في «المهاجرة»: أميركا.. الحلم المولود.. الحلم المفقود

فيلم يفتح بوابة الهجرة من جديد

روبرت دينيرو في «العرّاب 2»: الهجرة إلى المافيا
TT

ينقل المخرج جيمس غراي قطعة زمنية مهمّة حين يسرد علينا أحداث فيلمه الجديد «المهاجرة». ليس الفيلم جديدا تماما كونه عُرض في دورة العام الماضي من مهرجان «كان»، لكنه لم يشهد توزيعا أميركيا حتى هذا الشهر، أي بعد سنة كاملة على إطلاقه. لم يفتقده أحد بالتالي. أفلام المخرج جيمس غراي (منها «أوديسا الصغيرة» و«ذا ياردز») لا تنشد الجمهور الكبير، وبالتالي فإن هذا الجمهور لا ينتظرها.

على هذا، فإن «المهاجرة»، وباقي أفلام غراي، لديه ما يقوله. الفترة الزمنية التي ينقلها المخرج هي مطلع العشرينات: أوروبا الخارجة من الحرب العالمية الأولى لاهثة وراء بداية جديدة. أميركا التي لمع صيتها في تلك الأنحاء كبلد يمكن اللجوء إليه لكل من يطمح بالحرية والاستقرار والابتعاد عن مفاهيم اجتماعية مقيّدة للطموح. البعض لجأ إليها بحثا عن الذهب. البعض بحثا عن الأرض. البعض الثالث هربا من الضرائب، وهناك من راودته أميركا في أحلام يقظته ومن دون أن يعرف السبب فشد الرحال إليها على أي حال.

أحداث الفيلم تبدأ خريف سنة 1921، أي بعد عام على وثيقة «سيفري» التي فككت أواصر الإمبراطورية العثمانية وبعد عام أيضا على تأسيس «حزب العمال الألماني الوطني الاشتراكي» الذي عرف باسم الحزب النازي حول العالم. في عام 1920 أيضا استيقظت أميركا لأول مرة على ما عرف بـ«الخطر الأحمر» ما نتج عنه تجميع وترحيل مئات (إن لم يكن ألوف) الوافدين الأوروبيين ذوي الميول اليسارية. لكن في عام 1922 وقع أول إضراب طويل المدى لعمّال المناجم الأميركيين (استمر لستة أشهر) الذي عاد وتكرر بعد ذلك في الثلاثينات وما بعد.

* حب مزدوج هذه هي بعض ملامح الفترة التي اختارها المخرج جيمس غراي لأحداث فيلمه «المهاجرة». بطلة الفيلم، إيفا (الفرنسية ماريون كوتيار) وصلت وأختها (أنجليا سارافيان) من بلدة تقع على الحدود البولندية الألمانية، بلا ثروة وبلا تجربة وبكثير من الأمل في بناء حياة جديدة. إنه الحلم الأميركي المشاع الذي دفع بألوف المهاجرين طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر لترك بلادهم والقارة «القديمة» كلها والتوجه إلى المرافئ الأميركية. لا ندري، تفصيلا، كيف تكوّن الحلم الأميركي في البال أو ترعرع في وجدانيات الشعوب حول العالم وإلى اليوم. لكن ها هي إيفا تصل وفي بالها اللجوء، مع شقيقتها، إلى بلد أفضل من ذلك الذي ودّعته وليس في بالها أي شاغل آخر.

ما تصطدم به هو عكس المتوقع تماما. يوهمها رجل اسمه برونو وايز (واكين فينكس) باهتمامه ورعايته وأنه سيجمعها بشقيقتها التي قام أمن مرفأ نيويورك بفصلها عنها بعدما ارتابوا في أنها مريضة بالسل. لكن برونو مخادع ومنحط يأخذ بيد إيفا الساذجة ليطلب منها الانضمام إلى شلته من بنات الهوى. هكذا قضى المخرج غراي على الحلم الأميركي خلال فترة أحداث لا تتعدّى بضعة أشهر من حياة إيفا وشقيقتها على الأرض الأميركية.

لكن الحقيقة أن هناك حلمين مختلفين. برونو وايز، أو ايز أوروبيا (والاسم الثاني يشي بأصول يهودية من وسط أوروبا) الذي سبقها إلى هذه الأرض حقق حلمه ملتويا. ربما، والفيلم لا يقول، كان صعبا عليه شق طريق مستقيم والإثراء منه. فانحرف إلى المهنة التي يعرف أنها تؤمّن له هذا الجانب. تطلعات إيا تختلف تماما. هي آتية لأجل ذلك الطريق المستقيم. ترنو إلى العيش في مجتمع آمن. الذئب بالمرصاد. يستولي عليها ويقوّض أحلامها الوردية ويجبرها على الحياة التي اختارها لها ولسواها من قبل.

