الوسط الفني يترقب بخوف عام 2012

من نفاق ثورة 25 يناير إلى نفاق التيار الإسلامي

TT

وكأننا ننتظر ساعة الحسم التي تهل علينا بعد ساعات مع إطلالة رأس السنة.. البعض يحاول اختصار الموقف الحالي إلى تلك المعادلة.. الراقصة دينا تتحدى التيار الديني المتشدد في مصر وسوف تقدم كعادتها ثلاث فقرات (نمر) في ليلة رأس السنة تنتقل فيها من فندق إلى آخر رغم احتجاج قطاع عريض من هذا التيار الذي لا يريد فقط منع الرقص ولا إغلاق الملاهي الليلية، ولكنه يحرم الفن بكل أطيافه بل هناك من يحرم أيضا صوت الموسيقى حتى لو كانت مصاحبة للغناء الديني!! الوسط الفني في حالة ترقب وانتظار ولكن البدايات تشير إلى أن التوافق مع أي قيود قادمة تلوح في الأفق، سوف تسيطر على الصورة القادمة للحياة الفنية، والتي سوف تمتد بالضرورة إلى الحياة الثقافية، راجع مثلا البيانات التي أعلنتها غرفة صناعة السينما المصرية وأكثر من كيان سينمائي وعدد من الفنانين تؤكد أنه من الممكن أن يشاركوا في التمثيل والتأليف والإخراج والتوزيع بل والإنتاج تبعا لما يريده هذا التيار. وعدد من المنتجين بالفعل أكدوا أنهم بصدد الإعداد لمشاريع مقدمة طبقا للمواصفات الإسلامية، والحقيقة أنك لو عدت للتاريخ المعاصر سوف تجد شيئا قريبا من هذا مع قيام ثورة 23 يوليو قبل نحو 60 عاما، شريعة الوسط الفني هي التوافق مع أي نظام قادم!! لم يمضِ أكثر من أسبوعين على قيام الثورة حتى أصدر اللواء محمد نجيب، أول رئيس لمصر، بيانا وجهه للفنانين عنوانه «الفن الذي نريده»، وانتقد في هذا البيان الأفلام المصرية التي كانت تقدم في تلك السنوات ودائما بها رقصة أو أكثر.. لو عدت للأرشيف السينمائي في مصر قبل عام 52 فإنه من النادر أن يخلو فيلم سينمائي من رقصات وأغانٍ وملهى ليلي بغض النظر إذا كان الفيلم يحتمل ذلك أم لا، وقد عقد بعد ذلك رجال الثورة اجتماعا مع عدد من السينمائيين طالبوهم فيه بأن يقدموا فنا يتوافق مع روح الثورة، والغريب أن أغلب السينمائيين وافقوا على أن يقدموا في أفلامهم القادمة قضايا وشخصيات بها روح الثورة.. أكثر من ذلك كان العدد الأكبر من السينمائيين الذين حضروا المناقشة قد ارتدوا الزي «الكاكي» كنوع من المبايعة للعسكريين لتأكيد أنهم على العهد يؤيدونهم.

شريعة الفنانين والنجوم تحديدا من الممكن أن تلخصها في هذا الشعار الذي أطلقه سعيد صالح في مسرحية «هاللو شلبي» وهو «اللي يتجوز أمي أقوله يا عمي» من يمسك زمام السلطة هم معه يبايعونه ويؤازرونه.. هم على استعداد للعمل مع من يكسب وفي يده المقاليد أغلبهم لا يعنيهم سوى تلك المكاسب القادمة بغض النظر عن التوجه السياسي أو الفكري.. رئيس غرفة صناعة السينما منيب شافعي متوقف عن ممارسة الإنتاج السينمائي منذ أكثر من ربع قرن بل وكثيرا ما يفكر في اعتزال المهنة بينما يتولى الإدارة الفعلية للغرفة محمد حسن رمزي، الذي حرص على تأكيد ولاء الغرفة للحكم العسكري وصرح بأن مصر تحتاج إلى حاكم عسكري كما أنه أيضا رحب بكل ما سوف ينتجه «الإخوان» وسوف يعرضه في دور العرض التابعة له.. أكثر من ذلك فلقد كان يقدم في الكثير من أفلامه ما يرضي هذا التيار بما يعرف بالسينما النظيفة التي بدأت في الانتشار مع فيلم «إسماعيلية رايح جاي» بطولة محمد فؤاد ومحمد هنيدي، وهو الفيلم الذي دشن ما يعرف ببداية ظهور المضحكين الجدد أعني بهم جيل هنيدي وهاني رمزي وعلاء ولي الدين ومحمد سعد وصولا إلى أحمد حلمي.

