«السينما الخاصة» تسعى للاحتفاء بمخرجيها ونجومها

هاري دين ستانتون 86 سنة وما زال يلمع

هاري دين ستانتون كما ظهر في «باريس.. تكساس»
TT

لم يصنع مخرج عربي فيلما عن نفسه والأفلام التي صنعها آخرون عن مخرجين عرب معيّنين قليلة جدا ولم توزّع سينمائيا أو توفر كاسطوانات بل تم بثها عبر شاشات التلفزيون. الأمر أقرب إلى نتاج إحدى حالتين: اقتناع بأن المخرج هو آخر من يحق له أن يصنع فيلما عن نفسه أو أن يصنعه له آخر، أو عدم مبالاة. لكن في كل الأحوال، يبقى الإهمال السائد والضارب بعمق في فن الصورة العربية: لا جهات تحقق أفلاما عن سينمائيين مرموقين لذلك تتحوّل الكتابة عن مخرجين عرب كبار مثل كمال الشيخ وصلاح أبو سيف ويوسف شاهين ومحمد ملص والناصر قطاري ومحمد لخضر حامينا وعاطف الطيّب ومحمد خان أو ممثلين معروفين بقدراتهم الفنية المشهودة أمثال سعاد حسني ويحيى الفخراني وكمال الشنّاوي ومحمود المليجي وفاتن حمامة وعمر الشريف إلى مجرد كلمات، وهناك منها الكثير، لكن الصورة الموثقة تبقى غائبة كما أن هؤلاء وسواهم كانوا مجرد موظفين للترفيه العام وهم الآن إما تقاعدوا أو انتقلوا إلى الدنيا الآخرة.

هذا عكس ما يحدث تماما في شتّى أصقاع الأرض. أفلام سينمائية كثيرة تم إنتاجها للعرض في دور السينما التجارية كما في المهرجانات الدولية حول أكيرا كوروساوا، آرثر بن، إنغمار برغمن، فرانشسكو روزي، وودي ألن (ممثلا ومخرجا)، جون واين، كلينت إيستوود، ميرلين ديتريش، كلود شابرول، ألفرد هيتشكوك، واللائحة بعد هذا تطول.

* والدي قال لي حاليا وعلى الشاشة الكبيرة من الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الحالي فيلم تسجيلي عن الممثل غير النجم هاري دين ستانتون. إنه وجه مألوف ولد قبل 86 سنة وظهر - حتى الآن ولا يزال نشطا - في 185 عملا منها 108 أفلام سينمائية. أحد الوجوه التي انطلقت، مثل جاك نيكولسون وبروس ديرن ودنيس هوبر، في الخمسينات فتدرّب على أدوار صغيرة نمطية حوّلها إلى لافتة وصعد السلم ليصبح وجها مكررا ومحبوبا. إنه في «كول هاند ليوك» أمام بول نيومان (1967) و«أبطال كيلي» مع كلينت إيستوود (1970) و«دلنجر» مع بن جونسون (1973) والتحق بركب «العرّاب 2» (1974) وأكمل لاعبا دور رجل البوليس المرتشي في «وداعا يا حبي» (1975) ولك أن تختار الدور.. نعم هاري دين ستانتون لعبه وصولا إلى ثلاثة أفلام متتابعة هذا العام هي «شعار فنان» و«الوقفة الأخيرة» و«تسعة أشهر قمرية».

«هاردي دين ستانتون: جزئيا خيال» هو فيلم حققته عنه مخرجة سويسرية اسمها صوفي هوبر ويضفي المعرفة كما عمق الدلالات على من لا يزال يعرف الوجه ولا يعرف الاسم أو العكس.. كذلك لمن لا يزال لا يعرف هذا الممثل بالمرّة. إذا لم يصل دين ستانتون إلى الشهرة المطلقة فلأنه لم يكترث، حسب الفيلم، إلا لأن يكون ممثلا: «والدي قال لي امض في خط مستقيم حتى تصطدم بشيء» وستانتون اصطدم بالأعمال الكثيرة صغيرة وكبيرة وبمخرجين قدّروه وأحبّوا فيه كل ذلك البذل ومنهم ديفيد لينش الذي خصّه بكثير من التقدير.

مهرجان فينسيا الأخير كان مليئا بالأفلام التي تحدثت عن سينمائيين. واحد عن المخرجة الطليعية شانتال أكرمان، وآخر عن الإيطالي كارلو ليزاني وهو يتولى الحديث عن مخرجي سينما الواقعية الجديدة وثالث عن برناردو برتولوتشي. طبعا هي ليست موجة، ولا حتى ظاهرة بل منوال قديم يتجدد تلقائيا وتنضم الأعمال التي تندرج فيه إلى ما سبقها.

