مخرجون معروفون: أفلام الأمس ذاتية تدغدغ البال وأفلام اليوم تعاني عقدة المهرجانات

مهرجان أبوظبي السينمائي (7)

مشهد من «أحلام المدينة»
TT

«عندما حققت فيلمي الأول، اكتشفت ماذا أريد من العودة إلى هذه الطفولة».

يقول المخرج محمد ملص لنا في أحد اللقاءات، شارحا الظروف التي أحاطت بفيلمه الروائي الطويل الأول «أحلام المدينة» الذي حققه سنة 1984. ويضيف: «ما حاولت تحقيقه ليس أفلاما ذاتية، بل أفلام عن الذات».

محمد ملص آت من سوريا، وموجود في أبوظبي لتقديم ذلك الفيلم الأول له، في تظاهرة تضم سبعة أفلام كانت الأولى لمخرجيها السبعة، وهي، إلى جانب «أحلام المدينة»، التونسي «عصفور السطح» لفريد بوغدير، و«صمت القصور» للتونسية مفيدة التلاتلي، والفيلم الجزائري «عمر قتلاتو» لمرزاق علواش، واللبناني «بيروت الغربية» لزياد الدويري، والمصري «عرق البلح» لرضوان الكاشف (المخرج الوحيد الراحل بين هذه المجموعة)، والمغربي «الرحلة الكبرى» لإسماعيل فروخي.

كل هذه الأفلام، التي تمتد تواريخ إنتاجها من منتصف السبعينات حتى أواخر التسعينات، أكثر من جيـدة. كل واحد منها لعب الدور الكبير في تقديم مخرجه إلى الجمهور وإلى النقاد والمهرجانات، ثم كل منها كان وليد ظرف تاريخي متلائم، شحذ الهمـة وساعد في إطلاق الموهبة الكامنة في الداخل... كذلك، كلـها من دون استثناء أفلام صورت سينما لأن الديجيتال لم يكن موجودا بعد.

بالنسبة لمحمد ملص، فإن تجربته - على حد تعبيره - تحتضن آمال الفترة التي تحدث عنها الفيلم (الخمسينات) وآلام المراحل السياسية اللاحقة وصولا إلى اليوم: «لقد قضت أجهزة النظام منذ زمن بعيد على كل حرية تعبير. ولكي نفهم الصورة جيدا، فإن السينما السورية احتوت للآن على أربعة أجيال. الجيل الأول جيل المقلدين. الجيل الثاني جاء بعد استيلاء حزب البعث على السلطة سنة 1963، حيث انتبه المسؤولون آنذاك إلى أن أفلام هذا الجيل تستطيع طرح قضايا نقدية. أما الجيل الثالث، فهو جيل كان يجمع 24 مخرجا في الوقت الذي كانت فيه مؤسسة السينما الرسمية لا تنتج أكثر من فيلم واحد في السنة. وهناك جيل رابع هو الذي لا يزال يحب السينما ويريد العمل بها، لكن الآفاق ضمن الأوضاع الحالية مسدودة أمامه».

* حروب وجوائز في حين وفـر المغربي إسماعيل فروخي في «الرحلة الكبرى» حكاية علاقة حانية بين أب وابنه في طريقهما لأداء فريضة الحج، تمحور فيلم الجزائري مرزاق علواش «عمر قتلاتو» (1977) حول المسألة الفردية في المجتمع الجزائري ومحاولة بطله تحقيق ذاته في أوضاع لا تخلو من الفوضى، وذلك ضمن نبرة نقدية كوميدية واضحة.

فيلم رضوان الكاشف «عرق البلح» (1999، وكان في الحقيقة الفيلم الثاني لمخرجه وليس الأول) دار عن الهجرة، حيث تابع مجموعة من الرجال القرويين الذين كانوا هاجروا من قراهم لسنوات لتحصيل القوت، وحين عادوا وجدوا أن عليهم التأقلم مع أوضاع متغايرة. أما الفيلم اللبناني «بيروت الغربية» (1998)، فجاء كواحد من أفلام لبنانية كثيرة دارت عن الحرب أو حول موضوع متصلة بها. لكن المخرج زياد الدويري كان أقرب أترابه إلى نبرة ساخرة تنتقد الذات والآخر على حد سواء.

أما فيلم مفيدة التلاتلي «صمت القصور» (1994)، فحدد نفسه بالبحث في إطار المرأة، طارحا تاريخا من التناقض بين حاجة المجتمع إليها وحرمانه لها من ضروريات حياتها المستقلة. هذا الفيلم هو الوحيد بين هذه الأفلام الذي خرج من مهرجان «كان» بجائزة، هي جائزة الكاميرا الذهبية لأول فيلم.

