ثورات الربيع العربي تنقذ مهرجان الإسكندرية السينمائي!

في انتظار أبوظبي والدوحة ودبي

TT

أنقذت الثورة المصرية مهرجان الإسكندرية السينمائي، حيث توجهت الأنظار إلى الثورة ولم يلاحظ أحد أنه لم يكن هناك في الأصل مهرجان سينمائي.. بدأت الفعاليات بالنداء الذي وجهه المخرج خالد يوسف مطالبا بالإفراج عن المصور طالب معهد السينما فادي السعيد، ثم انتهت الفعاليات عندما صعد إلى خشبة المسرح أغلب المشاركين في المهرجان من ضيوف وأعضاء لجنة تحكيم وهم يرتدون تي شيرت مطبوعا عليه صورة لفادي السعيد!! لو أنك قررت تقييم المهرجان فنيا ستجد أنه لم يكن هناك على أرض الواقع مهرجان.. كان المهرجان بلا أفلام سينمائية إلا في ما ندر، حيث إن نصف العدد من الأفلام العشرة التي شاركت بالمسابقة الرسمية تم عرضها على أسطوانات «دي في دي»، وعدد من هذه الأفلام حصل على جوائز، مثل الفيلم الإيطالي «حياتنا» الحاصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة، والمغربي «بيجاسوس» الحاصل على جائزة السيناريو.

رئيسة لجنة التحكيم المخرجة الإسبانية هيلينا تابرتا اعترضت على الاستمرار في تقييم الأفلام كرئيس للجنة، نظرا لأن المهرجان سينمائي ولا يجوز متابعة الفيلم على «دي في دي»، خصوصا وأن نصف الأفلام الأخرى تتم مشاهدتها سينمائيا، مما يعني انتفاء العدالة في الحكم بين فيلم وآخر.

حاول خالد الصاوي إقناع أعضاء اللجنة ورئيسة لجنة التحكيم بالاستمرار في المشاهدة بحجة أن الثورة هي العائق الأساسي للمهرجان، وأن إضراب الطيارين المصريين الذي بدأ يوم 5 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي في ليلة افتتاح المهرجان هو الذي أسفر عن كل ما حدث من تأخر وتسيب في المواعيد، رغم أن لائحة المهرجان تفرض وصول الأفلام قبل بداية المهرجان بأكثر من شهر.. الأخطاء التي ارتكبها المهرجان لا علاقة لها بالثورة المصرية، ولكن بعدم الاكتراث والكسل الذي كان هو دائما الطابع المميز لمهرجان الإسكندرية، ليس فقط هذه الدورة ولكن طوال تاريخ مهرجان الإسكندرية، وهو مرتبط دائما بالفضائح!! يبدو أن رئيسة لجنة التحكيم لم تقتنع بأن الأمر خارج عن إرادة القائمين على المهرجان، ولهذا غابت عن حضور حفل الختام، بينما نجح الصاوي في إقناع باقي الأعضاء بالاستمرار في مشاهدة الأفلام سواء أكانت على أشرطة سينمائية أم «دي في دي».

أصبحت الثورة المصرية هي المذنب والفاعل الرئيسي لكل إخفاقات مهرجان الإسكندرية باعتبارها هي السبب في تأجيل أغلب الأنشطة الثقافية التي تولتها وزارة الثقافة، ولهذا أصبح الرهان الذي أعلنه وتباهى به منظمو مهرجان الإسكندرية أنهم أقاموا مهرجانا وهذا يكفي.. لا أدري ما أوجه البطولة في إقامة تظاهرة ثقافية ثم لا تجد أي شيء له علاقة بالسينما أو الثقافة على وجه العموم! صحيح أن طعم الثورة فرض نفسه على كل الأجواء ولكن أين السينما؟ لقد صارت الثورة وتبعاتها هي الشماعة التي يعلقون عليها كل تسيب وفساد شاب المهرجان منذ أن أقيم حفل الافتتاح، ولم يستطع المهرجان الحصول على أفلام قدمت عن الثورة المصرية، حيث إن فيلمي «18 يوم» و«الطيب والشرس والسياسي» فضلا الذهاب إلى مهرجان أبوظبي الذي افتتحت فعالياته مساء أمس (13 أكتوبر) وسوف يعرض مساء اليوم فيلم «الطيب والشرس والسياسي».

