مخرجون في منتصف الطريق .. بين التقليدي والبديل

سينما مستقلة عن ماذا.. ولماذا؟

محمد خان: بديل دائم
TT

* المشهد

* فيلم يحاولون التملص منه

* فتح المخرج التونسي - الفرنسي عبد اللطيف كشيش النار على الممثلة الفرنسية ليا سيدوكس، إحدى بطلتي فيلمه الأخير «الأزرق هو اللون الأكثر دفئا» في رسالة نشرتها له «لا نوفيل أوبرفاتور» في موقعها الثقافي Rue89.com قبل يومين. المخرج الذي كان فيلمه فاز بسعفة الدورة الأخيرة من مهرجان «كان» السينمائي عد تصريحات الممثلة «افتراءات» وأن ما قالته إما «كذب» وإما «مبالغة». وأضاف أنها «طفلة مدلعة ومتعجرفة». ولم يسلم الصحافي أورليانو تونيه، الذي يكتب في صحيفة «لوموند» من هذا الهجوم، الذي خص الفيلم، خلال فترة تصويره، بمقالات عدها المخرج «سلبية».

موقف الممثلة غريب، فهي، بكت، كما يذكرنا المخرج، على كتفه حين فاز الفيلم وشكرته «مرارا وتكرارا في السر والعلن» لكي يفاجأ به تهجوه مؤخرا عادّة إياه «بصباصا» أعاد تصوير المشهد الفاضح في الفيلم «أكثر من مائة مرة»، حسب قولها، قائلة إنه فعل ذلك لغايات وعواطف نفسية وليست فنية. لماذا لم تستهجن تصرفاته خلال التصوير، أو لماذا لم تذكر شيئا من ذلك في المؤتمرات والمقابلات الصحافية التي أجرتها خلال وبعد عرض الفيلم في «كان»؟

في نهاية تصريحاتها، خصوصا تلك التي أجرتها مؤخرا في نيويورك، تعلن ندمها على تمثيل هذا الفيلم والندم في هذه الحال هي الخطوة ذاتها التي يقررها من يريد التخلص من فيلم بعد أن يكتشف ما لا يرضيه. لكن المخرج كشيش هو أيضا يتصرف على هذا النحو في تصريحاته الأخيرة متمنيا أن لا يعرض الفيلم بتاتا.

الآن بدأت أرتاب أن في الأمر لعبة.. هو يعلم أن الفيلم بيع للتوزيع في أكثر من منطقة حول العالم ويتحدث بعد أن باع الفيلم 261 ألف تذكرة في أسبوعه التجاري الأول في 285 صالة فرنسية، ثم نحو 600 ألف تذكرة في أسبوعه الثاني، وقبل أيام من افتتاح الفيلم في الولايات المتحدة اليوم في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي. إذا لم يكن ذلك بقصد الترويج فما القصد منه إذا؟

هناك سوابق في هذا الاتجاه. الممثل جيم كاري رفض قبل نحو شهرين الاشتراك في ترويج فيلم أخير له هو «Kick Ass 2» بعدما «اكتشف» أن الفيلم عنيف جدا. الممثل وأحيانا المخرج سث روغن هاجم ثلاثة أفلام من تمثيله في عقب كل واحد، عادّا إياه أردأ من سابقه. شون بن قال إنه لم يفهم شيئا من «شجرة الحياة» لترنس مالك، والمخرج مايكل باي عد فيلمه «ترانسفورمرز 2» سيئ.

ولا ننسى الضجة التي أثارها المخرج اللبناني زياد دويري حول فيلمه الأخير «هجوم» في الإعلام الأميركي. لقد مُنع فيلمه في عدد من الدول العربية لأنه صوره في إسرائيل فلجأ إلى الصحافة الأميركية بقضيته قبل أسابيع وأيام من بدء عرض الفيلم في صالاتها. الفيلم فشل تجاريا على أية حال.

لكن إذا لم يكن الأمر كناية عن إثارة الضجة قبيل عرض الفيلم لكي يؤمن له المخرج بعض الترويج الإضافي، فهل هو ندم عليه أم محاولة للتخلي عنه؟ كلا الاحتمالين سيئ. شخصيا، كنت انتقدت فيلم كشيش ليس بسبب وجود ذلك المشهد الجنسي بين بطلتيه، بل بسبب أنه أطول بكثير مما يجب.. يذكر بالأفلام القديمة عندما كانت الحياة كلها تتوقف بانتظار أن تنهي الراقصة نمرتها أو يغني المطرب آهاته الطويلة. البعض اعتبر أن كتابتي «إسلامية» كما لو أن هذه تهمة، لكنني كنت شديد الحرص على أن أنظر إلى الفيلم عموما وإلى ذلك المشهد تحديدا على أساس أنه مصنوع لرضاء نفسي أكثر منه لغاية فنية.

أربعة مهرجانات سينمائية عربية متتابعة في أبوظبي والدوحة ومراكش ودبي تسهم في تحريك عجلة العروض لمجموعة كبيرة من الأفلام العربية الجديدة. مهرجان دبي وحده تسلم حتى اليوم، حسب مصدر، 3500 فيلم، طالبة الاشتراك به، منها كم كبير (نحو 40 في المائة منها) عربي.

