عادل إمام.. وازدراء الدين الإسلامي

أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم واجهوا الاتهام نفسه

لقطة من احد أعمال عادل امام
TT

غالبا سوف يسقط الحكم الصادر ضد عادل إمام بالحبس ثلاثة أشهر في مرحلة الاستئناف؛ إلا أن القضية نفسها وبتنويعات متعددة ستصبح هي الطابع السائد في الحياة الفنية خلال الأعوام المقبلة، خاصة مع تنامي سطوة التيار الديني بجناحيه الإخواني والسلفي في مصر.

القضية ليست جديدة في الوسط الفني؛ بل هي ضاربة في العمق؛ حيث إن هناك دائما مسافة بين الرؤية الفنية التي تستند إلى علم الجمال الفني حيث تتعدد المستويات بين الجمال والقبح من جهة، والرؤية الدينية التي تستند إلى الأحكام المطلقة في الحلال والحرام من جهة ثانية. كثيرا ما يثير التيار الديني العديد من تلك القضايا التي تتم فيها قراءة العمل الفني من منظور ديني لا يستند سوى للإباحة أو التحريم.

نصيب المطربين كان هو الهدف الذي طارده العديد من المتشددين دينيا مثل محمد عبد الوهاب في أغنية «من غير ليه» حيث تعرض لاتهام من الأزهر الشريف، بأنه يقدم دعوة للكفر من خلال هذه الأغنية التي يقول في مطلعها «جايين الدنيا ما نعرف ليه» وتحديدا المقطع «ولا عايشين ليه»، وبعد عدة جلسات تم حفظ القضية.. أم كلثوم تعرضت لاتهام مماثل أكثر من مرة في أغنية «الحب كله» وتحديدا في المقطع الذي تقول فيه «يا أرق من نسمة وأجمل من ملك» قالوا: كيف تعتبر أن هناك إنسانا أجمل من ملك؟.. وعبد الحليم حافظ في قصيدة «لست قلبي» المقطع الذي يقول: فيه «قدرٌ أحمق الخطى» تعرض لنفس الاتهام وهذا ما دفع دار الأوبرا المصرية في الحفلات الغنائية التراثية إلى تغيير المقطع إلى «قدر واثق الخطى»، ليصبح المعنى عكس ما قصده الشاعر تماما.

مدحت صالح في أغنية «كوكب تاني» اعترض الأزهر على فكرة الأغنية وهي تدعو للهجرة بعيدا عن كوكب الأرض، حيث اعتبروا أنها تحمل دعوة للانتحار المحرم شرعا في كل الأديان.

تعددت في الحقيقة القضايا الغنائية؛ ولكن لم يخل الفن السابع من قضايا مماثلة، وكان نصيب المخرج يوسف شاهين هو الأكثر بين كل مخرجي السينما المصرية، مثلما حدث في فيلمي «المهاجر» و«المصير».

في الماضي كان نادرا ما يتضامن الفنانون دفاعا عن زميل لهم، بينما أعلن أكثر من تجمع ورابطة وجبهة فنية هذه المرة عن الوقوف مع عادل إمام الذي يمثل أمام القضاء في مطلع أبريل (نيسان) المقبل مستأنفا الحكم الصادر ضده بالحبس ثلاثة أشهر وكفالة ألف جنيه. هذا التحرك الإيجابي الذي تشهده الساحة الفنية لمؤازرة «عادل» يعبر في الحقيقة عن إحساس بالخوف القادم مع تنامي هذا التيار الذي سيجد أن ساحة القضاء ستصبح هي أرض المعركة في القادم من السنوات.

بالتأكيد لا يمكن لأحد أن يدافع عمن يحض على ازدراء الأديان؛ ولكن هل حقا عادل إمام في أفلامه ومسرحياته التي بني عليها الحكم الصادر في حقه يزدري الدين الإسلامي؟ استند القاضي إلى أن أفلامه مثل «الإرهابي» و«مرجان أحمد مرجان» ومسرحية «الزعيم» وغيرها، تنطوي من وجهة نظر المحكمة على تجاوزات في حق الدين الإسلامي.

