رحيل وردة يسرق الكاميرا في «كان»

الشرنوبي وبكر والشريعي اغتالوها وساروا في جنازتها

TT

في «كان» سيطر خبر رحيل الفنانة «وردة» على الجميع ليس فقط على الناطقين بالعربية ولكن للخبر صداه وتداعياته حتى على من لا يعرفون العربية لأن رحيل المطربة العربية الكبيرة تناقلته أكثر من جريدة فرنسية لأن «وردة» عاشت في بدايتها في باريس.

كانت أفلام المخرجين بحجم «بيرتولتشي» و«كيروستامي» و«مونجيو» و«كين لوش» و«هانكا» وغيرهم تعرض في مهرجان «كان» ورغم ذلك وجدت أن الكثيرين يفضلون الحديث عن «وردة».. ومن مدينة «كان» تابعت كيف سرقت هذه المطربة الكبيرة الكاميرا في «كان».

عاشت حدثين في سنواتها الثلاث الأخيرة وكأنهما بالنسبة لها أقرب للحياة أو الموت، الأول هو ما حدث في أعقاب مباراة الجزائر ومصر في «أم درمان» وكيف أن البعض طالب في القاهرة بطردها ومنع عرض أو إذاعة أغانيها وسحب الجنسية المصرية منها.. الحدث الثاني هو عندما أصدرت شريطها الأخير «اللي ضاع من عمري» قبل 6 أشهر حيث طالبها حتى المقربين منها بالاعتزال، وكان أعلى الأصوات الملحنين صلاح الشرنوبي وعمار الشريعي وحلمي بكر والغريب أن الثلاثة مشوا في جنازتها وبكوا أمام نعشها وأخذوا يعددون مآثرها في كل أجهزة الإعلام وتجاهلوا تماما كم جرحتها بل قتلتها كلماتهم وهم يطالبونها بالاعتزال!! «وردة» كانت حريصة على ألا تغادر الميدان الفني مهما واجهتها من مصاعب.. أقسى كلمة من الممكن أن توجه للفنان هي أن يستمع وهو لا يزال على المسرح إلى من يطالبه بالاعتزال.. الفنان يعيش من أجل كلمة «أعد» ولا يمكن بعد أن تمضي به الأيام وتقترب الرحلة على الانتهاء تعلو كلمة كفى!! «وردة» كانت حريصة على أن تظل حتى اللحظات الأخيرة داخل الدائرة وفي عز بؤرة الضوء.

«وردة» طوال تاريخها الفني - نصف قرن - وهي دائما تبحث عن ملحن يصبح في مرحلة ما هو صاحب البصمة الأكبر.. البدايات في مطلع الستينات التي شاهدنا فيها أنغام «السنباطي» و«عبد الوهاب» و«الموجي» و«بليغ» و«منير مراد» و«عبد العظيم محمد» ثم تهجر مصر إلى الجزائر وتتزوج وتنجب وتعتزل ثم تعود لمصر في السبعينات وتتزوج «بليغ حمدي» وتتزوج أيضا ألحانه، وكانت البداية مع «على الربابة بغني».. ثم تنفصل عن «بليغ» ويبرق على حنجرتها «سيد مكاوي» بألحانه التي لها مذاق خاص ويمنحها لحن «أوقاتي بتحلو معاك» كان قد أعده لتغنيه «أم كلثوم».. وتستمر مسيرتها مع «سيد مكاوي» في الثمانينات ليلتقط الراية «صلاح الشرنوبي» ولم يرتبطا فقط بسلسلة من الأغنيات الهامة بل أنتج لها أيضا قبل 5 سنوات مسلسل «آن الأوان».. السنوات الأخيرة لم تكن لصالح «وردة» على المستوى الفني، وواجهت عنتا غير مبرر في أعقاب مباراة «أم درمان» بحجة أنها جزائرية الأب، إلا أن أقسى ما واجهته هو أن تسمع من يطالبها بالاعتزال.. الشريط الغنائي الذي استمعت إليه في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي «اللي ضاع من عمري» كان هو الأسوأ في تاريخها ولم تكن «وردة» موفقة في اختيار الكلمات أو الألحان، كما أنها لم تكن في حالة لياقة إبداعية، صوتها كان بعيدا عن التألق الخاص بوردة ولكن هذا لا يبرر أبدا أن يطالبها عدد من كبار الملحنين بالاعتزال!! لا شك أن صوت المطرب يتأثر سلبا بالزمن «أم كلثوم» مثلا في النصف الثاني من الستينات ليست هي «أم كلثوم» قبل هذا التاريخ، ولو تأملت حفلاتها الأخيرة في تلك السنوات فسوف تكتشف أن مخارج ألفاظها تخونها، بل أكثر من ذلك كانت الذاكرة أحيانا لا تسعفها بالكلمات، ورغم ذلك لو حذفنا السنوات الست أو السبع الأخيرة من رصيد «أم كلثوم» وتصورنا أنها توقفت عن الغناء، كنا قد فقدنا كنزا من أغانيها التي قدمتها بعد هذا التاريخ.. «وردة» ظلت في الميدان تحيي حفلا وتصدر شريطا.. «فيروز» أيضا وهي من جيل «وردة» لا تزال تبدع، ولكن المؤشر الجماهيري في صعود، وحققت إقبالا جماهيريا ضخما في آخر أشرطتها وحفلاتها.. نعم الشريط الغنائي الأخير لوردة لم ينجح، العناصر كلها بما فيها أداء «وردة» لم تصل إلى المستوى المطلوب، ولكن تاريخ «وردة» يشفع لها بأن تقرر هي متى تصعد ومتى تغادر المسرح!! «وردة» غنت لمصر في بدايات انتصار أكتوبر تلحين «بليغ حمدي» وكلمات الشاعر الرائع عبد الرحيم منصور «على الربابة بغني».. منحونا أول وأجمل وأروع أغنية استقبلنا بها نصر أكتوبر.. تردد مقاطعها «حلوة بلادي السمرة بلادي الحرة بلادي الصابرة.. وأنا على الربابة بغني ما أملكش غير إني أغني وأقول تعيشي يا مصر».. وكلنا صدقنا «وردة» لأنها بالفعل تحب مصر وتهتف بحياتها.. ومن حقها أن تحب أيضا الجزائر بلد أبيها وأبنائها بل وحتى تتمنى لفريقه الكروي الفوز - لو صح أن هذا قد حدث – وليس عليها حرج أن تحب لبنان بلد أمها لأنها فنانة انطلق صوتها من مصر لتغني لكل الناطقين بالعربية «وردة».