ليس من بين هذه الأفلام العربية ولا من بين كل الأفلام العربية التي تزين واجهة أي من المهرجانات الثلاثة الأخرى، ما هو تابع لنظام إنتاجي كلاسيكي.. نظام يقوم على كيانات صناعية كاملة. هذا طبيعي جدا، لأنه إذا كانت هناك سينما تجارية أو جماهيرية عربية (مصرية في الأساس) لم تزل موجودة، فإنها لا تتوجه إلى المهرجانات، بل يسعدها إقبال جمهور الصالات التجارية إذا ما توصلت إليه. ما يطوف المهرجانات السينمائية بالنسبة الغالبة وذلك منذ عقود، تلك الأفلام التي اصطلح على تسميتها «المستقلة»، ومنها ما هو مصري ولبناني وإماراتي وسعودي وعراقي وتونسي ومغربي وسواه. الأفلام التي لا تنتمي إلى المؤسسات الإنتاجية الكبيرة ولا تلك التي يتم تصويرها في الاستوديوهات أو ما بقي ماثلا منها في العالم العربي.

والحال هذه، فإن مصطلح السينما المستقلة بات بحاجة إلى تعريف جديد من زاوية سؤال جدير بالطرح: كيف يمكن أن تكون السينما العربية مستقلة إذا ما كانت الهامش الأعرض والأكثر انتشارا من بين الإنتاجات السينمائية؟ كيف يمكن، في المقابل، أن تكون السينما المتعارف على تسميتها بالتجارية هي السائدة التي تحتاج الأفلام الأخرى الاستقلال عن منهجها، إذا ما باتت ضئيلة العدد ومحدودة؟ أو هل هناك سينما مختلفة عن ذلك السائد الماضي هي تكملة له وبالتالي تأتي السينما المستقلة لكي تستقل عن تلك المختلفة؟ ومنذ متى بات الفيلم يحاكم على أساس حجمه ومصدره الإنتاجي وليس على أساس قيمته الفنية؟

نجد بعض الجواب في تجربة المخرج محمد خان الطويلة.. أفلامه في الثمانينات انتمت إلى ما عرف آنذاك بالسينما البديلة عن السائد ضمن أي مصطلح أو مفهوم. من «طائر على الطريق» و«موعد على العشاء» و«الرغبة» إلى «نص أرنب» و«مشوار عمر» و«عودة مواطن» ولاحقا «زوجة رجل مهم» و«أحلام هند وكاميليا». نعم بعضها كان بمشاركة منتجين أنجزوا أيضا أفلاما من النوع السائد، لكن أفلامه انتمت إلى ما لم يكن سائدا، وهذا بيت القصيد. كذلك الحال مع أفلام آخرين خرجوا من التيار التقليدي برمته أمثال رأفت الميهي وبشير الديك وخيري بشارة من بين آخرين. كل له باع في منوال من الأفلام لم يُصنع على طراز الأفلام الأكثر انتشارا.

في أفلامه المختلفة، تعامل محمد خان مع نجوم السينما ذاتهم الذين لا يتأخرون عن التعامل مع المنتجين التقليديين طالما أن أدوارهم في تلك الأفلام هي - في اعتباراتهم على الأقل - مميزة. اشتغل مع أحمد زكي في «أحلام هند وكاميليا» و«زوجة رجل مهم» و«كلفتي» و«أيام السادات»، وأدار ممدوح عبد العليم وعادل أدهم في «سوبر ماركت»، ونجلاء فتحي في «سوبر ماركت» و«أحلام هند وكاميليا»، ومحمود حميدة في «فارس المدينة»، وميرفت أمين في «زوجة رجل مهم»، بل ونبيلة عبيد، كإحدى كبار النجمات الناجحات في الثمانينات وقسط من التسعينات، في «الغرقانة».

كل ذلك ولم يتغير في سمات سينماه شيء، ولا في سمات أي مخرج آخر عمد إلى أي من الممثلين المؤسسين تجاريا.

في حين أن هؤلاء استطاعوا الفوز بتقدير نقدي واسع، فإن هناك من فسر أعمالهم بأنها أقل استقلالا مما يجب، كما لو كان من المطلوب أن ينجز المخرج أعماله على النحو الذي يجعله لا يستطيع العودة إلى العمل مرة أخرى لكي يبرهن عن درجة اختلافه أو استقلاليته.

فعل خاسر الفيلم المستقل هو - في المقام الأول - موقف يتبناه المخرج حيال العلاقة بين السينما التي سيقوم بتنفيذها والطريقة التي يتم تنفيذ السينما بها عادة.. يريد أن يتدخل لكي يختلف وليكون مستقلا عن الطريقة المتبعة والتقليدية، ولديه الأسباب الداعية لذلك التي تشكل، في مجموعها، قناعاته. فهو يرى أن السينما السائدة ذات التوجهات الجماهيرية الكبيرة ليست ما يستطيع حمل رؤيته الفنية والموضوعية ولا التعبير عما يرغبه من العمل في السينما.. يريد أن يستقل.. وما يستقل عنه ليس فقط جهة التمويل وما تفرضه من شروط (تأتي في البداية على أنها تمنيات) لكي تخطو إلى عملية تنفيذ الفيلم، بل المفهوم الذي يوجه التمويل نفسه.. ذلك الذي، وإلى حد بعيد، صنع السينما في بلداننا كما في البلدان الأخرى.