هذا ما يدلف بنا إلى فيلم فريد بوغدير الذي أبدى إعجابه بالتجربة المغربية دون ما سواها حين تحدثنا إليه: «في السبعينات، كانت السينما المغربية تنتج كل عام عددا محدودا جدا من الأفلام، من أربعة إلى ستة أفلام. في الأعوام الخمسة الأخيرة مثلا، باتت إنتاجاتها السنوية تتجاوز العشرين. السبب في ذلك هو أن مركز السينما المغربي، وهو مركز حكومي، يقوم على تشجيع العاملين في السينما بصرف النظر عن آرائهم وعن نتاجاتهم».

يلاحظ أن هذا الوجود الحكومي ليس متوافرا في تلك الدول العربية التي جري تأسيس مؤسسات سينمائية فيها: «المؤسسات السورية والعراقية والجزائرية، كلها عانت محاولة فرض نوع من السينما ذلك الذي يخدم الحكومة، وهذا لم يحدث في التجربة المغربية التي أعدها الطريقة الصحيحة الوحيدة لقيام الدولة بمساعدة السينما، وعلى الدولة أن تساعد السينما بكل تأكيد».

* إلغاء الجمهور العريض إذ جمع «مهرجان أبوظبي» هذه الأعمال الآتية من مراحل كانت أثرى ثقافيا، هدف لأن يشجع جيل المخرجين الشباب وهواة السينما الذين يأملون التحول قريبا إلى محترفين، للتعلم من التجارب السابقة. وهذه رغبة مهمـة، خصوصا أن هناك مفهوما خطأ يمارسه الكثير من السينمائيين الجدد، مفاده أن المخرج بمجرد تحقيق فيلمه القصير أو الطويل الأول، امتلك زمام الأمور وبات بمنأى عن الحاجة للتعلم. اجتاز، في هذا العرف، مرحلة البدايات جميعا وربما ولد عبقريا.

الواقع، تبعا لما شاهده المرء من أفلام في هذا المهرجان أو في ما سواه، البون شاسع بين السهولة المتاحة اليوم لتحقيق فيلم باستخدام الديجيتال، والصعوبة التي كان عليها التصوير بفيلم سينمائي. من ناحية، نعم التصوير بالديجيتال سهل ورخيص، لكن هل السهولة والرخص هما المعياران الأولان أو الوحيدان اللذان على جيل السينمائيين المقبل الاعتراف بهما؟ ماذا عن الدراية والعلم والثقافة الشاملة وماذا عن الإخراج كمعرفة شاملة بكل عناصر العمل؟

بالتالي، ما دور المهرجانات في شيوع هذا الاعتقاد وتشجيع السينمائيين على اعتبار أنفسهم وصلوا إلى السدة التي يبغونها؟

يقول المخرج التونسي فريد بوغدير في هذا الصدد: «للمهرجانات ناحية إيجابية وأخرى سلبية. الناحية الإيجابية هي أنها ساعدت المخرجين على الانتشار وعلى التعريف بهم أمام النقاد والجمهور على حد سواء. هذا لم يكن متاحا على هذا النحو من قبل، وهناك مخرجون كثيرون بدأوا السينما وحققوا أفلاما جيـدة ثم تناستهم الأيام سريعا. بعض السبب هنا، هو أن مهرجانات السينما لم تكن قادرة على إنجاز هذا الإشهار الذي نتحدث عنه».

يتوقـف ثم يكمل: «أما الناحية السلبية، ففيها جانبان؛ الأول أن المخرج بات، من خلال تكرار ظهوره في هذه المهرجانات، يوجـه أعماله إلى المخرجين والنقاد، بينما عليه أن يشتغل على الجمهور. هنا يبرز الجانب الثاني وهو أن هذا يؤثر على نوعية الأعمال بحيث يجري إلغاء الجمهور العريض من الحساب».

طبعا، كلام صحيح، لكنه لكي يكتمل فإن المرء عليه أن يدرك أن الجمهور أساسا لا يتوجـه إلى هذه المهرجانات إلا في نطاق الفئة المثقـفة، في حين يمتنع عنها القسم الأكبر من الرواد. وإلى ذلك، يمكن ضم حقيقة أن صالات العرض لا ترحـب بأفلام بديلة أو أفلام غير أميركية أو هندية. حتى الأفلام المصرية، باتت أقل شيوعا مما كانت عليه من قبل.