د. معجب الزهراني: خزائن مكتباتنا مليئة بالكتب التي تعود الذهن على الفوضى واللسان على الثرثرة

TT

يبدو لي ان المنطق الوحيد الذي يليق بالمثقف العربي اليوم وغداً هو منطق العقل النقدي الذي يساعد على كشف علل الثقافات السائدة في مجتمعاتنا. فحينما لا تساعد الثقافة البشر على البحث عن المزيد من المعرفة والمزيد من الذوق الجماعي والمزيد من الصدق مع الذات والمزيد من حسن التعامل مع الآخر والعلم والمزيد من العمل الجدي الخلاق.. تصبح الثقافة ضد الانسان. اعني بالانسان معنا «الفرد» الذي اما ان يتمتع بحقوقه وحرياته الاساسية خلال طفولته وشبابه ونضجه وشيخوخته واما ان يفقد كل المعاني الاساسية لانسانيته وحياته. ابدأ هكذا لأن خزائن مكتباتنا مليئة بالكتب التي تعود الذهن على الفوضى واللسان على الثرثرة، ومع ذلك تحتفي بها المؤسسات الثقافية الرسمية كل الاحتفاء. هكذا يكثر بيننا من يتوهم ويصدق انه يعرف كل الحقائق الجوهرية المطلقة عن الانسان والزمن والطبيعة ومصائر الكون والكائنات منذ الازل والى الابد، وهكذا تتزايد من حولنا اعداد العلماء الذين يوصفون بكل نعوت التبجيل فيما هم يسبحون ليل نهار في مياه المعارف الراكدة بعد ان توهموا وصدقوا ان «الزمن الاول» هو النبع الصافي لكل معرفة ولكل حقيقة ولكل فضيلة ولكل بطولة. وهكذا تزدهر فينا ومن حولنا حكايات عجيبة غريبة ما ان نحفظها حتى نتوهـم ونصدق ان «العلم الحق» على اطراف السنتنـا واطراف اقلامنـا. وحينما نمعن في مديح الذات وهجاء الآخر والعلم لا يعود لافكار الاخرين وعلومهم وقيمهم من معنى او قيمة الا حينما نحولها الى «شواهد» دالة على عظمتنا وفضلنا وصلاحنا، وتبلغ المفارقة المأساوية ذروتها حينما نعاني صباح مسـاء من وطأة الجهـل والفقر والمرض والقمع وشح الـماء والغـذاء والدواء وندعي المسؤولية عن انقاذ العلم من ضلاله وانحلاله.. ويا للعجب.

في عبارة خاطفة اشار ابن رشد الحفيد قبل ثمانية قرون الى ان المرأة في مجتمعاتنا هبطت الى مستوى الكائن الفطري الذي يمارس حياته في ادنى مراتب الحياة، وازعم ان الأغلبية العظمى من الرجال والنساء في هذه المجتمعات لا يزالون في هذه المنزلة، ففي مرحلة شقية من تاريخنا توجهت الثقافات المهيمنة الى مجافاة منطق العقل ومنطق الطبيعة ومنطق الحس السليم، وها نحن ندفع جيلاً بعد جيل ثمن هذا الخلل مرة من أرواحنا ومرة من دماء أجسادنا ومرة من أرضنا. نعبث في مقدرتنا وعلاقاتنا ثم يأتي خصومنا واعداؤنا والطامعون فينا فيكملون المهمة التي بدأناها بأنفسنا على خير ما يرام. كأن المتنبي صانع كذبة جميلة حينما قال: «اعز مكان في الدُّنى سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب». وكأن الآيات التي تأمر بالتعقل والتدبر والتفكر والتبصر والنظر والاعتبار والأحاديث التي تطلب منا طلب العلم ولو في الصين لأن طلب العلم فريضة، كأن هذا كله زلات قلم او فلتات لسان بعد ان اختزل العلم كله في «المعلوم سلفاً». اظنني بعد هذا في حل من الحديث عن اهم كتاب واهم مكتبة لأن الكتاب الأهم هو بالتأكيد ما لم أقرأه بعد وما يجب عليّ ان ابحث عنه باستمرار لأقرأه وانتقل الى ما هو اهم منه. أدين كثيراً لكتب الجغرافيا التي غيّرت «صورة العالم» في ذهني طفلاً وأدين أكثر وأكثر لكتب علوم الانسان الحديثة.

اما الآن فانا اعمل على «الخطاب الحواري في بعض كتب ابن رشد» وكم أتألم اذ ألاحظ ان مشروع هذا الفقيه ـ المفكر بعقلنة ثقافة كاملة لا يزال تحدياً وهدفاً يشبه الحلم الجميل الذي يزداد جمالاً كلما لاح في الافق البعيد. بالأمس تزامن قمع ابن رشد وكتب الحكمة مع ضياع فردوس الاندلس، وها نحن اليوم امام خطر ضياع فردوس فلسطين وفراديس اخرى لأن في كل منا عقل معطل وجسد محاصر. نعم ينبغي ان نتشبث بما تبقى لنا من طاقاتنا عسى ان ندرك ان خصوم الامس واليوم ليسوا أكثر منا ذكاءً أو صلاحاً او نزاهةً لكنهم يستعملون عقولهم وطاقات اجسادهم بطريقة أفضل منا.

قال احد الباحثين ان عظمة ديكارت تكمن في أنه كان يقرأ قليلاً ويفكر كثيراً. واقول جربوا اهمال الكتب التي تحترم منطق العقل ومنطق الطبيعة ومنطق الحس السليم ولربما ادركتم مظاهر الخلل في ثقافة تشتغل معظم كتبها في غير مصلحة الانسان والله المستعان.

* ناقد واكاديمي سعودي