأحاول أن أسعى، لكن الضربات تأتي الواحدة تلو الأخرى. إنه القدر، ولكني لا أزال موجودة، وأنا حاليا بانتظار أصحاب الضمير الذين يشتغلون بنزاهة، لأن الموجودات حاليا لسن أفضل مني على الإطلاق».

ولكن هذا الوضع لا يزعج مادونا على الإطلاق، فتقول: «أنا متربعة على عرشي، صنعت نجوميتي وأريد أن أكمل طريقي، والموجودات حاليا يحتجن إلى وقت طويل لكي يصلن إلى العز الذي وصلت إليه. كل ما يقمن به هو مجرد خطوة أولى في مشوار النجومية والعصر الذهبي الذي عرفته. أنا قدوة لجميع الفنانات، مني تعلمن الذوق والشياكة والفن والرقص، حتى إنهن يرجعن إلى أرشيفي لكي يستنسخن ملابسي واستعراضاتي. أنا مدرسة والكل تلاميذي، ومن تنجح أفرح بها لأنها تستوحي مني ومن أعمالي. صحيح أنني ابتعدت عن الإنتاج ولكنني لم أقدم أعمالا فاشلة أو حفلات فاشلة كما يحصل مع البعض، اللواتي تنطفئ نجوميتهن تدريجيا بسبب انشغالهن بالصورة، والأجدى لهن أن يحافظن على قيمتهن وتقديم أعمال جميلة، بدلا من (اللعلعة) التي لا جدوى منها وتصيب الناس بالملل».

كما تحدثت مادونا عن مافيات في شركات الإنتاج، قائلة: «لا يمكنني أن (ألحق عليها وأنا مش قدها)، وكل عملي من تعبي وعرق جبيني، ولدي مسؤوليات عائلية. أما الأخريات فلا أعرف مصدر أموالهن، وإذا تبدد من بين أيديهن فلن يتأثرن على الإطلاق. شخصيا لم يتطلب مني تقديم تنازلات، ولكنني أسمع بها، ولا أفهم لماذا يجب أن تكون الفنانة حبيبة صاحب الشركة أو (صاحبة) زوجته لكي تسير أوضاعها الفنية على أفضل ما يرام. انظري واسألي ما يحصل على الساحة، ثلاثة أرباع الفنانات هكذا. بدايات الكل معروفة، كيف بدأن وأين أصبحن وماذا فعلن، وهذا يكفي لمعرفة حقيقة كل فنانة، وأنا منذ أن بدأت وحتى اليوم كنت صادقة، حقيقية وواضحة، وأنا أقول لهن ولنفسي: (في الله وآخرة بهالدنيا)، وهؤلاء لا يستحققن لقب فنانات، لأن لقب فنانة ثمنه جنى العمر، بينما هن لا شيء. لا أسمعهن ولا أشاهدهن، وما حققته يحتجن إلى مائة عام لكي يصلن إليه، لأنني فنانة صاحبة مبدأ وقدمت أعمالا مسرحية، بينما الأخريات لا يتعدى رصيدهن بضع حفلات ومهرجانات، حتى الفن الذي يقدمنه لا يستحق التوقف عنده، فهو مسلٍّ ومهضوم ولكنه غير مغذٍّ، ولا أعرف ما إذا كان الذي يرددونه هو أغنيات».

مادونا التي تعتب أنها غيبت قسريا عن الساحة، تقول: «لا أعرف ماذا يخبئ لي المستقبل، ولكن ما تحملته في الحياة لا يمكن لأحد غيري أن يتحمله. فهناك فنانون انتحروا بسبب أزمات بسيطة تعرضوا لها، وأنا أشكر الله لأنه إعطاني العقل الوازن والوعي الكافي».

الفنان عبده ياغي انطلق من برنامج «استوديو الفن» عام 1972 - 1973 من نفس الدورة التي تخرّج منها الفنانان وليد توفيق وماجدة الرومي. تميز بأداء القدود الحلبية وله مجموعة أغنيات حققت الانتشار مثل «ماريا»، «ليلى يا ليلى يا بنت الناس» و«علي كاسك»، كما شارك في سلسلة أعمال مسرحية وكان عنصرا مهمّا في مسرح روميو لحود كمطرب وممثل، أشهرها مسرحية «بنت الجبل» مع أنطوان كرباج والمطربة الراحلة سلوى القطريب.

ياغي اشتكى من تقصير الإعلام وشركات الإنتاج، قائلا: «أنا سعيد لأنني بفضل فني ربيت عائلتي، رفعت اسم بلدي في الداخل والخارج والكل يتمثل بي، وأتحدى أي مطرب لبناني وعربي أن يقف قبالتي. لا أجيد تقبيل الأيادي، ولا يهمني أن تتحدث الصحافة عني، وهذا (آخر همي). جمهوري يعرفني جيدا، ومن يُرِد حفلة (بتبيض الوجه) يرسل بطلبي. أنا مستمر على الرغم من كل الصعوبات والأجواء الفنية، لأن ثقتي بنفسي كبيرة، ولا يمكن أن أفكر في الاعتزال، إلا عندما أفقد صوتي. الشيء الوحيد الذي لا أعرفه هو كيف يفكر القيمون على محطات التلفزة، هل هم يريدون أشكالا وشبانا في مقتبل العمر؟ مثل هذه الأمور لا تحدث سوى في لبنان، مع أن الفنان هو كاريزما وطلة وموهبة. ويبدو أن هناك مافيات في الإعلام كما في الموسيقى. ولأنني أستطيع أن أغني 5 ساعات دون توقف، لا أجد سببا لعدم الاهتمام بي، ربما هذا الزمن لا يحتاج إلى فنانين حقيقيين، بل فنانين (هيت إيديك والحقني)».

وقارن ياغي بين الفن في لبنان والدول العربية قائلا: «عندنا لا يوجد تقدير للكلمة والصوت، بينما في دول العربية والخليج لا يزالون يحافظون على قيمتهما، ويبدو إن وسائل إعلامنا (تلحق الرتش)، والمسؤولون عنها لا يملكون الحد الأدنى من الثقافة والذوق الفني. لدي أعمال مهمة جدا، ولكني لا أجد من ينتجها لي، أما الإذاعات فتطلب 10 آلاف دولار شهريا لقاء بثها، وأنا لا أستطيع تحمل كل هذه النفقات. بصراحة، أنا لا أعرف من أين يأتي الفنانون بالمال، ولا بد أنهم مدعومون من أشخاص ممولين، وخصوصا الفتيات، بل هناك فنانات يستترن وراء لقب فنانة لتحقيق غايات مشبوهة، ما يشوه صورة وصيت الفن اللبناني».