المخرج في هذه الحالة يعمل انطلاقا من وضع ومن موقع يختلفان عن وضع وموقع المنتج الذي ينظر إلى الجمهور بوصفه غاية ونهاية مطاف. الأول يؤكد على رغبته صنع أعمال ذاتية تهم النخبة التي تشاركه الرأي أو تمنحه المكانة التي يسعى إليها، والثاني يدرك بشكل واثق أن هذا النوع من الأفلام فعل خاسر جملة وتفصيلا لا يستطيع أن يستعيد تكلفته وإن فعل فبالتأكيد ليس على النحو الكافي لكي يمول مشاريع أخرى به. عمليا كل منهما على حق في نظرته. وإذا ما كان الناقد يميل طبيعيا إلى السينما التي تختلف، فإن عليه أيضا تقدير الفيلم الجيد بصرف النظر عن سبب إنتاجه.

على الأقل هذا ما كانت الحال عليه عندما كان عدد كبير من أفضل سينمائيي السينما المصرية يعمل بلا انقطاع مثل كمال الشيخ وسعد عرفة وسعيد مرزوق وصلاح أبو سيف.

إنه من المثير للتأمل كيف أن المنتجين في مصر (والمنتجين غير المصريين الذين يتعاملون مع السينما المصرية موفرين قروض التوزيع إلخ...) يفكرون بالنظام الهوليوودي نفسه حين يأتي الأمر إلى النوع السائد من السينما (حتى في تقسيم السنة إلى مواسم ومن حيث اتباع نظام النجوم ذاته من زاوية أن النجم هو من نجح فيلمه الأخير فقط، إلخ...) ولا يطبقون الشطر الثاني من المعادلة. فحين نجحت السينما الأميركية المستقلة في احتلال مكانها التجاري في العقود القليلة الماضية، قررت الاستوديوهات الكبيرة انتهاج سياستها، ليس حبا في الفيلم المستقل أو الذاتي أو الفني، بل رغبة في ضم جمهوره.

أين فنانو الأمس القريب؟

الذي حدث تبعا لذلك التبني مثير للاهتمام.. وجد المخرجون المختلفون جزئيا، أمثال كونتين تارانتينو وستيفن سودربيرغ والأخوين كوون، أنفسهم قادرين على المواصلة ضمن أساليبهم التي، إذا شئنا المقارنة، تقترب من تلك التي قام بها بشير الديك وخيري بشارة وداود عبد السيد ومحمد خان، من حيث إنها في نصف المسافة بين التقليدي والبديل. صحيح أن ستيفن سبيلبيرغ لن يحقق فيلما له منحى مستقل عن السائد كما حال بعض أفلام ستيفن سودربيرغ، لكن سودربيرغ لم يعد عاطلا عن العمل.

في المقابل، لم يستفد مخرجون أكثر انفصالا عن المحيط العام وأكثر استقلالية وذاتية في أساليبهم التعبيرية من لم الشمل ذاك. في السنوات الأخيرة لم نعد نسمع عن جون سايلس (أنجز بعض أفضل أفلام النوع في التسعينات) ولا ديفيد لينش (استبدل الرسم حاليا بالإخراج) وحين عاد جيم جارموش، بعد توقف دام أعواما، حقق، هذا العام، عملا مخيبا للآمال بعنوان «فقط العشاق بقوا أحياء».

خلفية هؤلاء وسواهم من المختلفين على نحو شبه دائم أو كلي لم تحتو على أعمال ذات نجاح جماهيري كبير يدفع هوليوود لمد يد التعاون نحوهم كما فعلت حيال الآخرين. الجميع يعلم في هوليوود أن ديفيد لينش فنان، لكنهم يعلمون أيضا أن أفلامه الأربعة الأخيرة (آخرها «مولهولاند درايف» سنة 2001) لم تنجز رقما مهما في السوق، وهذه الأفلام لم تكن أساسا لتُنتج لولا شركات فرنسية تحمست للفنان أكثر مما اهتمت باحتمالات النجاح.

هل فرنسيس فورد كوبولا مخرج مستقل؟

* انطلق فرنسيس فورد كوبولا مستقلا بالكامل شأنه في ذلك شأن مارتن سكورسيزي وروبرت ألتمن وبرايان دي بالما بين آخرين. في عام 1972 مولت شركة «باراماونت» أول نجاحاته الكبيرة «العراب» ثم «العراب 2»، لكن المخرج حافظ على اختلافه رغم ميزانيات أفلامه التي حقق بها أعمالا رائعة أخرى. حاليا يمول أفلامه جزئيا من مزرعة النبيذ التي يملكها في سان فرانسيسكو بعيدا عن هوليوود وبعيدا عن احتمالات نجاحها الجماهيري الكبير.