عقلية التخندق

فاضل السلطاني

TT

الإجراء الذي اتخذته وزارة الثقافة المصرية، عبر إدارة بينالي القاهرة، باستبعاد نقاد أميركيين من لجنة البينالي، ربما يكون مثالاً صارخاً على الذهنية التي ما زلنا نتعامل بها مع الآخر. فقد أرادت الوزارة أن تبلغ الأميركيين من خلال هؤلاء النقاد، ان وجودهم لم يعد مرغوباً به في مصر احتجاجاً على المساندة الأميركية لإسرائيل.

لكنها رسالة خاطئة بكل المقاييس ودليل على أننا لم نتعلم شيئاً بعد، اذ أن شكوانا الدائمة هي أن الآخر لا يعرف شيئاً عنا، لكن كل ما نجيده هو أسهل الحلول في مثل هذه الحالات: المقاطعة.

وننسى أن القنوات الثقافية ليست أنابيب نفط نغلقها متى نشاء ونفتحها متى نشاء، وننسى أيضاً أن المثقف الغربي ليس ممثلاً لحكومته، كما هو حاصل عندنا إلى حد كبير، ولا يمكن أن نماهي بين موقفه وموقف هذه الحكومة من أصغر قضية إلى أكبرها، والدليل الأقرب أيضا، هو مواقف كثير من المثقفين الغربيين إزاء ما يجري الآن في فلسطين، وهي مواقف افترقت للمرة الأولى عن مواقعها السابقة، وبدأت تدرك حقيقة ما يجري. ولم يقتصر الأمر على الكتابة في الصحف الأوروبية والأميركية، بل تعدى ذلك إلى المشاركة في المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات اليومية. وإذا كان قسم من هؤلاء مدفوعين بحكم قيمهم الخاصة أو تعاطفهم العام مع القضايا الإنسانية، فهي فرصة ذهبية لاستغلال ذلك، وفتح حوارات موسعة معهم، والسعي للوصول إلى أولئك الناس الفاعلين الذين لم يحسموا أمورهم بعد لهذا السبب أو ذاك. ولا شك ان من هذه الأسباب، مواقفنا نحن التي ما زالت للأسف تماهي بين الفرد والسلطة، والحاكم والمحكوم، مسقطة تجاربها الذاتية على أقوام أخرى أصبح فيها الفرد قيمة بحد ذاته منذ أمد بعيد.

ان مقتلنا يكمن في اتخاذنا دائماً أبسط الحلول: اما الرفض المطلق أو القبول المطلق، لأن بين هذين القرارين المتناقضين ظاهرياً، المتطابقين في الجوهر، مساحة كبيرة تتطلب أول ما تتطلب، شحذ الفكر والمنطق، والتحليل والاستنتاج، وحساب الخاص والعام، وصولاً إلى القرار الصائب.

والقرار الصائب الآن، وليس غداً، هو أن نفتح باب الحوار مع الآخرين، أفراداً ومؤسسات، ونزيد من تبادلنا الثقافي مع الأمم الأخرى من دون حساسيات نخترعها غالباً نحن، ونكبل أنفسنا بها، وندفع ثمنها نحن وفي كل ذلك نلقي اللوم دائماً على الآخرين. ونعني، بشكل خاص، ضرورة فتح الحوار مع قسم من المثقفين الاميركيين المؤثرين في الحياة العامة، فكثير منهم، قياسا بالسابق في الاقل، يتطلع حقا لمعرفتنا والسماع منا مباشرة كما لمسنا ذلك من خلال تجربة خاصة في جامعة ايوا الاميركية. وبالطبع لا يمكن ان نعمم هذا المثال الايجابي، كما لا يمكننا، في الوقت نفسه، ان نعمم الامثلة السلبية. فكل ذلك لا يقودنا الا الى عمى الالوان، والتحصن بقناعات ترضي استرخاءنا الذهني والفكري، فنخسر اكثر مما خسرنا لحد الآن.