«الشوق».. من «الأوسكار» إلى «ترايبكا»

واقعية سوداء تفتقد سحر السينما

مشهد من فيلم الشوق
TT

ينتقل الفيلم المصري «الشوق» من انتصار فني إلى آخر.. كانت البداية قبل نحو عام، عندما حصل على جائزة «الهرم الذهبي» في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وهي من المرات القليلة في عمر مهرجان القاهرة التي تتوج فيها السينما المصرية بالحصول على الجائزة الكبرى للمهرجان.. وقبل أقل من شهر رشح الفيلم لتمثيل مصر في مسابقة «الأوسكار» لأفضل فيلم أجنبي، التي تعلن في نهاية شهر فبراير (شباط) القادم، وهو الآن يمثل السينما المصرية في المسابقة الرسمية للفيلم العربي في مهرجان الدوحة «ترايبكا» السينمائي في دورته الثالثة التي تعلن نتائجها مساء الغد.

فيلم «الشوق» لم يعرض تجاريا بعد، وأتصور أن انتقاله من مهرجان إلى آخر يزيد من حالة الترقب للعمل الفني لدى الجمهور.. ويتجدد السؤال: هل حصول الفيلم - أي فيلم - على جائزة خاصة (لو كانت تمثل قيمة أدبية) يصبح بالنسبة له درعا واقية وحائط صد يحميه ضد أي نقد؟.. أم أن للجائزة أعراضا جانبية مثل بعض الأدوية التي ربما تؤدي إلى مخاطر أخرى لو لم يتم ضبط الجرعة، فتفعل شيئا عكسيا تماما، حيث إنها تفتح شهية النقاد وأيضا الجمهور للبحث وراء هذا الفيلم الذي صار مثل ملكة جمال الكون بمجرد أن تراها تبحث عن الشيء المختلف بينها وبين كل النساء في الدنيا اللائي لم يحصلن على اللقب، ولهذا قد تناصب لا شعوريا الفيلم الحائز لجائزة كبرى العداء وأنت تطيل النظر للبحث عن سر هذا التفوق؟! شاهدت فيلم «الشوق» للمخرج خالد الحجر.. أعجبتني أشياء وانتقدت أشياء أكثر.. وتساءلت: كيف يحصل على جائزة «الهرم الذهبي» متفوقا على أفلام عالمية شاركته التسابق وكانت أفضل منه فنيا بمراحل؟.. لست ممن يتشككون عادة في لجان التحكيم التي يتم أحيانا توجيه مسارها لأسباب سياسية أو فكرية، أو قد تستجيب لمبدأ يتبع في بعض المهرجانات وتحديدا العربية، وهو أن الدولة المضيفة لا ينبغي أن تخرج من المولد بلا جائزة.. لا أعتقد أن هذا هو ما يحدث بالضرورة؛ لكني أرى أن الجائزة تعبر فقط عن قناعة لجنة التحكيم التي تمنحها، والدليل أن هذا الفيلم شارك في مسابقة الفيلم العربي في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ومع لجنة تحكيم مختلفة، وخرج خاوي الوفاض بلا أي جائزة، في الوقت الذي حظيت فيه ستة أفلام عربية من بين عشرة أفلام شاركت في المسابقة نفسها على جوائز!! علينا أن ننحي تماما من الحسبة الفنية الجائزة التي حصل أو لم يحصل عليها الفيلم ونحن نشاهد التقييم للشريط السينمائي.. تجري أحداث فيلم «الشوق» داخل مدينة الإسكندرية (العاصمة الثانية بعد القاهرة) التي صارت تشكل عامل جذب لأكثر من مشروع سينمائي خلال الأشهر الأخيرة، وفي أحد الأحياء الشعبية لتلك المدينة نتعرف على أفراد هذه الحارة وهم من الفقراء الذين يلتقطون رزقهم بشق الأنفس من الحياة التي كثيرا ما تضن عليهم بلقمة العيش..

نرى صاحب الكشك الذي نجح مؤخرا وبعد معاناة في الحصول على ترخيص ببنائه؛ ولكن لا يحق له أن يقيمه في شارع رئيسي ولهذا يقتطع قطعة من منزله يحيلها إلى مكان للكشك ويصبح زبائنه هم أنفسهم أهل الحارة الفقراء.. ثم يمتد الكشك ليصبح أقرب إلى كافيتريا صغيرة يلجأ إليها هؤلاء البسطاء بأموالهم الضئيلة ليسرقوا لحظات من السعادة حتى ولو كانت مغموسة بالغياب عن الحياة، فهم يتعاطون أردأ أنواع الخمور والمخدرات!! وتتعدد التنويعات الدرامية داخل الحارة، لدينا أيضا بائع «الجاز» الذي لا تستطيع زوجته معاشرته بسبب رائحته المنفرة فتقيم علاقة مع الشاب ابن الجيران.. أما العائلة الرئيسية في الأحداث فإنها تلك المكونة من سوسن بدر وزوجها سيد رجب وابنتيها روبي وميرهان والطفل الصغير الذي نكتشف أنه مصاب بفشل كلوي ويحتاج إلى غسيل مرتين أسبوعيا.. الزوج يعمل في محل لإصلاح الأحذية ولا يمتلك القدرة المالية التي تعينه على تحمل النفقات التي يتطلبها العلاج.. ولا تجد سوسن بدر إلا وسيلة وحيدة بعد أن أوصدت أمامها كل أبواب الرزق، وهي أن تتسول لتعيش، ولأنها تخشى أن يراها أحد في الإسكندرية فإنها تتجه للقاهرة وتتعرف على عاملة تقف حارسة على دورة مياه تلتقط هي الأخرى رزقها.. حرصت سوسن في أدائها للدور ألا تظهر وهي تمد يدها استجداء؛ ولكن تشعرنا وكأنها تطلب حقها من هؤلاء الميسورين وليس مجرد حسنة لله يدفعونها إذا رغبوا ويضنون بها إذا أرادوا.. يموت الطفل قبل أن تلحقه أمه بمصاريف العلاج، وتتحول الأم إلى طاقة مدمرة لنفسها ولمن معها.. يتأثر السيناريو الذي كتبه سيد رجب في أول تجربة درامية له في جانب كبير منه بمسرحية «زيارة السيدة العجوز» للكاتب السويسري دورينمات، ليصبح أهل الحارة بالنسبة لها هم أهل القرية في المسرحية العالمية، وتسعى لشرائهم والانتقام منهم؛ بل تتلصص عليهم لكي تصبح لها الهيمنة عليهم بعد أن عرفت نقاط ضعفهم..

