المشهد

ابتسم.. أنت في «كان»

TT

كيف يشعر المخرج عندما يدخل مسابقة أكبر مهرجان دولي في العالم؟.. كيف يستقبِل هذا التطوّر الكبير في حياته المهنية؟ كيف ينظر إلى نفسه وإلى العالم؟ هل يسيطر على مشاعره الداخلية أم يفقد السيطرة؟ يتأقلم أم يتمسّك بنظرياته حول نفسه وفنّه؟ ثم كيف يتقبّل النتيجة إذا ما فشل في الاستحواذ على الجائزة؟

ذات مرة سمعت المخرج الأميركي المعتزل من دون خاطر بوب رافلسن يقول للممثلة جيسيكا لانغ بعد عرض فيلمهما «ساعي البريد يدق الجرس مرتين» (1981): «ابتسمي.. أنت في (كان)». على الفور ابتسمت الممثلة، التي لم يسبق لها الحضور من قبل والتي لعبت في فيلمه دور الزوجة التي تجد في وصول جاك نيكولسون للعيش والعمل في الجوار مَنفذا لبث بعض ما تعانيه من لوعة وشوق ولتشارك، بنقلة درامية ممتازة من الروائي جيمس م. كاين والسيناريست ديفيد ماميت، في قتل زوجها (جون كوليكوس).

ابتسمت جيسيكا وكسبت على الفور نسبة إعجاب وود مضاعفة عما كان الحال عليه لو أنها عبست أو تبرّمت أو أظهرت ضجرا. كانت بسيطة ولم تمثّل أنها مهمّة أو أنها تعيش فوق السحاب رغم أنها كانت قد أصبحت نجمة قبل وصولها إلى «كان» ببضع سنوات.

لكن المخرج هو كيان آخر من الصعب إرضاؤه. هو شخصية عريضة الشأن، وهناك نماذج عديدة منه: قد يكون محدود التفكير، متكبّرا، مليئا بالمفاهيم التي لا يريد أن يغيّرها، أو ربما كان سهل الوصول، متواضع الشأن، ويفهم لا في ما أخرجه فقط بل في أفلام الآخرين. لذلك بعض المخرجين يحققون أفلاما والبعض الآخر (والأفضل) يحققون سينما.

ذات مرة استمعت إلى مخرج من بلاد العرب يواجه الجمهور الإسباني الذي كان قد حضر المؤتمر الصحافي لغاية واحدة: محاولته للتواصل معه لكي يفهم من فيلمه المعقد ما يمكن أن يجد فيه منفذا للإعجاب. لا بد أن ترفع القبعة لهذا الجمهور الذي يريد أن يُعجب، لكن عليه قبل ذلك أن يفهم ما رآه من مشاهد هي بلا ريب تدخل في الوجدانيات الشخصية لذلك السينمائي. هل تعرفون ما قاله لهم: «فهم الفيلم أمر متروك لكم. لقد صنعته بالمستوى الذي رأيته مناسبا، وعليكم أنتم الصعود إلى حيث الفيلم لتفهموه».. قالها بالعربية (لذلك فهمت فأنا لا أعرف الإسبانية ولا هو طبعا) مما تسبب في حرج المترجم (وهو سوري يعيش في إسبانيا) فاستبدل، كما قال لي لاحقا، بعض الكلمات حتى لا يُثير غضب الحضور. ذلك المخرج لم يصنع فيلما آخر لعشر سنوات ثم حقق فيلما لاحقا.. هذا الفيلم اللاحق لم يدخل أي مهرجان غربي. لعله من فرط شموخه صعد مباشرة إلى السماء التالية! بالعودة إلى بداية هذا الموضوع، لا بد أنه أمر جلل أن يدخل المخرج (من أي بلد) مثل هذا الصرح وفي الدور الأعلى منه: المسابقة. سيجد نفسه في صحبة محظوظين آخرين كما فعل الفلسطيني إيليا سليمان والمصري يسري نصر الله وقبلهما (عدة مرات) يوسف شاهين، وقبل هؤلاء كمال الشيخ ومارون بغدادي (مرّة واحدة لكل منهما) وجورج نصر وصلاح أبو سيف ومحمد لخضر حامينا (مرتين لكل منهم). وكما فعل المئات ممن اشتركوا في المسابقة منذ 67 سنة.

بما أن عالمنا العربي يأتي في نهايات كل السباقات (رياضية على اختلافها أو فنية أو أدبية وسواها)، فإن بعض أفضل مخرجينا يمثلون وضع سينما تركض وتركض ولا تصل. حين تسأل يقولون إن نجاحهم في بلدانهم وبين جمهورهم هو ما يتوخونه. صحيح؟