هل نشاهد انفراجة تسمح بتقديم علاقات المسلمين والأقباط في الدراما؟!

فيلم عن حياة البابا شنودة

TT

هل تقدم حياة البابا شنودة في عمل فني؟ كان هذا هو السؤال الذي تردد بقوة في أعقاب انتهاء مراسم الرحيل.. بالتأكيد حياة بابا الأقباط زاخرة بالمواقف التي تصنع دراما ساخنة منذ أن اعتلى كرسي البابوية عام 1971 في أعقاب تولي أنور السادات الحكم في مصر خلفا للرئيس جمال عبد الناصر، واصطدم بعدها مباشرة البابا بأنور السادات واعتكف احتجاجا.. وواجه البابا الكثير من المواقف القاسية، خصوصا مع تعدد الحوادث الطائفية التي شهدتها مصر على مدار الأربعين عاما الأخيرة.. كان البابا هو صمام الأمان لما يتمتع به من كاريزما تجعله مسموع الكلمة عند أغلب الأقباط، فكان قادرا على أن ينزع فتيل الغضب قبل أن يسيطر على الجميع.

أغلب الظن أن حياة البابا من الممكن توثيقها في فيلم تسجيلي بينما العمل الفني الروائي قد يصطدم بالكثير من المعوقات، خصوصا أنه لا يمكن أن تقدم حياة إنسان بزاوية رؤية أحادية الجانب تبتعد عن أي نقاط خلافية، بينما من الممكن أن يسمح بناء الفيلم التسجيلي بتلك الزاوية.

كان البابا شنودة طرفا مهدئا في الكثير من الأزمات التي شاهدناها بسبب بعض الأعمال الفنية التي رآها قطاع من الأقباط لا تتوافق مع الديانة المسيحية، كان من بينها على سبيل المثال مسلسل «أوان الورد»، كان هناك أكثر من محامٍ قبطي قد أعلنوا أنهم بصدد إقامة دعوى قضائية بسبب عرض المسلسل قبل عشر سنوات في رمضان، الذي يتناول حياة امرأة مسيحية أدت دورها سميحة أيوب، أرملة رجل مسلم.. كانت الكنيسة المصرية تموج بالغضب بسبب هذا المسلسل الذي أثار عاصفة من الاحتجاجات بسبب شخصية «روز».. كان لا بد من تهدئة الموقف، ووجه البابا دعوة لصناع المسلسل للسحور، وكان بينهم وحيد حامد الكاتب وسمير سيف المخرج، وقال لهم إننا في الحياة بالفعل نتعايش مع هذه الحقائق، قبطيات تزوجن مسلمين، وهي زيجات لا تعترف بها الكنيسة المصرية ولا تزال، ولكن كانت رؤية البابا هي أن هذا هو الواقع.. سأل البابا عن موقف الأرملة المسيحية في المسلسل فأجابوه كما قال لي وحيد حامد بأن الأرملة أعلنت ندمها، فقال للغاضبين: «ورغم ذلك فإن هناك في الواقع من فعلن ذلك ولم يندمن»، وانتهى الموقف الغاضب قبل أن يصل إلى ساحة القضاء.

لا أستطيع أن أقول إن البابا وافق على مثل هذه الأعمال الدرامية التي تتناقض مع قناعته كرأس للكنيسة الأرثوذكسية، ولكنه قرر أن يلعب دوره في نزع الاحتقان.. ولكن يبقى أن أكثر عمل فني أثار حفيظة الأقباط كان هو فيلم «بحب السيما» الذي كتبه هاني فوزي وأخرجه أسامة فوزي. كان الفيلم يقدم لأول مرة على الشاشة عائلة مسيحية هي التي تحتل كل المساحة الدرامية، ورغم أن الكاتب والمخرج يدينان بالمسيحية فإن ذلك لم يشفع أبدا للفيلم، بل إن الاتهام غير المعلن رسميا للفيلم كان هو أن السيناريو يدعو للمذهب «البروتستانتي»، خصوصا أن مشاهد الكنيسة تم تصويرها في كنيسة بروتستانتية بالقاهرة، كما تم توجيه شكر إلى راعي تلك الكنيسة.

ولكن ينبغي أن نذكر أن الغضب القبطي ضد بعض الأعمال الفنية يقابله أو قد يسبقه في الحدة في بعض الأحيان الرفض الإسلامي لكل ما يتعرض لشخصية تدين بالإسلام، ولا أقول حتى رجل الدين، والدليل الحكم الأخير الذي صدر بحبس عادل إمام بتهمة ازدراء الأديان، كما أن المخرج داود عبد السيد فوجئ بأن هناك من يعتبر أن تقديمه لشخصية الحرامي التي لعبها شعبان عبد الرحيم في فيلمه «مواطن ومخبر وحرامي»، هي تحمل سخرية مقصودة ضد الحرامي المسلم باعتباره مسلما وليس لأنه حرامي، إلا أن الأصوات العاقلة نجحت في إغلاق الباب أمام هذه الحساسية غير المبررة أبدا.