الحقيقة أن أفلام «عادل» تحمل بلا شك نقدا ليس للأديان وتحديدا الدين الإسلامي؛ ولكن لبعض ممارسات رجال الدين. كثير مما يقدمه «عادل» لدي ملاحظات سلبية عليه، وكثيرا ما انتقدته بسبب تلك المباشرة التي يقدمها في أفلامه، ومقالاتي المتعددة التي تناولت فيها قسطا وافرا من أفلام عادل إمام تشهد على ذلك؛ ولكن أن نختلف فنيا مع أسلوب فنان لا يعني أن يدان بازدراء الأديان، الأمر هنا مختلف تماما.

«عادل» لا يقدم في الحقيقة أفكاره؛ ولكن وراءه كاتبا ومخرجا سوف تجد أن قسطا وافرا من هذه الأفلام سواء تلك التي استند إليها الحكم القضائي أو التي لم يتطرق لها الحكم، تحمل وجهة نظر كاتب مثل وحيد حامد أو لينين الرملي أو يوسف معاطي، ومخرجين مثل شريف عرفة أو علي إدريس أو نادر جلال. والغريب أن الحكم لم يتطرق إلى أن صانع الفيلم طبقا للقانون، هو المخرج والمؤلف بالدرجة الأولى، وهذا لا يعني تبرئة ساحة المؤدي؛ ولكن الفاعل الأصلي هو الكاتب والمخرج، ثم إن هذه الأعمال الفنية حظيت بموافقة الرقابة على المصنفات الفنية والمفروض أن الحكم يحمل إدانة لمن وافق على العرض أي وزارة الثقافة المصرية، والمسؤول عن الرقابة ينبغي أن توجه إليه الإدانة كذلك، لأن الفيلم السينمائي في مصر يخضع قبل تصويره لرقابة وقبل تصويره أيضا تتم الموافقة أولا على السيناريو ثم بعد ذلك تتم الموافقة على الشريط السينمائي، لتصبح الدولة أمام القانون هي المسؤول الأول عن العرض؛ ولكن من الواضح أن «عادل» كان هو المستهدف في الإدانة.

«عادل» يتحمل ولا شك مسؤولية نشر الفكر الذي طرحته هذه الأفلام وغيرها، وهو لم يكن مجرد مردد لما يأتيه من أفكار؛ إلا أنني أرى أن ما يقدمه «عادل» يدخل في إطار النقد لرجل الدين وليس للدين، والفارق كبير.

«عادل» مثلا له رحلة شهيرة إلى أسيوط تم توثيقها في فيلم حمل عنوان «القطار» أخرجه أحمد يحيى، عرض «عادل» فيها مسرحية «الواد سيد الشغال» وذلك ردا على قيام بعض المتطرفين بمنع فرقة أهلية من عرض مسرحية هناك وتهديد أعضاء الفرقة بالضرب بالجنازير.

الحقيقة أن عادل إمام كان يحظى في هذه الرحلة برعاية خاصة من وزارة الداخلية، وبالطبع ظل التيار الإسلامي المتشدد لديه تحفظات على عادل إمام، واعتبر أنه يلعب لصالح النظام السابق الذي كان يطلق على جماعة الإخوان «الجماعة المحظورة»؛ إلا أن «عادل» كان دائما ما يحرص على إثبات أن هذه هي قناعاته ومواقفه الشخصية.

هذه ليست المرة الأولى التي يتعرض خلالها عادل إمام لهذا الاتهام بازدراء الأديان، كما أنها ليست أيضا الأولى التي يصدر فيها بحقه حكم بالسجن، فلقد أدين في عام 82 بالسجن لمدة عام بسبب إهانة القضاء في فيلم «الأفوكاتو» وأخذ العقوبة نفسها مؤلف ومخرج الفيلم رأفت الميهي، وسقط الحكم في الاستئناف بعد أن تصالح عادل إمام مع مقيم الدعوى مرتضى منصور وكتب له اعتذارا في كل الصحف القومية على صفحاتها الأولى.