عاشت «وردة» وكأنها تستعيد في حياتها بأول أغنية عانقت الشهرة من خلالها وهي «لعبة الأيام» وتقول كلماتها «بتاخدك الأيام أعيش بجرحك.. وتجيبك الأيام أعيش لجرحك».. هل رأيتم إحساسا شاعريا أدق وأصدق من هذا على وصف مشاعر امرأة تجاه من تحب.. مهما غدر بها فهي تتحمل وتعطي وتمنح.. تشعل جراحها بجراحه وتضمد جراحه بجراحها.. هكذا أرى «وردة» وهي تغني «لعبة الأيام» وكانت أيضا تعيش لعبة الأيام!! صوتان فقط بين كل الأصوات النسائية واجها غدر الزمان «فيروز» في لبنان و«وردة» في مصر.. «أم كلثوم» بالطبع تظل حالة استثنائية بعيدا عن أي تقييم أو مقارنة.. كل الأصوات التي واكبت تلك السنوات إما رحلت عن الحياة أو اعتزلت الغناء.. «فيروز» كانت جزءا من مشروع فني يقف وراءه الرحبانية زوجها «عاصي» وشقيقه «منصور» وكون «الأخوان رحباني» مع «فيروز» أقوى منصة موسيقية لإطلاق الأغاني عرفناها من خلالها هذا الامتزاج بين الصوت وصاحبي الكلمات والألحان.. إنها حالة لم تتكرر في تاريخنا الفني حتى بعد رحيل زوجها «عاصي» وانفصالها الفني عن شقيقه «منصور» منحها القدر ابنهما «زياد الرحباني» الذي أكمل الطريق.. «وردة» مشروع غنائي مختلف، نعم قد يرى البعض أن «بليغ» كان هو مشروعها ولكن الحقيقة أن لا «بليغ» كان مشروع «وردة» ولا «وردة» أيضا هي مشروع «بليغ».. «بليغ» كان يمنح من رحيقه الموسيقي كل الأصوات.. «وردة» في فترة ما من السبعينات تقيدت داخل إطار موسيقى «بليغ» وبالطبع «بليغ» موهبة عريضة في التلحين لا يمكن مقارنته بأحد، ولهذا فإن هذا القيد رغم خطورته منحها أغنيات ناجحة مثل «حكايتي مع الزمان» و«العيون السود».. «وردة» كانت بين الحين والآخر تلتقي موسيقيا مع «عبد الوهاب»، و«كمال الطويل»، و«محمد الموجي» وتضيف الكثير من الورود لحديقتها الغنائية!! «وردة» تساوي القدرة على الاستمرار.. شحنة داخل المبدع كثيرا ما تفاجئه هو شخصيا، هكذا أرى «وردة» لا تستطيع أن تضعها في إطار واحد ولا قانون واحد ولا زمن واحد، عمرها الفني تجاوز نصف قرن.. المطرب ابن الزمن هذه حقيقة.. مثلا «ليلى مراد» ابنة عصر السينما مثلما «أم كلثوم» ابنة عصر الميكروفون و«نانسي عجرم» ابنة زمن الفيديو كليب.

