فيلم ستانلي كوبريك حول الحرب الباردة وخطر الإبادة الذي لا يغيب

خمسون سنة على أول قنبلة نووية فوق موسكو

ستانلي كوبريك
TT

الظروف التي أدّت إلى إلقاء قنبلة نووية على مدينة موسكو السوفياتية سنة 1964 ما زالت مثيرة للدهشة، خصوصا أن الصاروخ الفاتك خرج من مخزنه في الطائرة التي جرى إرسالها للمهمّة، وقد ركب عليها ملاح الطائرة. كان قد وصل إلى مشارف المدينة، وحاول إطلاق القنبلة، لكن زر الإطلاق لم يعمل. الطريقة الوحيدة التي بقيت أمام الملاح، وهو المايجور كينغ كونغ، كما اسمه، هو أن يخرج من الطائرة إلى حيث الصاروخ، ويطلقه يدويا. وها هو ينطلق فعلا باستثناء أن كينغ كونغ راكب فوقه.

اللحظة مخيفة، لكن كينغ كونغ لا يهاب، وها هو يرفع قبعته التكساسية العريضة ويطلق الصرخة «هييييي هااااا».

لبعض من وُلد بعد 1964، لا بد من الإسراع للقول إن هذه الحادثة وقعت في السينما فقط. في العام الذي سبق، أنجز المخرج الراحل ستانلي كوبريك (1928 - 1999) فيلمه العاشر «دكتور سترانجلوف: أو كيف توقّفت عن القلق وأحببت القنبلة»، الذي شهد عرضه الأول عالميا في الـ29 من شهر يناير (كانون الثاني)، الذي لا يزال يعني الكثير لمن شاهده في أي سنة تلت بعد ذلك، وإلى اليوم. خمسون سنة من عمر فيلم لاهٍ، ساخر، سوريالي المواقف، يحب زكزكة المواقف والوخز في الخواصر، والفيلم لا يزال حاضرا. لماذا يغيب والأوضاع التي استوجبته ما زالت بدورها حاضرة؟

ثم إنه ليس أي فيلم لاهٍ، ساخر، سوريالي المواقف ويحب الزكزكة والوخز، بل هو من إخراج واحد من كبار فناني العصر. قبله كان ستانلي كوبريك أسس نفسه تدريجيا، لكن بأفلام قليلة. حقق فيلمه الأول «الأب الطائر» سنة 1951، وكان تسجيليا قصيرا حول رحلة أب مكسيكي عائد إلى بلدته، وفيلمه الروائي الأول «يوم القتال». بعد عامين عاد بفيلم ركيك الصنعة لكنه يوفّر بعض ما ستقوم عليه سينماه، وهو «خوف ورغبة». مثل غالبية أفلامه اللاحقة، كان عن الفرد والحرب. في عام 1953 أيضا أخرج وصوّر «البحارون»، قبل أن ينتقل سنة 1955 إلى «قبلة القاتل» عن سيناريو كتبه. فيلمه الأهم في تلك الحقبة خرج سنة 1956، وتبلور بوصفه أحد أفضل أفلام العقد البوليسية بأسره، وهو «القتل» مع سترلينغ هايدن وزمرته من اللصوص الذين يحاولون درء الفقر والجريمة معا، عبر عملية سرقة غلّة سباق جياد. الكيفية التي اشتغل فيها المخرج على تقديم الأحداث من أكثر من وجهة نظر من دون أن نرى الحدث ذاته مكررا فعل فني سبقه إليه أكيرا كوروساوا في «راشومون» سنة 1950. على ذلك، هناك فرسخ بعيد بين الفيلمين. عودة إلى الحرب وموقف متشدد منها في «ممرات المجد» (1957)، ثم حرب في فترة مختلفة في غضون «سبارتاكوس» (1960)، وبعد «لوليتا» (1962) الهادر إثارة، أنجز «دكتور سترانجلوف». أفلامه الأخرى التي تعاملت والحرب على نحو أو آخر «باري ليندون» (1975) و«سترة معدنية واقية» (1987)، طبعا إلا إذا عددنا أن باقي أعماله («2001: أوديسا الفضاء» و«كلوكوورك أورانج» و«اللمعان»، ثم فيلمه الأخير «عينان مغمضتان باتساع»، هي أفلام حروب على مستوى شخصياتها الفردية على الأقل).

* احذر الماء

* ما جعل «دكتور سترانجلوف» مختلفا (ولا يزال) هو أنه لم يشبه فيلما آخر ولا يزال فريدا من نوعه إلى اليوم. هذا الفيلم الأبيض والأسود الخارج من ثنايا الحرب الباردة التي نعاود حضورها هذه الأيام، يدور حول جنرال جاك ريبر (سترلينغ هايدن) الذي أمر بإرسال طائرة B - 52، وكان لها «طنة ورنّة» بين أسلحة الطائرات المختلفة، لكي تدك الاتحاد السوفياتي بقنبلة نووية. المشكلة هي أن مثل هذا الأمر لا يمكن رده. تحت أي ظرف لا يمكن لكينغ كونغ أن يتخلى عن مهمته حتى ولو كان ذلك بناء على طلب من رئيس الجمهورية بنفسه.

