لماذا تفيض القنوات التلفزية وصفحات المجلات الإخبارية بصور الضحايا؟

تحكم أهل السياسة بجهاز التلفزيون حتى الآن جعل صورة الضحية تتلون بألوان آيديولوجية مختلفة

TT

* يبين الكاتب بأن تشخيص الضحايا قد استفاد كثيرا من ظهور الفن الفوتوغرافي ومن بداية استغلاله كوسيلة لعرض وشرح الأحداث عبر الصحف. وهو يضرب هنا مثالا على ظهور أول صور لجثث المقاتلين أثناء حرب الانفصال بالولايات المتحدة الأميركية سنة .1895 كما يشير الى أن اول فيلم عن الضحايا كان ذلك الذي أنجزته المؤسسة البريطانية لانقاذ الأطفال سنة 1922

* يفتح فيليب مسنار في كتابه الموسوم بـ«الشاشة الضحية» والصادر حديثا بالفرنسية عن منشورات «تاكستيال» بباريس، سيلاً من الأسئلة في مقدمة الكتاب فتحول ما تلاها من فصوله إلى ما يشبه الجلسات المتتالية لمحاكمة طويلة يكون المتهم فيها وصاحب الدعوى هو الضمير الإنساني نفسه أو بالأحرى الإنسانية في جوهرها كصفة وكميزة يختص بها بنو البشر. فأسئلة مسنار تتركز أساسا حول كل أصناف الضحايا من جياع ومشردين ومنكوبي حروب وكل أولئك الذين تعج بصورهم صباح مساء نشرات الأخبار وصفحات الجرائد والمجلات، فهل أن شعورنا ـ يسأل الكاتب ـ ازاء هذه الضحايا وهو يتراوح بين الشفقة والرحمة وبين التجاهل واللامبالاة، مرده خشيتنا على أنفسنا من أن نكون عرضة في يوم ما إلى نفس المصير، أم أن هذا الشعور متأت من احساسنا بأننا الاقوى، وبالتالي فانه علينا أن نعطف على من هم دوننا وأضعف منا؟ ثم، يضيف الكاتب، ألا يجدر بنا عندما نشاهد ضحية ما أن نتساءل أولا عما نراه فيها وهل أن نظرتنا لما نراه تتغير من زمن الى آخر ومن حالة الى أخرى أم انها موثوقة الى نقطة ثابتة والى موقف لا يتبدل؟ لا يجد الكاتب للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، أفضل من دراسة الحضور المتزايد على الساحة الدولية لأنشطة ما يسمى بالمنظمات غير الحكومية ولكيفية تنظيم برامجها المتنوعة والمتراوحة بين توفير الطعام للمساكين وبين التدخل لرفع الظلم عن المضطهدين ضمن ما يعرف بالدفاع عن حقوق الإنسان. غير أن الكاتب ينبه الى أن هذه الأنشطة والبرامج لا توجد ولا يمكن لها أن توجد خارج ما يمكن تسميته التفريج الذي تعتمده تلك المنظمات والذي يقوم على تقديم الضحية وعرض صورها ضمن سياق المعاناة التي تحف بها من ناحية ثم تقديم نشاط المنظمة وتشخيصه أيضا كضرورة للحد من تلك المعاناة وكاستجابة أخلاقية يجدر بالآخرين مساندتها من ناحية أخرى.. وهذا ما يفسر حسب رأي المؤلف فيضان القنوات التلفزية وصفحات المجلات الاخبارية بصور الضحايا ضمن سياقات.

