«تيتة رهيبة» يسبح في المياه الإقليمية لمحمد هنيدي

درس يوسف شاهين الذي لم يتعلمه نجوم الكوميديا

TT

عندما بزغت نجومية محمد هنيدي قبل 15 عاما بعد فيلمه «إسماعيلية رايح جاي» سألوه: هل من الممكن أن تمثل فيلما للمخرج يوسف شاهين؟ فأجاب: يا ريت، دي أمنية عمري.. كان هنيدي قد بدأ حياته بدور صغير في فيلم يوسف شاهين «إسكندرية كمان وكمان».

السينما التي يقدمها هنيدي هي سينما النجم، أنت ترى محمد هنيدي بتفاصيله من خلال الصورة الذهنية التي نسجها عبر مشواره الفني الذي يربو الآن على ربع قرن بينما يخفت حضور الشخصية الدرامية.

كانت نصيحة يوسف شاهين التي يكررها لكل تلاميذه حتى لو كانوا يشاركون في أدوار صغيرة مثل هنيدي: لا تتحولوا إلى باعة لبن. كان يقصد أن الممثل يقدم البضاعة نفسها للجمهور كل مرة مثل بائعي اللبن الذين يوزعون العبوة نفسها للزبائن. كان آخر حضور سينمائي لمحمد هنيدي قبل ثلاثة أعوام مع «أمير البحار» وهو غياب طويل لا يليق بنجم شباك تعود على اللقاء السنوي الدائم مع جمهور السينما، ولكن هذا الغياب القسري يكشف لك أن هنيدي فقد الكثير من قدرته على الجذب وأن شركات الإنتاج التي كانت تتهافت على طلب وده وإرضائه صارت تتردد في تنفيذ مشروعات سينمائية كان هو دائما سرها ومحورها بل والدافع الوحيد إليها. قد يرى البعض أن «ثورة يناير» قلصت العديد من المشروعات السينمائية والأمر ليس له علاقة مباشرة بهنيدي. والحقيقة هي أن النجوم الآخرين مثل أحمد السقا وأحمد عز ومحمد سعد وأحمد حلمي وأحمد مكي كانت لهم أفلامهم بعد الثورة.

مأزق هنيدي أنه سواء أكان حاضرا أم غائبا يظل كما هو يقدم الشخصية نفسها؛ الشاب الصغير الذي يبحث عن عروس.. ليس مهما أن بعض اللاتى سعى للارتباط بهن دراميا كن من الناحية العمرية في مقام بناته، ليس هذا هو المهم.. الذي يعني هنيدي في المقام الأول أن الزمن بالنسبة له يمضي حوله، فهو زمن الآخرين ولا يخصه بعد أن توقفت عقارب الساعة عن الاقتراب منه، ما دام أنه يحتفظ بملامحه نفسها!! صحيح أنه لأول مرة في فيلم «تيتة رهيبة» يذكر في جملة عابرة أنه قد وصل إلى الأربعين من العمر، ولكن الأمر هنا كان ينبغي أن يخضع أيضا لمقومات في رسم تفاصيل الشخصية التي يتقمصها لنشعر أننا نتعامل مع رجل في الأربعين من عمره تأخر زواجه إلى هذه السن ونتابع معاناته وهواجسه ومخاوفه، ولكن كل ما فعله كاتب السيناريو يوسف معاطي ومخرج الفيلم سامح عبد العزيز أنهما قدما البضاعة السابقة نفسها التي تعودناها من هنيدي؛ فهو لا يملك سوى وجه «بيبي فيس» وهكذا يبدو شابا في مقتبل العمر، إلا أن الفنان ليس مجرد ملامح وجه ولكن إحساس داخلي. لا شك أن مشاعر هنيدي الداخلية تتوافق مع رجل وصل لنهايات العقد الخامس من عمره ويتطلع للسادس، ولكن سيناريو يوسف معاطي كان يلعب في المساحة الآمنة نفسها التي تعود عليها هنيدي.

الفيلم في بنائه كان يعد بمساحات أخرى من السباحة الإبداعية متجاوزة المياه الإقليمية التي تعود الجمهور عليها وتعود عليها أيضا محمد هنيدي بعد أن أصبح هو الذي يقيد موهبته عن الانطلاق؛ فهو السجن والسجين والسجان. لا شك أن هنيدي لديه حضور لافت أمام الكاميرا بعد أن واصل مشواره الفني على مدى ربع قرن، حيث كانت البداية مع المخرج الراحل عاطف الطيب في دور صغير في فيلم «الهروب»، وبعد ذلك شارك في فيلم «إسكندرية كمان وكمان» ليوسف شاهين، ثم مع المخرج داود عبد السيد في «سارق الفرح»، وهو ما تكرر مع يسري نصر الله في «مرسيدس»، وهذا يعنى أن كبار المخرجين يقدمونه في أدوار تحمل موقفا ولها بناء وملامح، حتى وإن تمتعت بروح كوميدية، وبعد ذلك، أثبت هنيدي جدارته بالشباك، والدليل أنه حقق أرقاما في دور العرض لا يمكن إغفالها.