الخاطر مخيف، لكن القصة، كما كتبها بيتر جورج تحت عنوان «إنذار أحمر»، واقتبسها كوبريك وتيري ساذرن إلى سيناريو، تقوم على هذا الاحتمال وتداعياته. ها هي الطائرة ماضية في مهمتها لتقطع المسافة بين أميركا وروسيا في الحين الذي جمع رئيس الجمهورية (كما قام به بيتر سلرز) بمجلسه العسكري داعيا إليه الجنرال بك تورغدسون (جورج س. سكوت) والسفير الروسي أليكسي دي سادسكي (بيتر بول) ودكتور سترانجلوف (بيتر سلرز أيضا)، الاستراتيجي المقعد الذي بات أقرب إلى الروبوت نظرا لتعدد إصاباته التي سببت له أشكال شلل مختلفة.

في الوقت ذاته، هناك الكابتن ليونيل (بيتر سلرز أيضا وأيضا) الذي يطرق مكتب الجنرال ريبر ليتباحث وإياه عما قام به من فعلة. ريبر (يبيّن الفيلم) عسكري مهووس بالمؤامرة الشيوعية التي يراها استولت على القرار الإداري في البيت الأبيض (هناك من يتهم باراك أوباما بذلك اليوم). بل هو يؤمن بأن ماء الشرب مسممة بعنصر كيماوي من شأنه تحويل الشارب عن مبادئه الأميركية. حين يشن الجيش هجوما على مقر قيادة الجنرال للقبض عليه، يتأكد له أن نظرية المؤامرة التي يؤمن بها صحيحة.

الرئيس مافلي يتصل بالرئيس الروسي (نسمعه صوتا فقط) ويناديه بالصديق، ويبدأ قوله له بأن هناك خبرا غير سار عليه أن يطلعه عليه، ثم يختار العبارات الموجزة والدالة معا مبلغا إياه أن أحد قياداته العسكرية أعطى أمرا لطائرة محمّلة بالقنبلة بالتوجه إلى الأراضي الروسية وإلقائها. خلال ثورة الرئيس الروسي يؤكد الرئيس الأميركي له أنه لا يستطيع فعل أي شيء، لكنه يرجو منه أن يسقط الطائرة إذا ما استطاع.

كل هذا والمايجور كينغ كونغ (دور رائع لممثل أفلام الوسترن المساند سليم بيكنز) عازم على إنجاز المهمّة، غير آبه عندما يركب القنبلة، كما لو كان حصانا رابطا مصيره بمصيرها.

* مفاتيح

* إذ خرج الفيلم في أوج الأزمات الأميركية - السوفياتية حمل تحذيرا مخيفا في طيّات كوميديته؛ لو قامت الحرب (وكانت أصابع كل طرف مستعدة لكبس الزر أكثر من مرة) لانتهت الحياة، لا في أميركا وروسيا فقط، بل في الدول والمناخات المجاورة. براعة كوبريك أنه لم ينجز هذا التحذير خطابيا، بل صوّره كما لو كان مجموعة من رسومات الكرتون المسلسلة. ليس هناك من موقف اعتراف، ولا من موقف شعور بذنب (باستثناء قرار الجنرال ريبر الانتحار، وقد لا يرجع الأمر إلى هذا الشعور أساسا)، ولا حوار بين أي عدد من الأشخاص يتبادلون فيه الرأي. ما هو هناك حكاية تُتلى لتصوير خطر عاش الجميع مخاوفه وخاض التفكير في عواقبه.

يفتح الفيلم جبهة الحديث عن مبادئ السياسة القائمة على مفاهيم هي بمثابة مفاتيح يستخدمها المتطرّفون. هذه المفاتيح يمكن جمعها تحت مظلة «عمليات نشر الذعر الممنهج» و«سياسة الردع» و«الضربة الوقائية الضرورية». كون الفيلم أميركيا (كما مخرجه) جعله يتحدّث عن جانبه هو، لكنه لم يغفل (في الحوار) الجانب الآخر.

هناك حوار يقوم به السفير الروسي مبيّنا كيف أن سباق التسلح هو الذي أوصل القيادة إلى قرار سمّوه «برنامج يوم القيامة». ما يحدث أمامنا في الحظيرة السياسية الأميركية يحدث مقابله في تلك الروسية.

الجنرال ريبر (هايدن) ليس وحده في موقفه المعادي، بل يؤيده في ذلك (من دون مشهد يجمعهما) الجنرال بك (سكوت)، الذي يحاول دفع الرئيس إلى تبني الهجوم المسبق وإطلاق قنابل أخرى بقوله: «علينا على نحو متصاعد الحذر منهم. علينا، مستر برزيدانت، أن لا نسمح بثغرة متفجرة».

لحين قريب، كان يمكن القول إن الحرب الباردة انتهت، لكن حتى لو انتهت فإن خطر اشتعال الجبهة النووية ما زال في الخلفية. مع وجود أكثر من عشرين مليون قذيفة نووية لأرض يكفيها عشر لمحوها.. ما زلنا نعيش فيلم «دكتور سترانجلوف» لحظة بلحظة.