ثغرة في جدار جبهة حرية الإبداع

فنانون يريدونه «نظيفا» على طريقة «الإخوان»

خالد يوسف و ايناس الدغيدي و الفنان المصري شعبان عبد الرحيم
TT

عندما سألوا شعبان عبد الرحيم باعتباره أكثر مطرب غنى لمبارك ماذا يفعل بعد نجاح الثورة، أجابهم: «غنيت لمبارك لأنه كان الرئيس، ولو وائل غنيم مسك الحكم حاغني لوائل، ولو الإخوان حكموا مصر حاعتزل الغنا واقرأ قرآن كريم».

نموذج بالطبع صارخ وفج للفنان الذي يعوم على عوم السلطة أيا كان توجهها، ورغم ذلك فإن شعبان لا يمكن اعتباره حالة استثنائية، هناك كثيرون يتحسسون الآن الخطوة القادمة على حسب توجه السلطة، إلا أنه على الجانب الآخر بدأت أصوات من الفنانين تعلو مطالبة بالحرية. هناك إحساس يزداد بأن التوجه الإسلامي بجناحيه الإخوان والسلفيين سوف يمارسون قدرا من القيود ضد الفنون كلها، ومن البديهي أن يتصدى التيار الديني لتلك الأعمال الفنية مستندا إلى المفاهيم التي تربط مباشرة بين القيمة الأخلاقية والإبداع، إلا أن المعادلة بدأت تميل كفتها لصالح التيار الإسلامي، حيث بدأ عدد من السينمائيين يقولون: «هل نطالب بالحرية من أجل أفلام خالد يوسف وإيناس الدغيدي؟»، وبعض من المطربين والمطربات لديهم تحفظات كثيرة، لم يعلنوها قبل أن يسيطر حزب العدالة والحرية وحزب النور على الأغلبية البرلمانية داخل مبنى مجلس الشعب (البرلمان). كثيرا ما استمعت إلى انتقادات من هاني شاكر وإيمان البحر درويش ومحمد فؤاد وغيرهم على أغنيات الفيديو كليب، والبعض كان يطلق عليها تهكما «العري كليب». هؤلاء لديهم تحفظاتهم على ما تبثه القنوات الغنائية، ويشعرون أن تلك المساحات التي تمنح لعدد من مطربات الفيديو كليب هم الأولى بها، بل إن نقيب الموسيقيين إيمان البحر درويش يمنع تصوير النساء في أغانيه حتى لو كنّ محجبات. ويبقى في المعادلة أهم ما فيها وهو الجمهور، ما الذي يقوله رجل الشارع العادي؟ في الغالب لديه نفس الإحساس بأن هؤلاء الغاضبين يعبرون عن قضية خاصة بهم هم ليسوا طرفا فيها، بل على العكس هم يرون أن الكثير من الأفلام تحمل الكثير من المشاهد التي ينبغي حذفها.

أغلب الفنانين الذين شاركوا في مظاهرة الفنانين التي توجهت إلى مجلس الشعب وقبلها المؤتمر الذي عقد في نقابة الصحافيين لم يستطيعوا أن يكسبوا إلى جانبهم رجل الشارع، خصوصا وأن هناك من تظاهر أمام مجلس الشعب وهو يسأل عن حق الدم للشهداء الذين أريقت دمائهم وزهقت أرواحهم ولم يتم حتى الآن القصاص من القتلة. وكما ذهب الفنانون إلى مجلس الشعب مطالبين بحق الحرية، كانت قد سبقتهم أسر الشهداء للمطالبة بحق الدم. بديهي أن رجل الشارع عندما يرى المظاهرتين سوف يتضاءل كثيرا أمامه قضية حرية التعبير، خصوصا وأن مفهوم تلك الحرية صار مغلوطا ومنتقدا من قطاع وافر من المصريين لا يرتاح إلى تلك الحرية وما تثيره من تداعيات.

الناس أو نسبة غالبة منهم تعتقد أن الحرية التي يطالب بها الفنانون وخصوصا السينمائيين هي حرية تبحث عن التجاوز الأخلاقي. المتفرج العادي الذي لديه ملاحظات سلبية على ما يقدمه خالد يوسف أو إيناس الدغيدي أو الراقصة دينا، يعتقد أن التيار الإسلامي من خلال الأغلبية التي حققها في مجلس الشعب سوف يحميه من كل ذلك، ولهذا ينظر بقدر كبير من الريبة إلى من يرفع شعار الحرية، وينتظر بفرح ولهفة المنقذ القادر على أن يمنع ويحذف!! أغلب فئات المجتمع مع الحرية ولكنهم يتوجسون منها عندما تقترن بالفن. ومن ملاحظاتي أثناء تدريسي لمادة النقد الفني في كلية الإعلام جامعة القاهرة أن الطلبة تحكمهم وتتحكم فيهم في التعاطي مع الفنون معايير أخلاقية متحفظة في مجملها وخادعة في قسط وافر منها. هم أسرى نظرة تقيم العمل الفني بمدى التزامه بتلك المعايير التي نشأوا عليها. محاولاتي دائما هي أن أظهر للطلبة وحملة أقلام النقد والصحافة في الأيام القادمة أنه لا يوجد تناقض بين الفن والأخلاق في معناها المباشر، ولكن الفن لا يقيم بتلك المعايير. إنه فقط يخضع لعلم الجمال (الاستاطيقا)، هذا هو ما يتوقف عنده المتذوق إذا أراد أن يعيش الحالة الفنية.

