الدراما العراقية في انتظار «ربيع الثورة»

ارتفاع حمى التنافس بين الفضائيات قبل حلول شهر رمضان

أحد المسلسلات العراقية
TT

مع بداية السباق السنوي لإنتاج الأعمال الدرامية التي ستعرض في رمضان المقبل، وارتفاع حمى التنافس بين الفضائيات - يقفز التساؤل الآتي: هل استطاعت الأعداد الكبيرة من الأعمال المنتجة سنويا، أن تضع الدراما العراقية في مسارها الصحيح؟ المتتبع للدراما يكتشف أن ذلك لم يحصل، رغم ادعاء البعض أنه يصنع دراما، موضوعية، حديثة! فقد ظلت الدراما تراوح في مكانها. ولم تكن الأوضاع الأمنية من الأسباب المؤثرة، لأن أغلب الأعمال تنتج في الخارج، ومع ذلك ظل تأثيرها محدودا وانتشارها ضئيلا.

والدراما الحديثة، بصورة عامة، تعتمد على ثلاثة عناصر أساسية.. أولا شركات إنتاج متخصصة بميزانيات عالية. ثانيا حرية التعبير والتنفيذ. ثالثا كوادر فنية متمكنة ومحترفة.. ترافقها وتسندها حركة نقدية فاعلة ودعاية مؤثرة.

والدراما العراقية تفتقر إلى وجود شركات إنتاج متخصصة، مستقلة محايدة، وجريئة، تضع ميزانيات مناسبة لأعمالها دون خوف أو تردد، تماشيا مع حركة المجتمع والسوق الفنية ومتطلبات كل مرحلة.. ما يشجع الفنانين والكتاب والفنيين ويشعل روح التنافس بينهم، فيؤدي ذلك إلى زيادة الإنتاج وبالتالي التطور والإبداع. ففي الماضي، كان الإنتاج محصورا بيد السلطة الرسمية وكانت الدراما خاضعة لإرادة تلك السلطة ونهجها، أما بعد 2003 فصار الإنتاج مقتصرا على الفضائيات وخاضعا لإرادة ونهج ورغبات أصحاب الفضائيات أو المسؤولين عنها.

وتعاني الدراما، أيضا، محدودية الحرية في التعبير، كاختيار الأفكار والمواضيع والقصص وعدم جرأة القائمين عليها والمنفذين لها، على التغيير والتجديد ومسايرة التطور ومستجدات العصر، فبقيت الدراما خاضعة لما هو سائد، اجتماعيا وفكريا، ضمن العقلية الذكورية.

