التكنولوجيا تدفع فوكوياما لإعادة التفكير في نهاية التاريخ

بعد أكثر من عشر سنوات على صدور كتابه المثير للجدل الفيلسوف الأميركي يراهن على دور العلم في تطور المجتمع البشري

TT

* تسير التكنولوجيا بسرعة تقدمها الخاصة. ان الزيادات في معدل العمر، والانخفاضات في معدل الولادة في العالم الصناعي، ستخلق عالماً من أعمار وسيطة أعظم، حيث يتعايش عدد من الأجيال في موقع العمل، بدلاً من أن يفسح جيل معين المجال لجيل لاحق. ويمكن أن تكون الحروب العمرية، شأن الحروب الجينية، في الواقع، هي النتيجة.

من باب الحماقة أن نتوقع أن بوسع فرانسيس فوكوياما أن يكتب كتاباً آخر يقارن في تأثيره بكتابه «نهاية التاريخ والإنسان الآخر»، الذي أثار ضجة عندما نشر قبل ما يزيد على عقد من الزمن.

غير أن «مستقبلنا ما بعد البشري: نتائج الثورة البيوتكنولوجية»، قد يكون مثل هذا الكتاب. وكما يعترف فوكوياما، في الواقع، في مقدمته، فقد كان مخطئاً في حديثه حول نهاية التاريخ. فكيف يمكن أن تكون للتاريخ نهاية، عندما لا تكون لتقدم العلم نهاية؟

فهو يستنتج أنه «كلما قدم لنا العلم كشفاً حول الطبيعة البشرية، توفرت دلائل على حقوق الإنسان، وبالتالي على هدف المؤسسات والسياسات العامة التي تحمي هذه الحقوق» (ص 106).

وفي ذهن فوكوياما ما هو أكبر بكثير من طرح آلية للتحكم السياسي الدولي بأبحاث البيوتكنولوجيا البشرية، التي يحددها في موضع لاحق من الكتاب، بسعة إدراك وشمولية شخص قضى سنوات يتأمل ويبحث في هذه المسألة.

ولا يبدو مندهشاً إلى حد كبير في أن يجد نفسه وهو يجادل باتجاه المزيد من الضوابط، ويلاحظ أنه «لزمن مديد منذ أن رأى شخص ما أن ما يحتاجه العالم هو المزيد من الضوابط» (ص 185). غير أن الإمكانيات الدراماتيكية لما يمكن أن تعنيه البيوتكنولوجيا البشرية غير المنضبطة تدفعه إلى الجدال لصالح إجماع وفعل دولي حول حظر الاستنساخ البشري على سبيل المثال.

ويكتب أنه في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2001، حظر 24 بلداً مثل هذا الاستنساخ، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. وصادق المجلس الأوروبي على حظر مماثل، وتسعى الدول الأوروبية إلى دفع الأمم المتحدة لتشريع حظر عالمي على الاستنساخ البشري التناسلي. ويؤكد أن الضوابط الدولية فعلت فعلها في السابق ـ خصوصاً في حالة حظر انتشار الأسلحة النووية ـ ويجب اتباع ذلك في هذه الحالة أيضاً.

ويكتب قائلاً إنه «في المستقبل يمكن أن تصبح البيوتكنولوجيا مسألة خلاف مهمة في القضايا السياسية العالمية، وان إجماعاً دولياً على التحكم في التكنولوجيا الطبية الاحيائية الجديدة لن يحدث، ببساطة، من دون عمل دؤوب واسع من جانب المجتمع الدولي والدول البارزة والمؤثرة فيه. فليست هناك كرة سحرية لخلق مثل هذا الإجماع، فهو سيتطلب الوسائل التقليدية للدبلوماسية» (ص 196).

وعلى الرغم من الأهمية المؤكدة لهذه النصيحة بالنسبة للعالم، فإنها لا تجتذب المخيلة بالطريقة التي تفعلها الفصول الأولى حول الفلسفة الأساسية للطبيعة البشرية. فنحن نعيش في زمن اختصاصيين يتجاوزون الاختصاصات البديلة الأكثر عزلة، لذلك فإنه من باب الإثارة الكبيرة أن نجد باحثاً بارعاً مثل فوكوياما يأخذنا في جولة سريعة جريئة لتاريخ الفكر الغربي.

إنه يقدم إلماعة ساحرة لا يمكن أن تبدو غير قابلة للجدل والنقاش: فكلما عرفنا الكيفية التي تتفاعل فيها الجينات والبيئة لصياغة السلوك البشري، وبالتالي تعلمنا المزيد حول معنى أن يكون المرء إنسانياً، كان هناك مبرر قوي للعودة إلى الفلسفات القديمة (أي اليونانية) التي اعتمدت على الطبيعة الإنسانية كأساس للحقوق السياسية. وفي وقت لاحق، أضافت الفلسفات طبقات من التجريد إلى الفلسفة السياسية.