الاحتقان في الحقيقة انعكس على أعمال فنية كثيرة إلى درجة أن سيناريو فيلم عنوانه «لا مؤاخذة» كتبه عمرو سلامة حصل على دعم من الدولة قدره مليونا جنيه (300 ألف دولار)، ولكن الرقابة رفضت الموافقة على تصويره فتوقف الدعم.. الفيلم يقدم طفلا في مدرسة حكومية يعتقد زملاؤه أنه مسلم في حين أن اسمه فقط يحتمل أن يكون مسلما أو مسيحيا، والطفل كان يخشى الإفصاح عن حقيقة هويته الدينية فكان يحضر حصة الدين الإسلامي ويشاركهم في الصلاة خوفا من أن يكتشفوا أنه مسيحي. الرقابة قالت إن هذا الفيلم من الممكن أن يغضب مشاعر المسيحيين، وتجري الآن محاولة للوصول إلى حل وسط لتمرير الفيلم.

الرقابة أيضا رفضت الموافقة على عرض فيلم «الخروج» إخراج هشام العيسوي في مهرجان الأقصر الذي عقد في الشهر الماضي، وترفض عرضه تجاريا لأنه يقدم علاقة حب بين فتاة مسيحية وشاب مسلم.

الدولة تخشى غضب الكنيسة، والبابا شنودة كان بداخله بالتأكيد تركيبة فنان تستطيع أن تلمحها، ليس في أشعاره فقط، ولكن في سرعة البديهة وقدرته على حبكة النكتة في التوقيت الصحيح، وفي العادة هي نكتة أو قفشة ليست خارج النص أو زائدة عن الحاجة، ولكنها تقول شيئا قد تعجز عن التعبير عنه الكلمات المباشرة.

هل كان البابا يسمح بهامش أكثر رحابة في تقديم الشخصية القبطية في الدراما؟ هناك ولا شك محاذير في المجتمعات الشرقية لا يمكن إنكارها عندما تتناول شخصية رجل دين، خصوصا عندما تطلب من رجل الدين الموافقة على عرضها.. ورغم ذلك فإن البابا هو الذي وافق على أن تقدم شخصية «مرقص» التي أداها عادل إمام في فيلم «حسن ومرقص»، كان قسيسا في السيناريو كما كتبه يوسف معاطي، ولكن طلب البابا أن يصبح أستاذا في علم اللاهوت. وأتصور أن البابا لعب دورا إيجابيا في تمرير الشخصية القبطية والشخصيات الأخرى التي شاهدناها في هذا الفيلم لأنه يقدم في النهاية بشرا متعصبين سواء كانوا مسلمين أو أقباطا، ولم نتعود على أن يتعامل المشاهد مع مثل هذه المواقف ببساطة. لجأ السيناريو إلى تأكيد حالة من السيمترية (التماثل الشديد) في المواقف بين المسلمين والأقباط، وهو ما يؤخذ بالطبع على العمل الفني، إلا أن مجرد مباركة البابا سمحت بعرض الفيلم دون حساسية لولا تلك المباركة، فإن قطاعا من الأقباط كان من الممكن أن يغضب كما تعودنا في أعمال أخرى أقل جرأة.

هل ننتظر انفراجة في التعامل الفني والدرامي مع الشخصيات القبطية في الدراما؟ في الحقيقة نحن لا نستطيع أن نعزل ما يجري في المجتمع عما تقدمه الشاشة، إلا أن تلك الحساسية التي نراها وهي تعلن عن نفسها بقوة في أكثر من موقف لا ينبغي أن تصبح وسيلتنا في المواجهة، هي على طريقة «ابعد عن الشر وغني له».

الفن يجب أن يلعب دوره كما أن الحضور القبطي في الأعمال الدرامية والأغاني لا يصبح مجرد مساحة هامشية. في أعقاب رحيل البابا كانت الدولة المصرية قد أعلنت الحداد الرسمي ثلاثة أيام وحاولت الإذاعة أن تجد أغنية تليق بالمناسبة فلم تعثر فقط سوى على أغنية «المسيح» التي كتبها عبد الرحمن الأبنودي ولحنها بليغ حمدي. أغنية واحدة فقط تسابقت كل المحطات الإذاعية في بثها عبر موجاتها، وبعد ذلك لم تجد سوى أن تقدم لعبد الحليم حافظ أغنية «أي دمعة حزن لا».

المطلوب من البابا الجديد أن يسمح أكثر بوجود الشخصيات القبطية في الدراما وأن تتعامل الكنيسة بقدر من المرونة مع تناول أي انتقادات للمسيحي كشخصية درامية وليست للمسيحية كديانة، لأن هناك بالتأكيد فرقا بين أن تقدم شخصية تدين بالمسيحية وتنتقد سلوكا شخصيا لها، وبين أن تنتقد الديانة، مثلما نرى شخصية مسلمة تمارس السرقة مثلا، فهذا لا يمكن أن يعد طعنا في الدين الإسلامي.

أنتظر أن نرى الفن يلعب دوره مع ترقب اعتلاء كرسي البابوية لرجل دين يكون له فكر وثقافة البابا شنودة، خصوصا أنه كان دارسا وحافظا للكثير من الآيات القرآنية، ونتمنى أن يصبح أكثر مرونة في التعامل مع مختلف الفنون!