حتى الفيلم الروائي «أسماء» فضل مخرج الفيلم عمرو سلامة ومنتجه محمد حفظي عرضه رسميا في مهرجاني أبوظبي ولندن.. الندوات تعتبر أحد أهم معالم المهرجانات مثل مئوية نجيب محفوظ، التي كانت عنوانا مميزا للمهرجان، ألغيت لأنه لم يحضر أحد من الجمهور ولا الصحافيين إلى مكتبة الإسكندرية، حيث كان من المفترض إقامة هذه الاحتفالية بنجيب محفوظ!! بعد أيام قليلة تقام مئوية لنجيب محفوظ في مهرجان أبوظبي، ويُعرض عدد من أفلامه، وبالفعل هناك دراسة وأفيشات لأفلامه، وسوف تتضمن الدراسة ليس فقط القصص الروائية التي قدمت لنجيب محفوظ سينمائيا، بل سوف يتم تناول أسلوب نجيب محفوظ في الكتابة السينمائية، حيث إنه مارس أيضا الكتابة مباشرة للسينما في أفلام مثل «إحنا التلامذة» و«جعلوني مجرما» و«بين السماء والأرض» وغيرها من الروائع الفنية، فهي أعمال فنية ليست مأخوذة عن روايات أدبية لنجيب محفوظ أو غيره من الكتاب ولكنها مكتوبة مباشرة للسينما.

هذا الجانب كان من المهم جدا أن يلقى عليه الضوء، خصوصا وأنه في الاستفتاء الذي أجراه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عن أفضل المبدعين في المجال السينمائي احتل محفوظ ككاتب للسيناريو المرتبة الثانية في تاريخ السينما المصرية، وجاء علي الزرقاني في المركز الأول.. أيضا علاقة نجيب محفوظ بثورة يوليو، وهل كان رافضا للحكم العسكري في أعماله الروائية، مثلا انتقد عبد الناصر لكنه في تصريحاته كان يدافع عنه، خصوصا وأنه كما هو معروف أنه عندما صدر الاعتراض من الأزهر الشريف على نشر رواية «أولاد حارتنا» في «الأهرام»، دافع عبد الناصر عنها ورفض إيقاف نشرها.. أما علاقته بالسادات فلقد شابها أيضا الكثير من الشد والجذب، فلقد هاجمه السادات في خطاب شهير قبل حرب 73 وفي نفس الوقت كان نجيب محفوظ من أكثر الأصوات التي دافعت عن اتفاقية كامب ديفيد وتعرض بسببها للمقاطعة العربية التي طالت كل من كان مؤيدا للسادات. وهكذا مثلا أضير نجيب محفوظ ماديا، حيث أصبحت شركات الإنتاج تخشى من التعاقد معه، بل كانت بعض قصصه الشهيرة يتم تغيير عنوانها لتحمل أسماء أخرى حتى لا يكتب اسمه على العمل الفني فيتم رفضه، مثل فيلم «دنيا الله»، المأخوذ عن رواية له، تم بيعه للدول العربية باسم «عسل الحب المر».

مهرجان أبوظبي يحتفل بنجيب محفوظ وبشاعر الهند الشهير طاغور من خلال دراسات وأفلام ومعارض صور، فماذا فعلنا نحن في مهرجان الإسكندرية؟.. لا شيء.. مهرجان بغداد مثلا في دورته الثالثة التي انتهت فعالياته قبل أيام وكان مواكبا لمهرجان الإسكندرية ولا يمكن لأحد مثلا أن يقول إن بغداد أمنيا واقتصاديا مستقرة أكثر من القاهرة، فالدولتان مصر والعراق تعانيان من الانفلات الأمني ومن صعوبات اقتصادية، وبالتأكيد معاناة العراق أكبر، ولكن خرج مهرجان بغداد أكثر تنظيما رغم أن هذه هي فقط دورته الثالثة بينما مهرجان الإسكندرية هذه هي دورته رقم 27، وكان قد أطلق أولى دوراته عام 1978 وتعثرت بعض فعالياته إلا أنه على الساحة العربية يعد المهرجان الثالث الأقدم زمنيا، حيث سبقه فقط مهرجان قرطاج عام 1966 ثم مهرجان القاهرة 1976.