هنا تبدأ مستويات مختلفة من تسليط الضوء على الأسباب التي أدت الى وضعهم على قائمة الضحايا وتنتهي عند عرضهم كأمثلة على أهمية الدور الموكول الى المنظمة المعنية بأمرهم. ومن الناحية التاريخية يبين الكاتب بأن تشخيص الضحايا قد استفاد كثيرا من ظهور الفن الفوتوغرافي ومن بداية استغلاله كوسيلة لعرض وشرح الأحداث عبر الصحف. وهو يضرب هنا مثالا على ظهور أول صور لجثث المقاتلين أثناء حرب الانفصال بالولايات المتحدة الأميركية سنة .1895 كما يشير الى أن اول فيلم عن الضحايا كان ذلك الذي أنجزته المؤسسة البريطانية لانقاذ الأطفال سنة .1922 وشهدت الحربان العالميتان الاولى والثانية تزايدا في توظيف الصور الفوتوغرافية والسينمائية لاظهار تكاثر الضحايا على كل الجبهات. وعرف العالم خلال فترة الحرب الباردة تحولا نوعيا ضمن هذا السياق، اذ أن الفرجة هنا أضحت تتم على شاشتين متقابلتين وأمام جمهورين متنازعين. فضلا عن ذلك فان انتشار التلفزة كجهاز ظل وما زال يتحكم فيه أهل السياسة قد جعل صورة الضحية تتلون بألوان آيديولوجية مختلفة وذلك على الرغم من أن ذلك الجهاز في حد ذاته كان لم يتجاوز عندها آيديولوجيا الأبيض والأسود. والمقصود هنا هو أن كلا من الكتلتين الشرقية والغربية كانت تقدم الأخرى عبر تلفزاتها على أساس أنها الشر الذي يتسبب في وجود ضحايا هنا وهناك في العالم. وبالتالي فان مفهوم الضحايا وطريقة تصويرهم وتشخيصهم كانت تختلف من كتلة الى أخرى. فضحايا الحرب الفيتنامية مثلا هم ليسوا كذلك الا في نظر السوفيات والمتعاطفين معهم تقريبا بينما هم في نظر الأميركيين مجرمون ومخربون أو ما شابه ذلك. وكذا الشأن بالنسبة للذين سقطوا في المواجهات ضد بعض الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية وغيرها، فهم أبطال في نظر الغرب ولكنهم عملاء وخونة في رأي المتمسكين بالشيوعية.

وعلى الرغم من سقوط جدار برلين سنة 1989 فان الرحمة لم تسقط من القلوب في هذا الجانب أو ذاك. بل على العكس من ذلك، يؤكد مسنار، فان العمل الانساني قد عرف دفعا كبيرا جعل رواده ومريديه يعتقدون لبعض الوقت بأن «نهاية التاريخ» كما جاءت في نظرية فوكوياما ستمثل نهاية لكل المآسي الانسانية. وبالتالي فانه لن يعود هناك ضحايا في أي مكان من العالم باعتبار أن هذا الأخير سوف تحكمه «دولة الشعوب» التي ستحقق «السلام الشامل والدائم» لكل الناس تبعا لما جاء في نظرية كانط. لكن وكما نعلم جميعا فان عدد الحروب والنزاعات قد تزايد طيلة عشرية التسعينات ومع مطلع الألفية الجديدة، ولئن خيب هذا الوضع آمال الانسانيين بتأسيس الدولة المشار اليها، فانه قد فتح لهم مجالا أوسع لعرض أنشطتهم ونشرها في شتى أنحاء العالم. غير أن اللافت هنا هو أن هذه الانشطة قد ازدادت تداخلا مع الانشطة السياسية والدبلوماسية التي أصبحت ترفع هي بدورها شعار الخدمة الانسانية والتدخل باسم انقاذ الضحايا حسب ما تراهم وحسب ما تعمل، عبر وسائلها الاعلامية والدعائية، على ترسيخ صورهم كضحايا وكمنكوبين في الخيال الانساني.

ان هذا التداخل بين السياسي والانساني، حسب الكاتب، هو الذي جعل الغرب وهو يرفع راية نجدة الضعفاء والمنكوبين، يتدخل باسم الأمم المتحدة أو الناتو في كردستان العراق وفي يوغوسولافيا السابقة وفي الصومال مثلا ولا يتدخل في أمكنة أخرى في العالم يوجد بها ضحايا ومنكوبون. فالنظام العالمي الجديد، كما يضيف، اسفر عن ظهور «نظام انساني جديد» يقوم على مقولة «التفوق الأخلاقي» التي تشرع، في نظر هذا النظام، خوض بعض الحروب التي تعتبر هي بدورها أخلاقية نظيفة.

* الشاشة الضحية

* الكاتب: فيليب مسنار

* الناشر: «تاكستيال»