الأفلام اللبنانية.. هل تعيش عقدة الحرب أم هي تعبير صادق عن وجدان صنّاعها؟

تشكل الحرب مادة أساسية سواء بطريقة مباشرة أو بالتركيز على قضايا كانت سببا لها

نادين لبكي..
TT

تشكل الحرب مادة أساسية في الأفلام اللبنانية، ونكاد لا نستثني فيلما لبنانيا واحدا لا تكون الحرب موضوعا أساسيا فيه، وإذا كانت بعض الأفلام لم تعالج هذا الموضوع بطريقة مباشرة فإنها تناولته بطريقة غير مباشرة من خلال التركيز على قضايا كانت الحرب سببا لها، كما فعلت مثلا المخرجة نادين لبكي في فيلمها الثاني «وهلأ لوين» الذي تطرق إلى مشكلة الطائفية في لبنان. فهل ستظل السينما اللبنانية محصورة في أفلام الحرب؟ وهل يعاني المخرجون اللبنانيون من عقدة «أفلام الحرب»؟

المخرج بهيج حجيج استفزه السؤال واحتج عليه قائلا: «السؤال مردود، وأنا أحمل النقاد المسؤولية، لأنهم يطبعون كل فيلم جديد بطابع (فيلم عن الحرب) وهذا الكلام غير صحيح. الأفلام التي تنتج اليوم لها علاقة بوضع غير مستقر قائم ومستمر يعيشه اللبنانيون، والفنان يعبر عن الواقع الذي يعيشه. ثمة خطأ كبير أن يقال إننا لا ننتج سوى أفلام عن الحرب، ومع أنني لست ضدها فإن هذا الكلام غير صحيح. الفنان ينطلق من أرضية معينة، وهو يرتبط بالواقع السياسي وليس معلقا في الهواء، والسينما الجدية والجادة تعبر عن الواقع الذي نعيشه، ونحن نعيش وضعا غير مستقر. هذا وضعنا ونحن نتكلم عنه، ونحن لا نتحدث عن الحرب، بل عن شيء له علاقة بنا، وهذا هو الفن الحقيقي لأنه يقدم للجمهور عملا فنيا له ارتباط بحياة، بيوميات، بعواطف وشعور، ليست معلقة في الهواء، بل لها علاقة بالمجتمع، بالأرض والوطن، وهذا هو تفسيري لهذا النوع من الأفلام. إذا كانت يومياتنا يوميات حرب تصبح الحرب مسألة عادية جدا في أفلامنا. نحن نعيش الحرب منذ 40 عاما، وإذا سألنا أي لبنان: (هل أنت مرتاح؟)، يكون الجواب: (عندي قلق)، والسينما تعبر عن ذلك. هل نقدم أفلاما عن روميو وجوليت أو قصصا في الهواء؟! هذه ليست سينما وليست فنا، وأي فن جدي عالمي تكمن قيمته في تناوله للواقع. وأنا لا أتحدث عن سينما واقعية، بل عن سينما تنطلق من واقع معيش، ونحن واقعنا قلق وغير مستقر».

ويتابع حجيج: «هناك أيضا أفلام تسلية تعرض في الصالات اللبنانية كفيلم (كاش فلو) الذي لا يتحدث عن الحرب، أو فيلم (وهلأ لوين) للمخرجة نادين لبكي، الذي يدور حول الحرب الطائفية التي تعبر عن حياتنا وواقعنا غير المستقر. هناك مشكلات كثيرة لم تحلّ في لبنان، نحن نعيشها ويجب أن نتطرق إليها في الفن. من الخطأ جدا أن يقال: لا نريد مزيدا من أفلام الحرب، بل هذا الكلام يشير إلى عقلية خطيرة ومنطق خطير جدا لأنه ضد الذاكرة والمجتمع والإنسان. الذاكرة يجب أن تظل موجودة وبشكل مستمر، ولا يجوز أن نمحو كل شيء وأن نمحو الحرب وأن نقول: (خلينا نتسلى)! الحرب وعدم الاستقرار في خلايانا، وهي ليست شيئا يمكن محوه، وأنا أعتبر أن إرادة محو الذاكرة هي عمل سياسي، لأن من يطالب بذلك وبعدم التحدث عن الحرب يريد أن يوحي بأن كل شيء على أفضل ما يرام، وهذا غير صحيح على الإطلاق. أنا مع أن نفرح، ولكن هذا لا يعني أن كل شيء انتهى في لبنان، وكثيرون يفكرون مثلي».