هنيدي هو زعيم نجوم الكوميديا لهذا الجيل الذين أطلقت عليهم الصحافة «المضحكون الجدد».. أعلن إشارة البدء قبل 15 عاما تحديدا في أغسطس (آب) 1997، وكان هو الألفة عندما قدم فيلمه «إسماعيلية رايح جاي» وتراجع بعد ذلك هنيدي مع بزوغ فيلم «اللمبي» لمحمد سعد الذي تجاوز سقف إيرادات هنيدي، واحتل سعد المقدمة أربع سنوات على القمة، ثم أزاحه أحمد حلمي عن عرش الأرقام التي صارت الآن في مجال الكوميديا يتنازعها كل من أحمد حلمي وأحمد مكي.

إلا أن الجانب المضيء لمحمد هنيدي أنه لا يزال داخل دائرة النجوم الذين يحققون الرقم الأكبر في الشباك.. ابتعد عن البؤرة ولكنه لم يطرد من الدائرة. ورغم ذلك، فإن هنيدي الذي يسير على قوة الدفع ينبغي أن يسبح في مياه أخرى بعيدا عن المياه الإقليمية التي تعود عليها؛ فهو مع الأسف يخشى المغامرة، ولهذا قدم في فيلمه «تيتة رهيبة» فقط نصف مغامرة! القضية التي التقطها يوسف معاطي كانت تتيح له فرصة لكي ينتقل إلى مساحة درامية خصبة؛ وهو الرجل في الأربعين الخاضع تحت قمع السلطة المتمثلة في جدته «رهيبة» التي أدت دورها سميحة أيوب في عودة لها للسينما بعد غياب طويل دام نحو 40 عاما؛ فهي بالتأكيد «سيدة المسرح العربي»، وهو اللقب الذي يبدو أنها حرصت على أن يسبق اسمها حتى في تترات الفيلم.

تيتة رهيبة تستطيع أن تراها هي السلطة الغاشمة التي تمارس القمع على الجميع حتى لو غلفت ذلك بقدر من الحب والحرص على المصلحة، إلا أنها في نهاية الأمر تنزع عن الإنسان أهم صفة له وهى حرية اتخاذ القرار. تبدأ الأحداث بهذا المشهد الذي يصور كابوسا يسيطر على «هنيدي» وهو أن جدته لا تزال هي التي تهيمن على مصيره وتنعته بأفظع الشتائم، ويصحو من النوم، ونكتشف أنه في مأمن لأن جدته تقيم في ألمانيا بينما هو يعيش في القاهرة مع جده الطيب «عبد الرحمن أبو زهرة».

يختلق السيناريو مشاهد ملفقة لكي يلتقي «أبو زهرة» مع دوللي شاهين التي تأتي من لبنان، فهي تؤدى دور مذيعة أو تحديدا فتاة لبنانية تتمنى أن تعمل مذيعة، ولهذا تأتى من بيروت إلى القاهرة للتقدم لاختبار مذيعات تعده إحدى الفضائيات بناء على دعوة من صديق هنيدي الذي أدى دوره الوجه الجديد محمد فراج، ويقع «أبو زهرة» في حبها لتصبح تلك هي نهايته القدرية.

«إيمي سمير غانم» هي الخطيبة التي يسعى لكي يتزوجها، فهي مثله تعمل معه في تحصيل الحساب في السوبر ماركت، وهنا تبدأ مشاهد «باسم سمرة» البلطجي شقيق إيمي متعاطي المخدرات وعاشق النساء ويسعى إلى ممارسة نزواته العاطفية عنوة في منزل «هنيدي»، وتأتي الجدة رهيبة (سميحة أيوب) فجأة من ألمانيا وبصحبتها كلباها ليبدأ خط جديد من الضحك يتوافق مع فكرة الخوف من نباح وعض الكلب. وفي النهاية، يتصالح «هنيدي» مع جدته بعد صراع وصل إلى ساحة القضاء. ولكن قضية الخضوع للسلطة لم يتناولها أصلا السيناريو الذي مثلا نسج خطا ثانويا، ولكنه شديد الدلالة لضابط الشرطة بعد الثورة الذي أصبح أكثر خوفا حتى وهو يطبق القانون حتى لا يجد نفسه في موقف المتهم بالاعتداء على الشعب! المخرج سامح عبد العزيز مع كاتب السيناريو يوسف معاطي يبدو أنهما يحققان رغبة هنيدي في أن لا يقدم قضية جادة، ولكنه فقط يداعب الجمهور. والحقيقة أن الفنان كلما ازداد رصيده لدى الناس يصبح لزاما عليه أن يسعى إلى ما هو أبعد. سامح هذه المرة لمح أن لديه إضافة تعبيرية، بينما معاطي يقدم في السيناريو بين الحين والآخر مشهدا كوميديا مبتكرا، ولكنه لا يخلص أبدا لحالة الفيلم، ويشعرك بأنه يطارد فقط الموقف الكوميدي ويحاول أن يقبض عليه ولو عنوة ويستثمره حتى آخر قطرة.

أعجبتني مشاهد ضابط الشرطة الذي أدى دوره خالد سرحان، صار «خالد» هو قناص الفرص الذي يحيل دائما مشاهده في الأفلام على ندرتها إلى مشاهد رئيسية.

«تيتة رهيبة» فيلم لا يعيش في الذاكرة، فهو من «الكليشيهات» السينمائية، ولا شيء أبعد من ذلك، وهو في النهاية فيلم يشبه على نحو كبير كل الأفلام السابقة التي لعب هنيدي بطولتها حيث لا ترى فيها سوى هنيدي وهو يقدم هنيدي..

متى يأخذ هنيدي بنصيحة يوسف شاهين ويتوقف عن بيع اللبن؟.