«وردة» هي مطربة الميكروفون والحفلات تملك الحضور الخاص الذي يؤهلها لكي تواجه الجمهور على المسرح وقدمت مسرحية شهيرة «تمر حنة».. منحت السينما 6 أفلام خلال 30 عاما عرفها الناس في البداية مع فيلم «ألمظ وعبده الحامولي» غنت في الفيلم ألحانا لمحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وبليغ حمدي وبعد ذلك «أميرة العرب»، و«حكايتي مع الزمان»، و«صوت الحب»، و«آه يا ليل يا زمن» ثم آخر أفلامها «ليه يا دنيا» ولكنها ليست مطربة سينما.. إنها تتألق أكثر في الحفلات الغنائية، وقدمت للتلفزيون مسلسلا ناجحا «أوراق الورد» في مطلع الثمانينات وقبل 5 أعوام لعبت بطولة مسلسل «آن الأوان» لكنها مطربة حفل.. نعم تغير الزمن ولكن «وردة» وحتى اللحظة الأخيرة ظلت هي النجمة الجماهيرية.

لم تستسلم «وردة» لغدر الأصدقاء ولا لقسوة الزمن ولا لمعاناتها مع المرض الذي تسلل إلى قلبها وكبدها قاومته بالغناء وبعشق الحياة.. تجيد «وردة» أن تهضم مفردات الزمن وأن تقرأ تفاصيله، ولهذا عندما تغير إيقاع ونبض الاستماع في التسعينات قررت أن ترقص هي أيضا على إيقاع الشباب ولكن بأسلوب «وردة» وليس ترديدا لأغنيات الشباب.. كان من الممكن أن تعتبر إنصاتها للموجة الجديدة واعترافها بأن هناك جمهورا آخر يعد بمثابة إعلان هزيمة لها ولجيلها.. كان من الممكن أن تكتفي بالماضي الجميل وتتحصن وراءه ولكنها دخلت للمعركة وهي تبحر مع أحد الملحنين الذين كانوا يعدون في طليعة المتهمين بأنهم انحرفوا بمسار الغناء من مخاطبة الوجدان إلى هز السيقان وهو «صلاح الشرنوبي» ولكن «وردة» اكتشفت أن «الشرنوبي» لديه مخزون نغمي يحمل بعضا من روح «بليغ حمدي» هو ليس مقلدا له ولكن به شيء من «بليغ» تجده في منهج التفكير والبناء النغمي، ولم تتوقف عند محطة واحدة بل غنت لأمير عبد المجيد لتدخل الألفية الثالثة مع ملحن في الثلاثين من عمره هو «وليد سعد» وكان لديها مشروع لكي تغني من تلحين «تامر حسني» سواء أيدت هذه الفكرة أو رفضتها فإن الدلالة هي أن «وردة» لا تخاصم الزمن!! ولم يسلم طريق «وردة» من أشواك الحاقدين بل والشائعات المغرضة.. الإشاعة التي ملأت الأسماع هي أن المشير «عبد الحكيم عامر» تزوجها عرفيا وأنه عاشق متيم بوردة.. كانت هذه هي الحكاية التي وجد الناس عن طريقها في الستينات فرصة لكي يدلي كل منهم بدلوه ويضيف الكثير لها بل ويعتبرها بعضهم من أسباب هزيمة 67.. رغم أن «وردة» على حد قولها في حوار سابق لي معها نشرته قبل 30 عاما قالت: إنها لم تلتق ولا مرة بالمشير، وإنها لم تعرف صوره إلا من خلال ما تنشره الجرائد.

«وردة» تستطيع أن تصفها على المستوى الشخصي بكلمة واحدة هي الصراحة.. هي أحيانا تصف نفسها بأنها قطار أو – مدب - بالتعبير المصري تقول رأيها حتى لو أغضب الجميع.. هي مثلا أبدت إعجابها بصوتي الراحلة «ذكرى» و«شيرين عبد الوهاب» وهذا الإعلان أغضب منها الأصوات الأخرى.. كثيرا ما تردد «وردة» أنها سوف تتغير لتتواءم مع الزمن وتتجمل لكن الطبع غلاب!! عطاء «وردة» تستطيع أن تلمحه في مشوارها وإصرارها على أن تواصل العطاء حتى اللحظة الأخيرة.. نعم غنت وردة «لعبة الأيام» ولكنها لم تترك الأيام تلعب معها أو تتلاعب بها.. وظل يفوح منها دائما أريجها في فضاء الإعلام العربي؟! نعم أكتب إليكم من «كان» حيث مهرجان السينما في دورته 65 تتلاحق الأفلام، ولكن «وردة» كانت لها مساحتها في «كان».