ايز على ذلك، شخصية متشابكة. يحبّ إيا على نحوين: الأول على نحو من يمتلك قطعة أثرية يريد الحفاظ عليها، والثاني على نحو من يحب فعلا. لكنه لم يترك أي سبيل لكي تبادله إيا الحب. الصراع الخفي المتبدّي هو صراع حول ذلك الحلم الأميركي مع قيام المخرج بتغليب الصدمة على الأمل. الذئب على الحمل.

* وجوه متعددة الموضوع ليس جديدا ككل. السينما الأميركية تعاطت مع الهجرة والمهاجرين كثيرا. على الأقل منذ أن حقق المخرج والممثل تشارلز تشابلن فيلمه القصير «المهاجر» واصفا فيه حال الأوروبيين المقبلين فوق المراكب الكبيرة وكيف يجري حجزهم واستقبالهم ودفاع بطله (الذي سيعرف لاحقا كصعلوك) عن الفقير واليتيم والفتاة المسكينة إدنا (إدنا بوريفانس). ذلك الفيلم، بالمناسبة، يشبه «المهاجرة» في أنه يتحدّث عما ينتظر فتاة (وأمّها هذه المرّة) من شظف عيش في أميركا. لكنه عن المهاجر الرجل أساسا. أول ما يحط تشابلن على الأرض الأميركية يجد نفسه طريد النظام متهما بالسرقة. تشابلن كان قصير القامة، رقيق العود، نحيف القوام وكل ذلك جعله بمثابة الضحية المثلى لرجل البوليس (عادة كبير الحجم ويحمل عصا) أو لأي ممن سيؤدون دور العدو اللدود من المواطنين. لكن الرسالة النافذة هناك هي أن الحياة مدقعة لهؤلاء الناس في أميركا كما في البلاد التي وردوا منها. في السنة التي يختارها المخرج غراي زمنا لفيلمه (1921) عاد تشابلن وأكد ما سبق في فيلمه «الفتى»، كما قام المخرج ديفيد وورك غريفيث بتصوير حال شقيقتين (ليليان غيش وأختها الفعلية دوروثي غيش) في أوروبا عام 1917، أي خلال الحرب العالمية الأولى. يمكن اعتبار ذلك الفيلم كما لو كانت أحداثه تمهيدا لما يرد في «المهاجرة» مع ملاحظة أن المخرج الأميركي فرانك بورزاج (ذاك الذي لاحقا ما لمع كأحد فناني السينما الأميركية المبكرة) حقق سنة 1920 فيلما تبدو حكايته متواصلة اليوم مع الفيلم الجديد من حيث إنه هو أيضا دار في رحى نيويورك القديمة (كانت أقل قدما آنذاك) والعيش الصعب في أرجائها.

ولا حد للأفلام التي تعاطت مع المهاجرين: مايكل شيمينو صوّرهم ضحايا استبداد الجاليات الأسبق في الغرب الأميركي عبر فيلمه الرائع «بوابة الجنة» (1980)، برايان دي بالما تحدّث عن الكوبي اللاجئ إلى أميركا لينهب منها ثروة عن طريق الاتجار بالمخدّرات في «الوجه المشوّه» (1983) المأخوذ عن فيلم حققه هوارد هوكس سنة 1932. وماذا عن حكاية «العراب 2» (1974) وكيف لجأ دون كارليوني (روبرت دينيرو لعب الدور الذي أدّاه مارلون براندو شابّا) إلى الولايات المتحدة وحط كما سواه في القطاع الإيطالي من نيويورك أو فيلم مارتن سكورسيزي «عصابات نيويورك» (2002) و«بابل» لأليخاندرو غونزاليز إيناريتو (2006) أو «أميركا، أميركا» لإيليا كازان (1963)؟هذا الأخير هو الوحيد بين تلك المذكورة (وهي أمثلة قليلة من عشرات إن لم يكن مئات الأفلام التي تناولت الهجرة إلى أميركا) الذي حمل أملا. ومع أنه حقق نجاحا مزدوجا بين النقاد وجمهور ذلك الحين، إلا أن الأفلام التي تسرد المعاناة عوض سهولة النجاح التي تحقق في المفادات الجاهزة عوض أن تسلم بها، هي التي تشد الجمهور الأكبر. من ناحية لأن المعاناة تصنع أفلاما أكثر جذبا للجمهور العريض، ومن ناحية أخرى خوفا من أن يأتي الفيلم لامعا يصوّر كل شيء بنفس دعائي. الناحية الثالثة هي أن قليلين يريدون مشاهدة فيلم عن حلم تحقق بلا متاعب.

* مهاجرون خطرون

* خلال الحرب العالمية الثانية، ثم في أعقابها مباشرة، أنتجت هوليوود عددا من الأفلام التي دارت حول مهاجرين شكّلوا خطرا على الأمن القومي للولايات المتحدة، مثل «محطم الجاسوسية» و«كابتن مدنايت» و«القناع الأرجواني». أشرار تلك الأفلام كانوا من النازيين واليابانيين الذين شكّلوا، حسب هذه الأعمال، طابورا خامسا للتخريب وإلحاق الضرر بالمؤسسات الاقتصادية الأميركية.