كان يبدو المهرجان وكأنه مجرد تسديد خانة للقائمين عليه، هم يريدون إقامته لكي يقولون أقمنا مهرجانا، وبدأ الضغط الأدبي يأخذ مجراه على وزير الثقافة عماد أبو غازي الذي واجه ضغوطا كثيرة تجبره على إقامة المهرجان.. كل ما فعله الوزير أنه وافق على التصريح به، أما المليون جنيه مصري (أقل من 200 ألف دولار) فلقد كان فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق هو الذي اعتمدها في العام الماضي بمجرد انتهاء الدورة السابقة، ولم يكن أحد من الناحية القانونية يستطيع توجيه هذه الأموال إلى أي نشاط ثقافي آخر سوى بإعادتها مرة أخرى إلى وزارة المالية، ولكن من الواضح أن الدولة لم تكن تملك إلغاء هذه الدورة حتى ولو كانت هذه هي رغبتها، إلا أن وزارة الثقافة المصرية قررت متابعة المهرجان فنيا وماليا من خلال تقارير يكتبها متخصصون عن المهرجان، وهناك بالفعل مراقب مالي وفني للمهرجان، وأكد مدير المركز القومي للسينما بأنه قد كلف المخرج مجدي أحمد علي بتقديم تقرير فني عن المهرجان.. مثلا عندما قررت إدارة المهرجان عرض فيلم «الحاوي» ضمن الفعاليات الرسمية رغم أنه سبق عرضه تجاريا قبل بضعة أشهر، رفض المركز القومي للسينما الذي يشرف على المهرجان على اعتبار أن هذا مخالف ليس فقط للائحة مهرجان الإسكندرية، بل لكل اللوائح والأعراف التي تتعلق بالمهرجانات، حيث لا يجوز عرض فيلم رسمي في فعاليات المهرجان سبق عرضه تجاريا في نفس مدينة إقامة المهرجان!! كان يبدو أن المهرجان يبحث عن ندوات، ولهذا رغم حالة الغضب العارم الموجه ضد وزير الإعلام أسامة هيكل المتهم بإفساد الإعلام الرسمي وعودته إلى حضن النظام بكل سلبياته، حيث أصبح هو لسان حال المجلس الأعلى للقوات المسلحة، في ظل كل ذلك نرى أن المهرجان يوجه إليه دعوة للحضور وإقامة ندوة عن السينما رغم أنه الوزير المتهم بمطاردة كل القنوات الفضائية التي تبحث عن أي قدر من التحرر. وأتصور أن التقرير القادم الذي سوف يصدره قريبا المركز القومي للسينما سوف يتضمن الكثير من السلبيات التي شابت هذه الدورة من مهرجان الإسكندرية بحجة الثورة المصرية!! الثورة كان ينبغي أن تصبح دافعا للسينما وليست طاردا لها، ولكن ما حدث أن المهرجان يعلن عن إقامة ندوة تتناول الثورات العربية وتأثير السينما، ولم نقرأ دراسة تناولت هذا الحدث مثلا ولكن مجرد كلمات عرجاء من عدد من الضيوف تصادف وجودهم بالمهرجان.. كانت الندوة مجرد تسديد خانة وكأنهم يقولون «هذه الدورة عملت اللي عليها وتناولت الثورة والسينما»!! اختيار أفيش المهرجان جاء مباشرا ويخلو من أي إبداع فني في التعبير عن الثورة والسينما، حيث شاهدنا مجرد شاب يصرخ في أسفل الكادر، أما في أعلى الكادر فلقد وضعت صورة فتاة ولا شيء أكثر من ذلك، وهكذا تم تسديد خانة أخرى عن السينما والثورة.. ومع الأسف لا يصنع ذلك بالتأكيد مهرجان يتطلع لأن يصبح له مكان ومكانة على خريطة مهرجانات الدنيا!! الناس لم يكن تعنيها السينما.. الحدث هو المسيطر منذ البداية، ولكن ما دمنا في مهرجان سينمائي فإن التعبير ينبغي أن يصبح سينمائيا بالدرجة الأولى، إلا أن ما سيبقى في الذاكرة هو أن المهرجان كان يخلو من السينما منذ افتتاحه حتى الختام.

استطاع المخرج خالد يوسف أن يحرك مؤشر المشاعر في ليلة الافتتاح لتتوجه إلى المصور فادي السعيد المقبوض عليه بتهمة تصوير حدث اقتحام السفارة الإسرائيلية بالقاهرة، لنصل إلى ليلة الختام ونشاهد أيضا أغلب الضيوف من السينمائيين يرتدون تي شيرت مرسوم عليه صورة فادي، ثم يمسك المخرج فوزي صالح الحاصل على جائزة المهرجان في الفيلم التسجيلي «جلد حي» ويعلن أن الجيش يضرب ويقتل في الأقباط أمام ماسبيرو ويهتف ضد المجلس الأعلى للقوات المسلحة وينزل من فوق خشبة المسرح ولا يحصل على جائزته. ولا أتصوره كان حريصا عليها لأننا كنا بالفعل نعيش، ليس أجواء مهرجان ولكن في حدث سياسي تحياه مصر بعد الثورة، وأقيم على هامش الحدث ما أطلق عليه البعض تجاوزا مهرجان!! مساء أمس افتتح مهرجان أبوظبي دورته الخامسة، ويوم الـ25 من أكتوبر الحالي يفتتح مهرجان الدوحة دورته الثالثة، وفي الـ7 من ديسمبر (كانون الأول) المقبل موعدنا مع أقدم المهرجانات الخليجية (دبي) في دورته الثامنة، وستطل ثورات الربيع العربي تهيمن على كل هذه المهرجانات إلا أننا بالتأكيد سوف نرى سينما!!