هل يدرك الناس ذلك؟ القضية تبدو عند البعض بأنها أقرب إلى القضية الفئوية منها إلى قضية المجتمع، ولن يستطيع الفنان أو المثقف أن يكسب أرضا إلا إذا كان الشارع إلى جانب الفنان.

خرج في مظاهرة المطالبين بالحرية وزير الثقافة المصري الحالي د. شاكر عبد الحميد، بينما مجلس الشعب اختار للجنة الثقافة والإعلام والسياحة محمد عبد المنعم الصاوي، الذي شغل في أول حكومة بعد الثورة موقع وزير الثقافة لأيام محدودة، واشتعلت المظاهرات ضده فاضطر إلى مغادرة موقعه. من المؤكد أن الصاوي لديه ثأر ممن اعتقد أنهم أطاحوا به، هو قد أشار في مقال له بعد مغادرته الكرسي ببضعة أيام أنه اطلع على الكثير من الوثائق والملفات تدين من هاجموه، وأنه سوف يرد عليهم في التوقيت المناسب. هل حان الوقت، خصوصا وأن لجنة الثقافة والإعلام والسياحة منوط بها مراقبة الوزارات الثلاث؟ الصاوي بطبعه يميل في تعاطيه مع الفنون من خلال «ساقية الصاوي» التي تمارس نشاطا ثقافيا خاصا في مصر.. يميل إلى ممارسة الرقابة الصارمة على كل ما يعرض بالساقية، صحيح أنه لعب دورا مؤثرا خلال السنوات الأخيرة في مجال الثقافة والفنون وبمبادرة شخصية عندما استطاع أن يحيل «خرابة» تقع تحت أحد الكباري الشهيرة بالقاهرة إلى مركز إشعاع ثقافي، إلا أنه أيضا لم يتخلّ في ممارسته للقيادة عن تلك النظرة المتحفظة للفن والثقافة، وكثيرا ما تدخل لإيقاف بعض الأنشطة في الساقية!! الوزير السابق صار الآن مسؤولا عن متابعة أداء وزارات الثقافة والإعلام والسياحة، وهو يملك أوراقا ضد الكثيرين، ربما كانت الأيام القليلة التي أمضاها في الوزارة قد بددها في تصوير تلك الوثائق التي سيحيلها إلى قنابل موقوتة. طبول المعركة الثأرية تدق على الأبواب متزامنة مع توقع فرض قيود صارمة على كل الفنون.

ويبقى الطرف الأهم في كل ما يجري، إنه الناس. إلى من ينحاز المواطن البسيط؟ إن هذا هو الهدف الأساسي الذي ينبغي أن يراهن عليه المبدعون لتصل تلك القناعة إلى رجل الشارع، وهو أن الدفاع عن حرية الإبداع هو دفاع عن رغيف العيش!! الصورة كانت تبدو في البداية أن الفنانين لديهم قناعة جميعا بأن الفن سوف يصطدم بالتيار الديني المحافظ بطبعه، والذي يحرم بعضه استخدام الموسيقى في الأعمال الفنية، ولكننا اكتشفنا مثلا أن مطربي أشهر أغنية ترددت في الثورة وهي «يا بلادي يا بلادي» لعزيز الشافعي ورامي عصام ليس لديهما مانع من تقديم أغنيات بلا موسيقى تتواءم مع ما يطلبه بعض السلفيين الذين يشعرون بريبة عند استخدام الموسيقى. ربما جاءت قناعات رامي وعزيز لتعبر عن حالة من عدم الإدراك للمبدأ، وهو أن على الفنان أن لا يخضع لهذا التيار، إلا أن هناك ولا شك حالة أخرى أراها أشد صعوبة، وهي حالة الانتهازية التي يتميز بها الوسط الفني، حيث إن البعض سوف يحسبها بمقياس الربح والخسارة، فإذا كان الإخوان سوف يضمنون له العمل فسوف يقدم لهم العمل الفني من خلال المواصفات التي يطلبونها، تلك هي الصورة القادمة والقاتمة أيضا، بل لا أستبعد أن من بين الفنانين الذين أقسموا قبل أقل من أسبوعين في نقابة الصحافيين على الدفاع عن حرية الإبداع، مَن يمكن أن يحنثوا بالقسم ليصبحوا هم في طليعة من يقدمون الفنون طبقا لشروط التيار الإسلامي الذي يملك الأغلبية. إنها ثغرة في جدار جبهة حرية الإبداع، وتلك الثغرة من الممكن أن تكبر في أي لحظة ليصبح للفن النظيف أتباعه ومريدوه والمدافعون عنه أيضا!!