كانت الأسباب بالطبع مقنعة وحتمية في المسرحية العالمية عندما تعود السيدة العجوز إلى قريتها التي طردت منها وهي شابة وتنتقم من أهلها بعد أن صارت عجوزا، وكأنها تنتقم ممن سرقوا عمرها؛ لكني هذه المرة لم أجد أي مبرر سوى أننا نتعامل مع شخصية تتملكها بين الحين والآخر لمحات هستيرية، ولهذا أثناء رحلتها من الإسكندرية للقاهرة تترك ابنتيها في هذه السن الحرجة بلا رعاية، مع أب غائب عن الحياة بفعل إدمانه للخمور والمخدرات، ونجد أيضا أن الابنتين روبي وميرهان تفقدان الأمل في الحصول على عريس، لأن محمد رمضان خطيب ميرهان يترك الحارة، فهو يتطلع لمستقبل أفضل، بينما أحمد عزمي ترفضه أسرة روبي، لأنه فقير ماديا لا يستطيع أن يضمن لها بيتا! طوال الأحداث وفي بيت سوسن بدر نراها تحمل لغزا إنسانيا، ويوحي الفيلم بأن لديها قدرات خاصة، فهي تقرأ الفنجان، وفي الوقت نفسه نستشعر بالمرض النفسي الذي يحيلها في لحظات إلى حالة من الهياج تدفعها لكي تضرب رأسها في الحائط ويعلو صوتها تدريجيا بإيقاع متصاعد (كريشندو) يتحول في لحظات إلى قدر من الخشونة يقربها إلى عالم الرجال وهي تردد عشرات المرات «يا ولاد الكلب».. في كل مرة تقدم فيها على هذا الفعل الذي لا تمارسه فقط إلا في بيتها بالإسكندرية، ولا تدري لماذا لا تأتي لها هذه الحالة في القاهرة، يتم إنقاذها قبل أن تغرق في دمائها؛ ولكن في نهاية الفيلم كان يبدو وكأن الجميع قد توافقوا على أن يتركوها تنهي حياتها بنفسها، بعد أن استطاعت أن تكتنز أموالا للبنتين..

نكتشف ذلك في المشهد الأخير للفيلم، فبينما يكون الأب نائما فإنهما تتركان له بعض الأموال ثم تنطلقان بعيدا ومعهما «زكيبة أموال الشحاتة» لنرى شاطئ الإسكندرية وكأنه يحضنهما!! الفيلم صاخب في بنائه الفني، كل شيء فيه يخاصم الإيحاء.. يبدو المخرج عالي النبرة دائما، ولم يستطع أن يقدم ممثليه في حالة ألق.. روبي وعزمي ورمضان والوجه الجديد ميرهان، كانوا مجرد شخصيات تبحث عن دور وعن مخرج لديه قدرة على التوجيه الفني..

السيناريو يعيد المعلومة الدرامية أكثر من مرة، حتى صديقة سوسن بدر المرأة السمينة التي تلتقيها في القاهرة نراها تعيد على مسامعها المعلومة أكثر من مرة وهي تؤكد أنها لن تموت مثل البشر؛ ولكنها كالبالون سوف تنفجر، ولا تكف عن ترديد ذلك في أكثر من مشهد.. أما سوسن بدر، التي أعتبرها الممثلة الأهم في جيلها على المستوى العربي وليس المصري فقط، فإنه لو كانت لدى المخرج قدرة على ضبط درجة الأداء لوجدنا أن النتائج أفضل.. أقول ذلك على الرغم من حصولها على جائزة أفضل ممثلة من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عن هذا الدور، واسمها أيضا تردد بقوة كإحدى أهم المرشحات للحصول على جائزة في مهرجان «الدوحة ترايبكا»!! يبدو أن المخرج كان سعيدا بتلك الحالة الصاخبة على مستوى الحدث الدرامي، فهو يبحث دائما عن ذروة المأساة.. لم أشعر بإشعاع السينما ولا بتلك الواقعية الساحرة التي كنا نراها في أفلام شديدة القسوة في واقعيتها؛ لكنها أيضا لا تفقد أبدا سحرها الفني مثل الأفلام الواقعية في السينما المصرية لصلاح أبو سيف وعاطف الطيب، أو الواقعية السحرية في العديد من أفلام أميركا اللاتينية التي انتقلت من الأدب إلى السينما.. واقعية خالد الحجر جاءت خشنة زاعقة تفتقد الوميض الفني.. فيلم «الشوق» كان بحاجة إلى تأمل وهدوء في التعبير، وإلى إحساس حقيقي بالشوق!!