ثورات الربيع أطلت باستحياء على مهرجان الخليج السينمائي

التعايش مع الآخر والعودة للوطن سيطرا على الشاشة

صورة جماعية للفائزين بجوائز مهرجان الخليج السينمائي مع الشيخ منصور بن محمد بن راشد و أعضاء لجنة التحكيم (أ.ف.ب)
TT

في المشهد الأخير لفيلم «أمل» للمخرجة الإماراتية نجوم الغانم، الذي عرض في مهرجان الخليج السينمائي في دورته الخامسة، قررت بطلة الفيلم الفنانة السورية أمل خويجة أن تعود مرة أخرى إلى دولة الإمارات لأنها أيقنت أن النظام السوري لن يرحمها وسوف يلاحقها في دمشق، وضاع أملها في أن تستقر مجددا في وطنها بعد سنوات طويلة من الغربة.. إنها لمحة سريعة قبل نهاية الفيلم تعرض فيها هذا الفيلم التسجيلي الطويل للثورة السورية، حيث لا يزال أحرار سوريا يدفعون ثمن النضال ضد الطاغية.

هل انعكست ثورات الربيع العربي على مهرجان الخليج في هذه الدورة بعد أن كانت هي «التيمة» المميزة لكل المهرجانات العربية والأجنبية منذ العام الماضي؟! أطلت ثورات الربيع ولكن باستحياء على المهرجان، فلم تكن هي الطابع المميز للفعاليات، حيث شغلته واحتلت المساحة الأكبر قضايا تتناول الواقع الاجتماعي في الخليج العربي.

شاهدت بعض الأفلام التي كانت تسبح في تيار ثورات الربيع، أتذكر منها فيلمين من دولة قطر وسلطنة عمان، الأول «الصقر والثورة» عن ثورة اللوتس المصرية، والثاني «ظل الثورة» عن ثورة الياسمين التونسية التي تفجرت بانتحار «البوعزيزي».

دعونا أولا نستكمل بعض أفلام الربيع العربي التي رصدتها عيون الخليجيين مثل «الصقر والثورة»، الفيلم التسجيلي القطري القصير الذي أخرجه جاسم الرميحي ومحمد رضوان الإسلام.. البطل مصري من شمال سيناء وهو يعيش من خلال ما يحققه له الصقر من دخل، وكان يرى أن الصقر مثل الشعب يثور عندما تأخذ منه العزة والكرامة، وأن مبارك ونظامه الفاسد تعاملا مع الصقر بقدر من المهانة غافلين عن كونه صقرا.

أفلام الربيع العربي سيطرت على الفضاء السينمائي المحلي والعربي والعالمي، وكانت الانطلاقة الأولى من مهرجان «كان» في شهر مايو (أيار) الماضي، الذي احتفى بالسينما المصرية والتونسية ووضع برامج خاصة بهما ومنحهما السجادة الحمراء، ولم يكن المقصود هو تكريم السينما في البلدين، ولكن تكريم الثورة في البلدين، فلم تكن لا مصر ولا تونس في أفضل حالاتهما السينمائية، على الرغم من أنه قد عُرض لمصر فيلم «18 يوما» والمقصود بها أيام الثورة، وعرض لتونس الفيلم التسجيلي الطويل «لا خوف بعد اليوم».

وتعدد الوجود المصري والتونسي والسوري في مهرجانات كبرى مثل فينسيا وبرلين، وتنافست أغلب المهرجانات العربية، خاصة الخليجية «أبوظبي» و«الدوحة» و«دبي» طبقا لتتابع تواريخها، في عرض الأفلام روائية وتسجيلية التي كانت تحتفي بثورات الربيع.. ولكن في مهرجان الخليج الذي انتهت فعالياته الاثنين الماضي كانت العلاقة مع الآخر هي المحور الأكثر إلحاحا في الوجود على الشاشة، خاصة أن الخليج بطبعه مستقبل للعديد من الجنسيات التي تعمل على أرضه، وهذا الزخم الإنساني يصبح ولا شك مجالا خصبا لكشف كيف تمتزج وتتفاعل تلك العقول والثقافات المختلفة. ولكن هل خفوت الحضور السينمائي لثورات الربيع العربي يعني بالضرورة خفوتا لتلك الثورات في الشارع كما يحاول البعض تصديره الآن؟ الحقيقة ليس للأمر أي علاقة بما يحاول أن يزرعه دعاة الثورة المضادة في النفوس، على اعتبار أن الثورات أدت إلى الإحباط، ولم يعد لدى الفنان والسينمائي تحديدا أن يضيف شيئا، ولكن كان ينبغي أن يلتقط السينمائي أنفاسه أولا حتى يستطيع أن يرصد الخطوة التالية.