حجيج الذي يحضر لفيلم جيد يقول عنه إنه يتحدث عن مشكلة اجتماعية لها علاقة بواقع غير مستقر يؤثر على المجتمع، سواء من ناحية تسخيف العائلة أو من ناحية الفوارق بين الأجيال. ويضيف: «هناك محاولة مستمرة لتسخيف المجتمع اللبناني، من خلال بعض الأعمال التلفزيونية، التي تهدف إلى منع الإنسان من التفكير. المستوى الثقافي تراجع كثيرا في لبنان، وهذه إحدى تداعيات الحرب، وثمة إرادة لكي نصل إلى هذا المستوى، وهناك من يخطط لذلك لأن مثل هذه الأمور لا يمكن أن تحصل بشكل تلقائي وعفوي. الدراما التلفزيونية تبعد الناس عن الفن الحقيقي، وهناك محاولة لإلهاء الناس عن المشكلات الأساسية، وهذه السياسة متبعة منذ انتهاء الحرب وحتى اليوم ولكنها أثبتت فشلها، وكانت نتيجتها المزيد من المشكلات. الحرب لم تنتهِ في لبنان، بمعنى أو بآخر، وتداعياتها لا تزال مستمرة، ونحن نعبر عنها، ليس سينمائيا فقط، بل أيضا في الأدب وفي أي تعبير فني آخر. وأنا أقول: «ارحموا السينما»، ويكفي المعاناة التي يعيشها المخرج عند تنفيذ أي فيلم جديد. هل يريدون سينما لبنانية شبيهة بالسينما الهوليوودية من الدرجة الثالثة والرابعة (تسخيف وهبل) أو سينما (فاست فود)؟! أنا لا ألوم الناس، بل ألوم الجو السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي نعيشه منذ انتهاء الحرب وحتى اليوم، وحتى البنيان الذي نشاهده هو تدمير للمدينة وليس إعمارا لها».

المخرج سعيد الماروق يرى أنه من المبكر جدا الابتعاد عن أفلام الحرب، قائلا: «هذه ليست عقدة، بل واقع يتحدث عن تاريخنا المعاصر. فأنا كمخرج عشت الحرب وكانت الصور ترتسم أمامي ولا يمكنني أن أتغاضى عنها، ولكي أبتعد عن سينما الحرب فإنني أحتاج إلى 30 سنة جديدة لكي أتناول مواضيع جديدة في أفلامي، وهذا الوضع ينطبق على كل جيل المخرجين الذين تتراوح أعمارهم بين 30 و40 عاما، لأننا جميعا ولدنا في الحرب التي أصبحت مترسخة في عقلنا اللاواعي». ويتابع الماروق: «هل يمكن أن نتحدث سينمائيا عن منطقة البرج التي يخبرنا عنها أهلنا إذا كنا لا نعرفها، ولا يوجد لها امتداد في ذاكرتناظ! لبنان دمر، ثم أعيد أعماره، وأنا من الجيل الذي لا يعرف لبنان قبل عام 1975، ولا يوجد صلة بيني وبين تلك المرحلة، لأن جذوري كإنسان تبدأ من فترة الحرب والمرحلة التي تلتها، ولذلك فمن الطبيعي جدا أن تكون أفلامي عنها».