اما الكوادر الفنية، فقد شهدت فترة التسعينات، وما قبلها، هجرة الكثير من الإمكانات والخبرات الفنية العراقية (وبمختلف الاختصاصات) إلى الخارج، فخلت بذلك الساحة وعانت نقصا واضحا على مختلف الصعد، مما أتاح الفرصة لأنصاف الموهوبين، من ممثلين ومساعدي إخراج وإنتاج وكتاب وغيرهم، أن يقفزوا إلى الصف الأول ويحتلوا الأماكن الشاغرة. ولأنهم غير مؤهلين فنيا وعلميا ولا مهيئين نفسيا لهكذا أدوار، فقد جاءت نتائج أعمالهم بما يناسب مستوياتهم، أقل ما يقال عنها إنها دون المستوى المطلوب. فكأن الأمر مجرد الاستمرار بالعمل ليس إلا، دون التفكير في النوعية. ولأنهم أصبحوا نجوم تلك الفترة فقد وجدوا، لاحقا، فرصا أكبر لدى الفضائيات المنتجة، التي لا يهمها النوع بقدر ما يهمها إنتاج العمل بأسرع وقت وبأقل التكاليف. وهذا أدى إلى انسحاب بعض الفنانين أو انحسار نشاطهم وتقليله، إضافة إلى أن أساليب التدريس والمناهج في المعاهد والكليات، الفنية، ما زالت تقليدية قديمة وتحتاج إلى التغيير الجذري والتحديث والاطلاع على ما وصل إليه العالم من مستجدات وابتكارات وتجارب، فقد ظل الجيل السابق يورث معلوماته وأساليبه التقليدية إلى الأجيال اللاحقة، مثل المبالغة في الأداء والإلقاء وتفضيل الصوت الحاد والجهوري (الذي يناسب المسرح أكثر) والإعجاب بالتعابير المتشنجة والحركات المبالغ بها، بدعوى الاستفادة من كل أدوات الممثل! وغاب عن الكثير منهم أن الأداء أمام الكاميرا غيره على خشبة المسرح. وصار أن أنتجت المعاهد والكليات مجاميع من الممثلات والممثلين يشبهون بعضهم أو يقلدون معلميهم، ويتحولون بمرور الزمن إلى قوالب لا تتغير ولا تتبدل.. اعتقادا منهم أن أي تغيير ليس في مصلحة الممثل، ثم استسهال الفن وخصوصا الإخراج (التلفزيوني) عند البعض، والنظر إليه كحرفة يتعلمها الشخص ويعلمها لأبنائه! وليس كفن يتطلب، إضافة للحرفية، الثقافة الواسعة، والذكاء الحاد، والخيال الخصب، والنظرة الثاقبة، وحب الاستطلاع، والبحث، والرغبة الجامحة في التغيير والتجديد، (فالمخرج هو المؤلف الثاني للنص)، وبخلافه سيكون المخرج كصاحب ورشة نجارة يوجه العاملين فيها دون أن يتقن صنع كرسي!.. وباستثناء المخرجين المخضرمين أصحاب الخبرة (الموجودين، حاليا، في الساحة) مثل، حسن حسني، صلاح كرم، علي أبو سيف، فارس طعمة التميمي، وقلة غيرهم، فإن البقية لا يتعدى كونه مشغل أجهزة، ما زال، ومنذ سنوات، يراوح بنفس المكان وبنفس الآلية، لا يتعب نفسه في المتابعة والبحث والاستقصاء ولا حتى يمارس النقد (الذاتي) لأعماله ولا يقارنها بأعمال غيره.. وهو بحاجة إلى المزيد من الوعي الفني والاجتماعي ليتحرر من النمطية والفهم التقليدي (الساذج) لعمل المخرج ودوره. ومن الأسباب الأخرى التي أدت إلى هبوط المستوى الفكري لأغلب الأعمال المنتجة هو انعدام الرقابة، الرسمية، وضعف الرقابة الذاتية بسبب قلة الوعي وطغيان المصالح الشخصية والمطامع والكسب السريع وعدم الشعور بالمسؤولية، الاجتماعية والأخلاقية، ولهذا استسهل البعض عملية الإنتاج والكتابة، فصار كل من تخطر بباله حكاية يحولها إلى مسلسل ركيك ويجد من أقاربه في الوسط الفني، من ينفذها له. فبرزت ظاهرة البطالة المقنعة، حيث يحشر كل فنان معه أهله وأقرباءه، ممثلين أو إداريين، تحت عناوين مختلفة، أكثرها يدخل ضمن المتابعة والإشراف.

والضعف ليس مقتصرا على جانب واحد وإنما مجمل العمليات الفنية ابتداء من السيناريو، فغالبا ما يتناول الكتاب مواضيع حياتية واجتماعية مهمة، لكنهم يخفقون في الطرح والمعالجة فيضيع الموضوع ويتشتت خلال البناء الركيك والحبكة الضعيفة والمعالجة السطحية والحوار غير المدروس، إضافة إلى ضعف الدعاية والإعلان، فالفضائيات التي تعرض الواقع العراقي تروج للأخطاء والسلبيات فقط، وهذا ما يؤثر على حماسة المنتجين والمستثمرين في الدراما. ثم عدم وجود ما يسمى صناعة النجوم، فرغم وجود الأسماء المهمة ذات الخبرة والإمكانية، فإن النجومية شيء مختلف.. ليس له علاقة بالموهبة أو التحصيل العلمي.

وتعاني الدراما أيضا عدم وجود حركة نقدية بالمعنى الشامل والواسع والمؤثر، فما يكتب من نقد هو مساهمات فردية، هنا أو هناك، وليس تلك الحركة الفاعلة والمحركة والمغيّرة، التي تسهم في تقويم وتعديل وإصلاح الحركة الفنية ووضعها في مسارها الصحيح.

وتتميز الساحة الفنية (الدرامية) أيضا بهيمنة العوائل الفنية، منذ الستينات، التي زادت في الثمانينات عندما برز الانتماء الحزبي كعامل مؤثر على الوجود في الوسط الفني، فظهرت عوائل جديدة لعبت أدوارا في المسؤولية والأعمال الإدارية، مما بلور شكلا جديدا في العلاقات، أثر بالتالي، سلبا، على تكافؤ الفرص الفنية وتوزيعها، واستمر لحد الآن.

والطريف في الوسط الفني العراقي هو ظاهرة الأختين (أو الشقيقتين).. فهناك اثنا عشر زوجا من الأخوات! مما يعني أن لكل ممثلة أختا تنافسها في المهنة! أما الأزواج فهم كثر.. والآباء والأبناء والإخوة لا حصر لعددهم.

ورغم تشخيص تلك الأسباب المعرقلة والمؤثرة على تطور الدراما، من قبل المختصين والحريصين عليها، فإن أحدا (سائلا أو مسؤولا) لم يحرك ساكنا لإنقاذ وزحزحة عجلة الدراما التي ستبقى تحت رحمة الفضائيات ما لم يكتسحها ربيع ثورة، يعيدها إلى مسارها الصحيح.