ويلخص فوكوياما قائلا، إن «كانط أكد إن علينا أن نفترض وجود إمكانية الخيار الأخلاقي الحقيقي وحرية الإرادة. وبالتحديد لا يمكن أن يكون الفعل الأخلاقي نتاج الرغبة أو الغريزة الطبيعية، إنما يتعين عليه أن يقف مقابل الرغبة الطبيعية على أساس ما يملي العقل وحده صحته» (ص 119).

وعلى النقيض من ذلك: «أكد أرسطو والتقليد التوماني (نسبة إلى توما الاكويني) في العصر الوسيط، أن الفضيلة تستند إلى ما تقدمه لنا الطبيعة وتوسع ذلك، وأنه ليس هناك صراع ضروري بين ما هو ممتع طبيعياً وما هو صحيح. ففي الأخلاقيات الكانطية نرى بدايات وجهة النظر القائلة بأن الخير هو مسألة الإرادة التي تتغلب على الطبيعة».

ويرفض فوكوياما هذه الموضوعة الكانطية «في الابتعاد عن نظريات الحق المستندة إلى الطبيعة البشرية»، وان جوهر حجته يتمثل في أننا كأناس نتمتع بالقدرة على فهم أنفسنا على نحو أفضل، في سياق تقدمنا وارتقائنا، وبالتالي على وضع أسس أسئلة الصواب والخطأ على قاعدة ما يمكن أن يسمى الشعور الجريء. وهو يستشهد بالشاعر اللاتيني هوراسيوس الذي يقول إنه حتى إذا ما نثر المرء «الطبيعة» بمذراة فإنها «تأتي، على الدوام، عائدة».

وفي غضون ذلك، تسير التكنولوجيا بسرعة تقدمها الخاصة. ان الزيادات في معدل العمر، والانخفاضات في معدل الولادة في العالم الصناعي، ستخلق عالماً من أعمار وسيطة أعظم، حيث يتعايش عدد من الأجيال في موقع العمل، بدلاً من أن يفسح جيل معين المجال لجيل لاحق. ويمكن أن تكون الحروب العمرية، شأن الحروب الجينية، في الواقع، هي النتيجة.

وتتمتع الأدوية المصممة مثل البروزاك والريتالين بمفعول تغيير وتحويل التنوع البشري لأسباب علاجية قيمة في بعض الأحيان، ودون ذلك في أحيان أخرى. ويلوح للعيان مستقبل قريب يختار فيه الآباء (الأغنياء)، على نحو روتيني، بين العشرات من البيوض المخصبة، من أجل صفات مثل الذكاء، والقابلية الرياضية، والملامح الوسيمة، مما يمكن أن يخلق عرقاً متفوقاً (غنياً) مؤبداً لذاته، وعرقاً ثانياً في الأفضلية على الدوام.

ان عبقرية فوكوياما تتمثل في تجميع هذه العوامل، والكثير من التطورات الفعلية والممكنة الأخرى، التي لا يعتبر أي منها بعيد الاحتمال، واستخدامها لإثارة أسئلة ملحة حول الكيفية التي نواجه بها التحدي المطروح أمامنا.

وإذا كانت حجته تبدو فلسفية إلى حد ما بالنسبة للبعض، فإن التحدي الذي يطلقه يخص الجميع. ويكتب قائلا إن «وجهة نظري تتمثل في أن هذا الابتعاد عن مفاهيم الصواب المعتمدة على الطبيعة البشرية خاطئ تماماً، سواء على أسس فلسفية، أو كمسألة تفكير أخلاقي يومي» (ص 101). ويضيف إن «الطبيعة البشرية هي التي تمنحنا إحساساً أخلاقياً، وتزودنا بالمهارات الاجتماعية للعيش في المجتمع، وتؤدي وظيفتها كأساس للمناقشات الفلسفية الأكثر تطوراً للحقوق والعدالة والأخلاقية».

ويقول فوكوياما إن «ما يتعرض، في نهاية المطاف إلى خطر في ما يتعلق بالبيوتكنولوجيا هو ليس مجرد حساب كلفة نفعية بشأن التكنولوجيا الطبية المستقبلية، إنما الأساس، ذاته، للحسّ الأخلاقي البشري، الذي ظل ثابتاً منذ أن كانت هناك كائنات بشرية».

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»

* الكتاب: مستقبلنا ما بعد البشري

* الكاتب: فرانسيس فوكوياما