16 فيلما من التاريخ تبهر مشاهدي اليوم

مهرجان برلين يحتفي بالجماليات الصامتة

من «برلين: سيمفونية مدينة عظيمة»
TT

من بين برامج مهرجان برلين السينمائي الدولي الذي سينطلق في السادس من الشهر المقبل وحتى السادس عشر منه، برنامج بعنوان «علم جماليات الظل». تظاهرة خاصة بفهم الكيفية التي عالج بها عدد من المخرجين الأوائل مسألة التعبير باستخدام الصورة وحدها من منطلق أن هذا الإقدام على ممارسة التعبير بالصورة وحدها، أو على نحو منفصل عن الصوت، هو ما يخلق أهم مزايا الفن السينمائي ومكوّناته اللغوية.

في صميم هذا المفهوم يكمن جدال طويل حول ماهية الفيلم وفلسفته أساسا. فجماليات الفن ودورها ليست حكرا على فن السينما فقط، بل هي مسألة تتعلق بكل أنواع الفنون من دون تمييز، من الموسيقى إلى النحت ومن الرسم إلى المسرح. لكن في السينما تتكثف مفردات هذه الجماليات إلى حد بعيد لكون الفيلم انصهارا لكل الفنون وأدوات التعبير الأخرى مجموعة في نظام الصور الحية والمتحركة والمتتالية.

العبارة بحد ذاتها قد تكون خادعة. كثيرون يعتقدون أن كلمة «جماليات الفيلم» تعني «جماله». بذلك يقع أصحاب الفكرة في خلطة غير حميدة يمكن معها، لو صح هذا الاعتقاد، اعتبار «بدوية في باريس» (إخراج محمد سلمان سنة 1964) فيلم جماليات كونه صوّر بعض أرقى و«أجمل» مشاهد الشانزلزيه ونهر السين. لكن الكلمة تعني ما هو مختلف. إنها في حقيقة أن الإبداع التعبيري هو ما يُسير، أو يجب أن يسير الفيلم ويمنحه قيمته وليس ما يصوّره. كذلك يعني ما يكره عدد كبير من المشتغلين في الثقافة عموما الاعتراف به: جماليات الفيلم أهم من مضمون الفيلم الفكري والآيديولوجي وما انغماس عدد من نقاد السينما العرب في تحليل الموضوع وتصنيفه ثقافيا وأدبيا وآيديولوجيا سوى ابتعاد عما يميز الفن عموما والسينما على نحو خاص، و - في حالات - هروب من العجز عن قراءة الصورة وفهم مفرداتها اللغوية.

* قدرات تعبيرية الأفلام المنتخبة في هذا البرنامج الخاص الذي يقيمه المهرجان لمن يرغب في استراحة من أفلام المسابقة وشتّى الإنتاجات الحديثة أو لمن يريد الاستزادة منها، هي ستة عشر فيلما بينها سبعة أفلام صامتة تم إنتاجها في السنوات ما بين 1914 و1927. وهي السنوات الفعلية للمرحلة الثانية من تاريخ الفن السينمائي، ليس فقط لأن السينما العالمية انتقلت من عصر الفيلم القصير إلى عصر الفيلم الروائي (والتسجيلي) الطويل، فذلك بدأ من عام 1911 عمليا، بل نظرا لأن السنوات الأولى، والتي يمكن تقسيمها، بدورها، إلى حقبتين واحدة من 1888 إلى 1905 والثانية من ذلك التاريخ حتى 1911، شهدت تطوّرات رائعة في قدرة الفيلم على التعبير عن نفسه. من مجرّد عرض لقطة واحدة غير مقدّر للكاميرا فيها أن تتحرّك، في أعمال تسجيلية أو محاكية للتسجيل (لا يمكن اعتبار «خروج العمال من مصنع لوميير» سنة 1895 تسجيليا كون هناك ثماني نسخ تختلف في التفاصيل نظرا لأن المخرج لويس لوميير أعاد تصوير المشهد عدّة مرّات ما يعني أنه حوّل الشخوص إلى ممثلين) إلى حيث أخذت تنتقل من مكان لآخر وتتقدم حثيثا صوب الرغبة في سرد حكاية. هذا التطوّر نشهده مكثفا وبوضوح في الوقت ذاته في أعمال الفرنسي الآخر جورج ميليس. في عام 1900 كان لا يزال يشتغل في فن التحريك والخدع البصرية (التي تبدو ساذجة اليوم) في أفلام مثل «الرجل ذو العجلة في رأسه» و«الطبيب والقرد» و«انتقام الطباخ»، وكلها تقع في مكان حدثي واحد، وبعد سنتين كان يحكي فيلما فيه أربعة مواقع حدث أساسية هو «رحلة إلى القمر» منطلقا من مشهد لمختبر علمي (بدوره منقسم إلى مكانين داخليين) إلى مشهد الوصول إلى القمر حيث يمضي الفيلم بضع دقائق، وبعده مشهد الهروب من القمر إلى الأرض حيث تحط المركبة في أعماق البحر، ومن البحر إلى اليابسة من جديد.