وتستطيع أن تعتبر أن هذا الفيلم هو الذي فتح الباب للإنتاج السينمائي الذي يقع تحت طائلة قانون الأفلام النظيفة بل في بعض الأفلام كان يتدخل هو والمجموعة التي تضامنت معا في شركة ضخمة للإنتاج والتوزيع لتحقيق هذا النوع من الأعمال الفنية الذي لم يقتصر فقط على الأعمال الكوميدية بل الأفلام العاطفية أيضا مثل فيلم «في العشق والهوى» الذي أخرجته كاملة أبو ذكري، فوجئت المخرجة بأن المنتج يتدخل لحذف قبلة اعتبرها خادشة للحياء تضمنها الفيلم، رغم موافقة الرقابة على المصنفات الفنية على عرضها!! أغلب تصريحات النجوم أمثال أحمد السقا ومحمد فؤاد وتامر حسني وحمادة هلال وأحمد عيد وغيرهم تصب لصالح هذا الاتجاه، هم يرون دائما أن من يملك الحكم يصبح واجبا عليهم أن يخضعوا له، هذا هو قانونهم وتلك هي شريعتهم في الوسط الفني، لأن مصالحهم في النهاية هي التي تدفعهم إلى اختيار هذا الطريق أو غيره.. مثلا كانت السينما في السبعينات تسمح بمساحات مبالغ فيها من العري والمشاهد الساخنة، وأشهر نجمتين كانتا تقدمان هذه النوعيات من الأفلام هما نادية الجندي ونبيلة عبيد. وأكثر موزع سينمائي تخصص في الترويج لهذا النوع من الأفلام هو محمد حسن رمزي، نائب رئيس غرفة صناعة السينما الذي تحول مع تغيير المؤشر إلى السينما النظيفة.

ومن الممكن كما صرح الآن أن يوزع الأفلام التي تنتجها الجماعات الإسلامية بل وينتج لهم ما يرونه ملائما لهم.. شركات الإنتاج، أتحدث بالطبع عن الأغلبية، سوف تتوافق مع أي تيار قادم طالما تحقق عن طريقه مكاسبها، هم يريدون في نهاية الأمر غطاء من الحماية الأدبية التي تضمن لهم أن يواصلوا إنتاجهم بعيدا عن غضب النظام.. لقد قام بعض أعضاء الجماعة الإسلامية مؤخرا بتوجيه رسالة تطمينية إلى العاملين في الوسط الفني يؤكدون من خلالها أنهم ليسوا ضد الإبداع وهكذا تمت زيارة أعضاء من الجماعة الإسلامية في مصر لنقابة الممثلين، خاصة أن عددا من شركات الإنتاج لا تزال تتحسس الخطوات القادمة.

لو ألقيت نظرة على إنتاج عام 2011 سوف تكتشف سينمائيا أن عدد الأفلام المعروضة قد وصل إلى 25 فيلما، كان الرقم في العام الماضي 29 فيلما، أي أن التراجع ليس كبيرا، رغم الظرف الاستثنائي الذي عاشته مصر في 2011، حيث طبق قانون حظر التجول في أثناء الثورة كما أن المزاج النفسي لم يكن مشجعا على الذهاب إلى دور العرض، شهد هذا العام لأول مرة عرض الفيلم التسجيلي الطويل «التحرير 2011: الطيب والشرس والسياسي» عرضا تجاريا، وهي سابقة تحدث لأول مرة في السينما المصرية، وهو أفضل فيلم مصري عرض في السينما.

وحاول عدد من الأفلام أن يتمسح في روح الثورة إلا أنها في مجملها لا تستطيع أن تعثر خلالها على فيلم وصل إلى روح الثورة باستثناء الفيلم التسجيلي «الطيب والشرس والسياسي»، باقي الأفلام حاولت أن تجد شيئا يربطها بروح الثورة مثل «الفاجومي» الذي تناول حياة الشاعر أحمد فؤاد نجم، وكانت أحداثه تنتهي مع الانتفاضة التي حدثت في 18 و19 يناير 1977 ولكن قفز المخرج إلى 25 يناير مستغلا قصيدة لنجم يقول مطلعها «تهل البشاير في يناير».