من بين هذه الأعمال فيلم يحيك علاقة عدد من السينمائيين (بينهم الدنماركي لارس فون تريير وليام فريدكن وفرنسيس فورد كوبولا، وودي ألن، زانغ ييمو، آنغ لي، ومارتن سكورسيزي، وريدلي سكوت) بالمخرج السويدي إنغمار برغمن. عنوانه «عبور برغمن» وقام به مخرجان تسجيليان هما جين مانوسون وهاينك بالاس أتاحا للمخرجين المذكورين وسواهما إلقاء نظرة فاحصة على تجربتهم الفنية ومدى تأثرها، أو إعجابها، بسينما المخرج المعروف. المخرجان بالاس ومانوسون أتاحا لعدد من هؤلاء (مثل المكسيكي أليخاندرو غونزالز إناريتو والأميركي جون لانديس) زيارة منزل المخرج برغمن الذي بناه على جزيرة نائية اسمها فارو في البحر البلطيكي. هذا الفيلم يتبع عددا لا يحصى من الأفلام السابقة حول واحد من أكثر مخرجي السينما العالمية حضورا وتأثيرا في الأجيال التي تلته.

من ناحيتها قامت ابنة المخرج الأميركي الراحل سامويل فولر، واسمها سامنتا فولر، بتحقيق فيلم عن أبيها «حياة فولر» الذي تناولت فيه تاريخين: تاريخ والدها المخرج المعروف بين هواة السينما الجادين كسينمائي، وتاريخ أبيها كجندي شارك في القتال خلال الحرب العالمية الثانية.

* جون فورد بعدسة بوغدانوفيتش ليست كل الأفلام التي يتم تحقيقها عن مخرجين تسجيلية. إذ شاهدنا أعمالا خيالية قام خلالها ممثلون بلعب أدوار مخرجين معروفين. نور الشريف لعب شخصية يحيى التي اختارها المخرج يوسف شاهين لتكون تعبيرا عنه في الأفلام الأربعة التي حاك فيها سيرته الشخصية وذلك في «حدوتة مصرية» سنة 1982.

وفي فيلم وودي ألن «منتصف الليل في باريس» قدّم ممثلا جسّد، ولو لفترة وجيزة، شخصية المخرج الإسباني لوي بونويل. وكان المخرج الأميركي بيتر بوغدانوفيتش استعرض جزءا من حياة تشارلي تشابلن والممثلة ماريون ديفيز في فيلمه الجيّد (والمجهول) «مواء القطة» (2001).

لكن أبرز ما قام به بيتر بوغدانوفيتش من أفلام حول شخصيات سينمائية يبقى «جون فورد» عن المخرج المحنك الذي دمغ الغرب الأميركي بأعماله. حقق بوغدانوفيتش (الذي صنع أعمالا أخرى بعضها عن ألفرد هيتشكوك كما وضع كتبا عن تاريخ السينما كما يرويه مخرجون قدامى أمثال هوارد هوكس وروبين ماموليان) هذا الفيلم سنة 1971 واستعان بعدد من بين الممثلين الذين اشتغلوا تحت إدارة فورد في أفلامه ومن بينهم رتشارد ودماك وكاثرين هيبون وهاري كاري وورد بوند ومورين أوهارا وترك التعليق لعملاق آخر هو أورسن وَلز (الذي كان بدوره موضوعا لعدد ملحوظ من الأفلام التسجيلية الأخرى).

كل ذلك ونحن نمارس في سينمانا العربية ما تعوّدناه منذ مطلعها: لا أحد مستعد لدفع قرش واحد في عمل مختلف يؤرخ للفن وللسينما ولجنودها مجهولين كانوا أم مشهورين.

* لقطات هاري دين ستانتون مع مخرجين كبار

* هو «لوك» أحد أشرار فيلم سام بكنباه الرائع «بات غاريت وبيلي ذ كيد» (1973) وبعد ثلاثة أعوام هو تحت إدارة آرثر بن في «استراحات ميسوري» (1976) ثم دلف بعد عام إلى مظلّة مخرج كبير آخر هو جون هيوستون في «دم حكيم» واللقاء الثاني بينه وبين فرنسيس فورد كوبولا (بعد دور صغير في «العرّاب 2») تم في «واحد من القلب» (1982) وحين جاء الألماني فيم فندرز ليحقق فيلمه الصحراوي «باريس، تكساس» منحه شخصية الرجل الذي ينطلق ماشيا في الصحراء بلا وجهة، ثم هو في أكثر من فيلم لديفيد لينش منها «متوحش في القلب» و«حكاية سترايت».