الواقع الذي تعيشه بلدان الربيع العربي؛ بل والعالم العربي كله قد تجاوز مجرد رحيل الأنظمة التي كانت هي الذروة في العام الماضي، ولا يمكن التعامل مع الثورات عند النقطة الفارقة لهروب «بن علي» إلى المملكة العربية السعودية، ولا بتقديم مبارك وأسرته وحاشيته للمحاكمة التي نتوقع لها أن تطول أكثر وأكثر.. ذروة إزاحة الرؤوس الكبيرة تجاوزها الواقع، هناك ذرى أخر مقبلة سوف تصبح هي الأرض التي تنطلق منها الأفلام روائية وتسجيلية.. إنه الواقع الضبابي الحالي والذي يخفي وراءه مستقبلا لم تتحدد معالمه النهائية بعد، وربما لهذا السبب تضاءل وجود الثورات العربية على الأشرطة السينمائية، ولكن هذا لا يعني أننا لا نرى موجة أخرى مقبلة تنتظر أن تتحدد بعض معالم الطريق، وهكذا كان الواقع في الخليج هو البطل المحوري على شاشات المهرجان.

قضايا المجتمع الخليجي الذي يسعى للتحرر الاجتماعي هي المحور الأساسي.. مثلا فيلم «لندن بعيون امرأة محجبة» للمخرجة الإماراتية مريم الركال يتتبع حياة فتاة إماراتية، وكيف أنها في لندن ترتدي الحجاب، ونظرة المجتمع الغربي لها وإحساسها أن وجودها في الغربة ربما سيقف عائقا دون زواجها. التعامل مع الحجاب في أوروبا له وجهان، فهو بقدر ما صار متعارفا عليه في الشارع، يثير عند البعض تساؤلا حول المعنى الكامن باعتباره قد يعني نظرة قاصرة للحرية، ومن هنا جاء تناول الفيلم الذي ينفي عن الفتاة العربية انغلاقها الفكري؛ بل يقدمها في إطار عصري منفتح على العالم، ولكنه متمسك أيضا بقيمه ومبادئه.

شاهدت أيضا الفيلم الروائي الإماراتي الطويل «ظل البحر» لنواف الجناحي، الذي يتناول الصراع بين القيم التقليدية في المجتمع وشباب يحاولون أن لا يكونوا طرفا سلبيا في الخضوع المطلق لما يريده ويرتضيه المجتمع. وهناك أيضا الفيلم الروائي القصير الإماراتي «آمال» للمخرجة المصرية نادية فارس، حيث يتناول حكاية شقيقتين من أب واحد؛ الأولى ولدت من أم أميركية والثانية من أم إماراتية.. تعود الفتاة الأميركية إلى أرض الإمارات.. كانت تعتقد أن والدها يقضي أيامه الأخيرة، ولهذا، فإنها لم تأت إلى الإمارات حبا في أبيها وشقيقتها التي لا تعرفها، ولكن للحصول على نصيبها من الميراث الذي اعتقدت أنه وشيك، فتكتشف أن أباها لا يزال متمتعا بصحة جيدة وأن ما تصورته مجرد أيام سوف تمتد حتى يشاء الله، وأن الرجل أصبح مقبلا على الحياة حريصا على أن يزيل كل أسباب الجليد بين ابنتيه الإماراتية والأميركية. ويبدأ الفيلم في رصد تفاصيل التعايش بين الفتاتين الإماراتية والأميركية التي تبدأ بنفور مشترك وتنتهي إلى التعايش.. كان هناك خط درامي مواز آخر لفتاة أميركية جاءت لزيارة صديقها الإماراتي الذي تعرفت إليه عن طريق الإنترنت، وفي البداية كانت ترفض القواعد الأخلاقية التي حرص عليها الشاب في علاقته بها، ولكنها مع الزمن تفهمت ما الذي يقصده.

نعم لم نر، إلا قليلا، ثورات الربيع العربي التي كانت هي السمة المميزة لكل ما شاهدناه من أفلام على مدى عام، ورغم ذلك، فإن هناك رؤية مغايرة آتية ربما نراها في أفلام ومهرجانات أخرى مقبلة عربيا وعالميا.

وكما بدأنا الحديث بالفيلم الإماراتي «أمل»، ننهيه أيضا بهذا الفيلم الحائز على الجائزة الثانية بالمهرجان في مسابقة الأفلام الطويلة، الذي تناول الغربة التي تغتال الإنسان مهما كان يعيش في مجتمع بطبعه يرحب بالآخرين على أرضه ويمنحهم الفرصة كاملة مثل دولة الإمارات، إلا أنه في نهاية الأمر يظل يبحث عن نفسه!! عندما أرادت بطلة الفيلم أن تنهي غربتها لتحقق حلمها في وطنها اكتشفت أن سوريا تعيش في الغربة فقررت أن تؤجل حلمها لتعيش حلم الوطن!! كل من شاهد هذا الفيلم واضطر في مرحلة ما من حياته إلى أن يهاجر، سوف يجد في حياة أمل خويجة شيئا من حياته.. المخرجة «نجوم الغانم» قدمت فيلما تسجيليا ممتعا عن حياة فنانة سورية عاشت الغربة مرتين وترى، في الفيلم أيضا، ثورة الربيع العربي في سوريا تطل على المشهد السينمائي في المهرجان ولو على استحياء.