في فيلم «صرخة نملة» كان الفيلم في البداية عنوانه «الحقنا يا ريس» وبعد الثورة تم إجراء عدد من التغييرات وتغير مضمونه من انتظار الرئيس لكي يحل مشكلة البطل إلى أن يسقط البطل الرئيس ويطيح به، أضيفت للفيلم نهاية أخرى غير تلك التي كانت في السيناريو الذي تمت الموافقة عليه قبل الثورة وعرض هذا الفيلم في قسم سينما الشاطئ بمهرجان «كان»، وذلك في إطار تكريم السينما المصرية.. أيضا من بين الأفلام التي عرضت في مهرجان «كان» «18 يوما» وهو يتكون من عشرة أفلام روائية قصيرة، والحقيقة أن أغلب هذه الأفلام لم يرق لمستوى الحدث وكان مجرد استثمار للثورة!! في أفلام أخرى مثل «سامي أكسيد الكربون» وضعت بعض الجمل التي تناثرت هنا وهناك تتحدث عن الثورة، وهو ما تكرر في أفلام مثل «بيبو وبشير»، خاصة هتاف «الشعب يريد» الذي كان هو أشهر نداء صاحب ثورات الربيع العربي.

في فيلم «تك تاك بوم» الذي شهد عودة لمحمد سعد مستعينا بثورة 25 يناير ولكنه لم يتجاوز الحديث عن الدفاع المدني وكان يتحفظ في تأييد الثورة بل كان حرص النجم الذي كتب أيضا السيناريو في الدفاع عن وزارة الداخلية.. أيضا فيلم «أمن دولت» لحمادة هلال حاول أن يجد لنفسه أي مساحة مع الثورة بتناوله أمن الدولة، هذا الجهاز الذي ارتبط في عهد مبارك بأسوأ الممارسات بل تم تغيير عنوانه إلى الأمن الوطني.. لا تستطيع بين هذه الأفلام سوى أن تتوقف أمام فيلم «الطيب والشرس والسياسي»، حتى الأفلام التي سوف تعرض الأربعاء القادم «واحد صحيح» و«عمر وسلمى» و«بنات العم» تظل بعيدة عن الدخول إلى معترك السياسة.

إلا أن الرقابة الآن لديها عدد ضخم من الأفلام المعدة لـ2012 التي تتناول التوريث وتتحدث عن جمال وعلاء ومبارك وزكريا عزمي وصفوت الشريف وفتحي سرور تصريحا أو تلميحا حتى الآن لم تخرج هذه السيناريوهات إلى إطار التنفيذ، وأعتقد أننا كما شاهدنا في 2011 أعمالا متسرعة عن الثورة كانت مجرد لمحة من الثورة أو محاولة للتمسح بها سوف تخرج أغلب هذه الأفلام مبتورة.. لست متفائلا بالقادم سينمائيا في 2012 خاصة أن الأحداث لا تزال تتلاحق ولم نصل بعد إلى شاطئ الحقيقة الذي يستطيع بعده السينمائي أن يقدم عملا فنيا يستند فيه إلى تلك الحقائق. أغلب الظن - وليس كل الظن إثم - أننا سوف نرى أعمالا متشابهة لما شاهدناه في أعقاب الثورة.

ويبقى التيار الديني الذي صار مهيمنا على الكثير هل نشاهد أعمالا فنية طبقا للشروط التي يروج لها التيار الديني حيث كل النساء محجبات في كل المواقف كما تمنع فيه القبلات من الأفلام وأي مشاهد حميمية.. لا أتصور بالمناسبة أن الرقابة سوف تتشدد في تطبيق معايير صارمة في هذا الاتجاه ولكن هذا لن يمنع أن نرى فنا موازيا يقدم أعمالا فنية تراعي الشروط الدينية إلا أنه لن يصبح هو الفن السائد، بالإضافة إلى أنه من خلال بعض التجارب السابقة لم يصبح يوما هو الفن السائد.. قبل 5 سنوات عرض فيلم «كامل الأوصاف» بطولة حلا شيحة، قُدم الفيلم دراميا طبقا لشروط الحجاب، أي أن البطلة في كل مشاهدها تظل محجبة حتى تلك التي تتطلب خلع الحجاب ولم يحقق الفيلم أي نجاح جماهيري يذكر.

المعركة لن تراها بهذه البساطة ولا بهذا التطرف، رقصات دينا في رأس السنة لن تصبح هي المدفعية المضادة التي تواجه التطرف الإسلامي.. المجتمع المصري بطبعه يميل للوسطية ولن يترك الأمر يصبح بين هذين الاختيارين، فقط أتصور أن الأعمال الفنية سوف تجد متنفسا في تلك المنطقة المتوسطة، وهي التي سوف تكسب في نهاية الأمر بين الإفراط والتفريط.. الجمهور سوف يتجه للعمل الفني الذي يراه قريبا ومعبرا عنه، ودعونا ننتظر 2012.