وللذين يقولون: «لقد مللنا من سينما الحرب»، يرد عليهم الماروق: «لا بد من البحث عن رؤية جديدة وأسلوب جديد عند طرح سينما الحرب، وبدل أن تكون بالرصاص والقنابل يمكن تناولها من زاويا جيدة. مع الوقت يصل المخرج إلى مرحلة من النضوج، ولكن قبلها لا بد له من أن يخوض تجارب مختلفة إلى أن يصل إلى هذه المرحلة، قد يكون فيلمي المقبل عن الفساد أو السياسة أو المخدرات لأن هذه المواضيع أصبحت مبلورة، وهي تتعلق بطريقة أو بأخرى بالحرب. الحرب في لبنان حصلت في عام 1975 ولم يطرح أي فيلم سينمائي موضوعا يتحدث عن أسبابها، وهذا ما سأفعله من خلال فيلم (سينما ريفولي)، إذ لا بد من أن نقف أمام المرآة وأن نعود إلى عام 1975 لنعرف الأسباب ونجد الحل ومن ثم نعمل على بناء المستقبل، لأن المستقبل لا يبنى أبدا إذا تم التغاضي عن الجريمة».

من ناحية أخرى يرى الماروق أن المخرج اللبناني يخاف من الفيلم التجاري، ولذلك هو لا يقترب منه، قائلا: «شخصيا أنا مع هذا النوع من الأفلام، ويجب أن يكون هناك اتجاه لإنتاج أفلام كوميدية ترفيهية و(أكشن)، لأنها تساهم بتحريك العجلة السينمائية وتنعش السوق. ومقابل كل 20 فيلما تجاريا يجب أن يكون هناك 5 أفلام نخبوبة، ولا يجوز أن تكون كل أفلامنا نخبوية كما يحصل اليوم. ولكن بما أن المنتج لا يثق في السوق اللبناني، وبما أن المخرج يخاف من الإقدام على خطوة مماثلة، يظل السير على السجادة الحمراء هو الحل الأفضل عند المخرجين، وهذا السبب الذي يجعل من الفيلم اللبناني فيلم مهرجانات، وما دمنا مستمرين في إنتاج أفلام نخبوية ستظل الأفلام اللبنانية تصنف تحت اسم تجارب، في حين أنه ينتج في مصر سنويا 80 فيلما سينمائيا بينها 5 أفلام نخبوبة فقط». المخرج جو بوعيد اعتبر أن المخرج كأي شخص آخر يعكس حقيقة البيئة التي ينتمي إليها، قائلا: «في فيلمي الجديد (تنورة ماكسي) لم أستطع أن أتجاهل الأحداث التي تشكلت كنتيجة للاجتياح الإسرائيلي للبنان، ولكن بعض المخرجين يستغلون الحرب لأنها تشكل مادة درامية شيقة في الأفلام، ولكن وبشكل عام لا يحق لنا أن نظلم السينمائي، لأن الحرب راسخة في عقله اللاوعي. صحيح أننا نعيش حاليا فترة سلم ولكنه سلم مرتقب ولا نعرف ماذا يمكن أن يحصل في أي لحظة، وسواء شئنا أم أبينا فإن الحرب خامدة تحت الرماد والأجواء ليست مطمئنة، وهذه الهواجس هي التي تجعلني أقول كسينمائي، صحيح أن الحرب انتهت ولكنها لم تنتهِ في الحقيقة، بل هي لا تزال في عقول الناس، وإن لم تكن في الطرقات والشوارع».

بوعيد الذي كانت تزعجه في الفترة السابقة الأفلام التي تتكلم عن الحرب، يضيف: «ولكن عندما كبرت تأكدت أن المخرج لا بد أن يحاول التعبير عن أمور معينة حصلت معه أو مع أهله أو أقاربه بسبب الحرب، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن كل الأفلام يجب أن تتناول بطريقة مباشرة أو غير مباشرة هذا الموضوع. ولكنني كمخرج لست ضد أفلام الحرب، لأنه لا يمكن أن نلغي الحرب من ذاكرتنا، ولكن يمكن أن نتطرق إليها من زاوية مختلفة وبرؤية جديدة».