ربما لو صدر هذا الحكم في توقيت سابق قبل ثورة «25 يناير» ما كان من الممكن أن يثير أي مخاوف، لأن الكل كان سيتوقع تدخل النظام السابق لحماية عادل أمام؛ إلا أن أهم ما في هذا الحكم أنه سوف يلقي بظلال عديدة على الحياة الإبداعية في مصر، وليس بعيدا في ظل تنامي اعتلاء التيارات الدينية في الدول العربية لأغلب المقاعد البرلمانية، أن يمتد الأمر إلى أكثر من دولة تمارس فيها قيود جديدة على الفنون والآداب، ومن الممكن أن يقرأ البعض الحكم الصادر ضد «عادل» من منظور سياسي في ظل الإحساس الذي يعلو الآن، بأن كل شيء لا يمكن أن تعزله عن سيطرة الفصيل الإسلامي على الحكم، لأنهم يستحوذون على أكثر من 70 في المائة من المقاعد النيابية في مصر.

هذا هو التفسير الذي يتم تداوله؛ ولكن لا أتصور أن الحكم يحمل في بعده رؤية سياسية؛ إلا أن المؤكد أو الوجه الآخر للصورة هو أن عادل إمام أيام مبارك كان يضمن ألا يمسه شيء مما يجري، فهو في مأمن في نهاية الأمر، لأن مؤسسة الرئاسة كانت تعتبره صوتها، وكان لا يقترب منه أحد، لا الضرائب تستطيع أن تسأل عن شيء يمس ذمته المالية ولا أي إدانة قانونية من الممكن أن تلحقه أو تلاحقه.. الأمر تغير بالطبع بعد الثورة، ولهذا مثلا دفع عادل إمام للضرائب في العام الماضي ثلاثة أضعاف ما كان يدفعه أثناء حكم مبارك.

كانت الدولة فيما يختص بالقضاء تملك الكثير من الأوراق مما يضمن لها السيطرة على كل شيء. أتذكر في عام 87 كانت نيابة الآداب قد أحالت كلا من يحيى الفخراني ومعالي زايد ورأفت الميهي للمحاكمة بسبب لقطة في فيلم «للحب قصة أخيرة» لم تكن في الحقيقة لقطة سينمائية، وهي 24 كادرا في الثانية؛ ولكنها كانت لقطة واحدة كادرا ثابتا تم التقاطه لإدانة فريق العمل كله وتدخلت السلطة السياسية وأوقفت التقاضي وانتهت القضية.

هذه المرة الأمر مختلف تماما، لن يمارس أحد ضغوطا على القضاء؛ ولكن هناك ثقوبا عديدة في الحكم من الممكن أن يستند إليها محامي عادل إمام، منها أن الدولة ممثلة في جهاز الرقابة التابع لوزارة الثقافة هي التي تتحمل مسؤولية العرض.

القضاء ينبغي أن يتحلى بقدرة على قراءة الأعمال الفنية؛ وإلا أصبح كل فنان مطاردا. لا نريد من سلطة سياسية أن تقف ضد القضاء لحماية فنان يتعرض لحكم، لأنها من المؤكد سوف تلجأ في هذه الحالة إلى الانتقاء، فهي على حسب توجهها ترفض هذا أو توافق على ذلك، من باب ما الذي سوف تحققه من هذا الفنان؟ وهل هو في فريقها أم لا؟ ليس هذا هو المطلوب؛ ولكن ينبغي أن يصبح الهدف الدفاع عن حرية التعبير وأن ندرك أن انتقاد ممارسات بعض رجال الدين، لا يعني أن الفنان ضد الأديان لأن هؤلاء في النهاية بشر.

لم أكن أرتاح إلى مبالغات عادل إمام ولا إلى تلك المباشرة التي يقدمها في أغلب أفلامه عندما ينتقد التطرف الديني، حيث كان يتبنى دائما وجهة نظر النظام البائد، ورغم ذلك فإن هناك فارقا بين انتقاد عمل فني نختلف أو نتفق عليه وإدانة جنائية تتوجه مباشرة لتصيب الحياة الفنية في مقتل.

القضية ولا شك تثير الرعب في الحياة الثقافية والفنية في مصر والعالم العربي، لأن القضاء قد يسارع بالإدانة؛ بينما العمل الفني لا يتناول شيئا يمس الأديان. شاهدنا فصلا واحدا من تلك المعركة وأتصور أن الفصول القادمة هي الأسوأ..