سينما تعود للأبيض والأسود بحثا عن الأصالة وحبا في الفن

أفلام جيدة بلا ألوان

من «نبراسكا»
TT

في واحد من تصريحاته القليلة، تحدث المخرج الأميركي الراحل جون فورد عن فيلمه «الباحثون» The Searchers الذي حققه سنة 1956، فقال معلقا على استخدامه الأبيض والأسود: «أي مدير تصوير يستطيع التصوير بالألوان، لكنك تحتاج إلى فنان حقيقي لكي يصور بالأبيض والأسود».

بقي هذا القول راسخا في أذهان كثيرين ممن صاحبوا هذا المخرج وأترابه من المخرجين الأميركيين الجيدين أمثال هوارد هوكس وراوول وولش وآندريه د. توث وأورسن ولز حتى استسلمت السينما إلى «العصرنة» وباتت الأفلام تتلون بالتدريج. ارتفعت النسبة من 10 في المائة في منتصف الخمسينات، إلى 50 في المائة في منتصف الستينات، ومع اقتراب السبعينات صارت هي الأكثرية الساحقة والأكثر ارتيادا. اليوم من النادر أن تجد أفلاما روائية طويلة مصورة باللونين الأبيض والأسود وتدرجاتهما الرمادية. أحد هذه الأفلام القليلة «لغط حول لا شيء» (المعروض منذ أسابيع قليلة في أكثر من عاصمة) الذي حققه جوس ويدون صاحب فيلم «المنتقمون» The Avengers الذي ينتمي إلى السينما الحديثة بكل عناصرها العصرية المبهرة بما في ذلك نظام الأبعاد الثلاثة.

ما دفع المخرج ويدون للانتقال من نقيض إلى نقيض يعود إلى رغبته في إنجاز فيلم قليل التكلفة، ما دام الفيلم كان مغامرة ذات عواقب كونه يقتبس مسرحية لشكسبير من دون ممثلين معروفين، مع سمة فنية غالبة.. هذه السمة، قرر، يستطيع الأبيض والأسود توفيرها بما لا يستطيع الفيلم الملون.

هذا المفهوم يمكن اختراقه بالتأكيد. هناك أفلام فنية مهمة تصنع باستخدام الألوان في كل يوم، لكن النقطة التي أراد ويدون الوصول إليها هي التميز.. وهي النقطة ذاتها التي عمد إليها المخرج ألكسندر باين عندما قام بتصوير فيلمه الجديد «نبراسكا»، الفيلم الذي عرضه في مهرجان «كان» الأخير وحاز عنه إعجابا نقديا مضطردا.

«نبراسكا» كان يستطيع، بلا ريب، الاستفادة من الألوان كونه يلتقط من الحياة الريفية الكثير من المناظر الطبيعية.. أدار تصويره فيدون بابامايكل مستخدما كاميرا «35 مللم» من نوع «آري أليكسا» الجديدة المعروفة بطواعيتها.

قرار أليكسندر باين بتصوير «نبراسكا» بالأبيض والأسود لم يكن وليد الساعة: «منذ أن قرأت السيناريو قبل ثماني سنوات لم أستطع تخيله إلا بالأبيض والأسود».

هذا على عكس ما حدث للمخرج البريطاني بن ويتلي على أعتاب بداية تصويره فيلم «حقل في إنجلترا» الذي يباشر عروضه هذا الأسبوع. فهو كان منساقا لتصويره بالألوان، إلى أن قام بتصوير لقطات فوتوغرافية تحضيرية بعضها بالأبيض والأسود وبعضها الآخر بالألوان: «لقد اكتشفت أن ما توفره الصورة غير الملونة هو أفضل مما توفره الصورة الملونة. لقد ذهلت حين قارنت النتيجتين».

سبب جوهري واحد من الفروقات بين الاستخدامين يتكون من مفاهيم بسيطة: تصوير الفيلم بالألوان سيمنح العين وظيفة مختلفة من حيث إنها ستنشغل، ولو جزئيا، بالألوان التي اختارها الفيلم للديكور أو للملابس أو لباقي التصاميم الإنتاجية المتوفرة.. في حين تتساوى كل الألوان في مستوى واحد، حين التصوير بالأبيض والأسود، مما يجعل العين منصرفة على متابعة العمق في الفيلم على نحو أكثر فاعلية، بالتالي أكثر تخصصا في متابعة العمل بحد ذاته.

هذا أمر غريب، لكنه صحيح يكتشفه المرء إذا ما قارن - مثلا - بين فيلمي «فرتيغو» و«سايكو» وكليهما لألفرد هيتشكوك. الأول بالألوان الغزيرة (إذا ما صح التعبير) والثاني باللون المتقشف. ومع أن «فرتيغو» يحمل نصا أكثر اكتمالا وأبعد منالا من مجرد حكاية تشويقية، كحال «سايكو»، إلا أن المشاهد الحاسمة في «سايكو» (مثل مشهد قتل بطلة الفيلم جانيت لي في الحمام ومثل سقوط التحري من على السلم بعد ذلك) مرشحة لأن تبقى في الذاكرة أطول من تلك التي في الفيلم الآخر.

على أن استخدام الألوان مهم في حالات كثيرة. مرة أخرى يحيلنا «فرتيغو» إلى سبب جوهري: حين يطلب جيمس ستيوارت من كيم نوفاك أن تبحث عن الثوب الذي يرضيه هو شخصيا (كونه يرغب منها أن تشابه امرأة سابقة عرفها). إنه ثوب أخضر، ذاك الذي ينتقيه، مما يعني أن الفيلم كان عليه أن يصور بالألوان لكي يبرز هذا العامل وسواه من العوامل الحاسمة في فيلم شيد على رجل يقع ضحية جمال إمرأة بصفات جمالية معينة تتطلب جميعا الألوان لكي تعني للمشاهد ما تعنيه للمخرج.

وثمة فيلم جديد آخر يطرح هذا الشهر بالأبيض والأسود هو «فرنسيس ها» من إخراج سينمائي من الجيل الشاب (نسبيا) هو نوا بومباخ. مشاهدة الفيلم تكشف في الواقع عن العودة إلى روح الستينات عندما كان المخرج المستقل الآخر جون كازافيتيز مشغولا بسرد أحداث أفلامه الاجتماعية من دون ألوان. وكازافيتيس، شأنه في ذلك شأن كثيرين من أترابه آنذاك، مثل آرثر بن وروبرت ألتمن وسيدني لوميت، صور أفلاما ملونة وأخرى غير ملونة، وكان ناجحا في كليهما وإن لم يحقق أي من أعماله (بصرف النظر عن لونه) نجاحات مادية خارقة. هذا لا يعني أن النجاح ليس حليف الأفلام غير الملونة. في عام 2011 انتشر على كل شاشات العالم فيلم «الفنان» الذي أُنجز ليماثل أفلام العشرينات. وقبله «قائمة شندلر» و«سن سيتي». أغرب من ذلك أن الأبيض والأسود في أفلام روسيلليني ودي سيكا الأولى لم تمنع النقاد من وصف تلك الأفلام بـ«الواقعية»!

* أكثر الأفلام السوداء ـ البيضاء نجاحاً

* «قائمة شندلر» (1993): 321 مليونا و300 ألف دولار.

* «سن سيتي» (2005): 158 مليونا و800 ألف دولار.

* «الفنان» (2011): 133 مليونا و500 ألف دولار.

* «فرانكنويني» (2012): 67 مليونا و100 ألف دولار.

* «تصبحون على خير وحظا سعيدا» (2005): 54 مليونا و600 ألف دولار.