* ألمانيان تعبيريان أحد أهم ما هو معروض على شاشة هذه التظاهرة فيلم ألماني من عام 1927 عنوانه «برلين: سيمفونية مدينة عظيمة». إنه من تلك الحقبة التعبيرية التي سادت السينما الألمانية في العشرينات، لكن في حين أن «كابينة الدكتور كاليغاري» (المعروض أيضا في هذه التظاهرة) و«متروبوليس» و«نوسيفيراتو» أفلام روائية، فإن هذا الفيلم الرائع فيلم تسجيلي. روعته لا تكمن في نوعه أبدا، فهناك عشرات الأفلام التسجيلية الرائعة الأخرى، بل في ناحيتين: إنه الهضم الكامل لماهية الفيلم التسجيلي (أكثر من فيلم روبرت فلاهرتي «نانوك الشمال» الذي شابه الطلب من بعض شخصياته تمثيل أحداث معينة) و، ثانيا، معالجة صورية مبهرة (مزوّدة بالموسيقى) لحياة مدينة منذ لحظة استيقاظها لما بعد ليلها.

الفيلم من إخراج وولتر روتمان الذي كان سبق له وأن أخرج أفلاما طليعية وتجريبية من مطلع العشرينات (والذي بقي يعمل في إطار السينما الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية حتى من بعد هجرة بعض أترابه المبدعين مثل فريتز لانغ ولوتي راينيجر ومات فيها سنة 1941 عن 53 عاما) وهو من تصوير كارل فرويند الذي عمد إلى التصوير بنيغاتيف من نظام جديد خوّله التصوير ليلا وبحساسية وسرعة عاليتين.

قبل هذا الفيلم بسبع سنوات قام المخرج روبرت واين بتحقيق «كابينة دكتور كاليغاري»، فيلم غريب آخر من صنع ذلك الاتجاه التعبيري الفريد. إذا ما كان الفيلم التسجيلي استطاع الاشتغال على الصورة من دون الحاجة إلى حوارات مطبوعة ببطاقات على الشاشة، إلا بقدر محدود جدا، فإن فيلم واين كان روائيا بالكامل، ومع ذلك فإن استخدام بطاقات الشرح والحوار كان أيضا مقتصدا.

«كابينة دكتور كاليغاري» هو فيلم رعب، بمقاييس اليوم، حول طبيب نفسي اسمه سيزار يرتكب جرائم قتل مسلسلة في بلدته الصغيرة ومحاولة البوليس ومواطنين عاديين معرفة هوية القاتل ثم اكتشافه. في النهاية هناك اكتشاف مذهل لهم وللمشاهدين أيضا: سيزار ليس طبيبا بل مجنون نفسي يعيش في مصحة ويتظاهر بأنه طبيب، وحتى إن كان طبيبا بالفعل فهو لا يقل جنونا عن المرضى المرميين في عيادته.

طبعا النماذج المختارة لدراسة جماليات السينما لا تتوقف عند الأفلام الصامتة (يعرض المهرجان أيضا أفلاما للألمانية هلما ساندرز برامز والأميركي هوارد هوكس ومواطنه أورسن وَلز من بين آخرين) لكن الاهتمام بالسينما الصامتة من أكثر تيارات السينما شيوعا هذه الأيام. لا يمر شهر واحد من دون نزول أفلام صامتة على أسطوانات الدجيتال، أو ظهور مقالات عنها في المطبوعات العالمية الكبرى (من «ذا نيويورك تايمز» إلى «الكاييه دو سينما») ولعل تلك الدراسة التي نشرتها مجلة «سايت أند ساوند» في عددها الصادر في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي تحت عنوان «قمة السينما الصامتة» خير تعبير عن التجدد التلقائي بفن سينمائي لا يمكن الإلمام بحاضره من دون الذهاب إلى جذوره الأولى.

* سينما صافية؟

* التعبير الذي استخدم طويلا لوصف السينما الصامتة كان «السينما الصافية» أو Pure Cinema على أساس أنه كان عليها الاعتماد على الصورة وحدها لإيصال الفكرة وراء كل حدث أو موقف وبالتالي وراء الفيلم بأسره. لكن على الرغم من أن هذا الاعتماد كان صحيحا، فإن تحقيق سينما صافية ممكن حتى مع وجود الحوار وأصوات الحياة. للتأكيد يمكن مشاهدة فيلم ترنس مالك «شجرة الحياة» (2012).