غصون رحال: لا أذكرني إلا في حالة قراءة

TT

أذكرني طفلة نحيلة، ضئيلة أحمل كتباً تماثل حجمي ـ لست أبالغ ـ كان وزني في الثالثة عشرة من عمري لا يتعدى الخمسة والعشرين كيلوغراماً، تقبع بين يدي الصغيرتين روايات مثل «ذهب مع الريح».. «مرتفعات وذرنغ».. «آنا كارنينا».. «البؤساء».. أدق فيها الرأس والبصر والعقل.. أشرد قليلاً.. أضحك مرات.. أبكي أوقات.. وكل كتاب يحملني إلى عوالمه الخاصة، كم أثارتني «سكارليت أوهارا» وكم تخيلت أن «اليكسي» أخطأ حين عشق «آنا كارنينا» دوني... لكني سامحته وهو الذي عاش في زمن غير زماني فأنى له أن يراني.

أخذت أملأ القصاصات الصغيرة من الورق، التي أقتطعتها من كراستي المدرسية، بما يدور في داخلي من تخيلات وأوهام، ثم واتتني الجرأة وصرت أخط على أوراق دفاتر المحاضرات الجامعية بعضاً من انفعالاتي.. هواجسي.. قلقي.. جموحي وأتابع تشكلها أمام عيني على هيئة إنسيّة، أتأملها وأراقب صداقة تنمو بيني وبينها، أستعيد صحبتها كصديقة مخلصة عند الضيق، وفي أوقات الوحدة، وما كان ليرد في خاطري أنني قد أحترف الكتابة يوماً ما.

إلا أن لحظة ما تفجرت في داخلي دون وعي مني.

لحظة غفلة، أو هي لحظة يقظة، انكسر فيها حاجز الوقت وتبعثرت «تكات» ساعاته الرتيبة على جدرانها الهشة، تماوج في طياتها تشرذم الأنا.. تشرذم الآخر.. تشرذم صيغة الوطن في ذاكرتي التي بلغت سن الرشد حديثاً.. تشرذم طال حتى حفرة الانهدام التي عمقت الصدع في هذا الواقع العربي الكسيح.

لحظة، ما عدت أستطيع فهم ما يدور فيها من أحداث..

كنت خلالها أحد الشهود على انقلاب الصورة، واختل اليقين لدي شخصياً كما لدى الجيل الذي أمثله على العموم.. ففيما حسبت أن ما اعتدت على قراءته والإنصات اليه من أحداث وأخبار تاريخية عبر حياتي، يمثل النسخة الأصلية لوجه الزمن.. أراني في لحظة خارجة عن المألوف، متمردة على قيود الزمان والمكان، فارّة من زوايا ذاكرة منسيّة، أعي أن ما اعتدت على التعايش الوجداني معه طيله سنوات حياتي الماضية، ما هو إلا انعكاس لسان الكذب فوق مرآة مشروخة.

كان لا بد من مواجهة لي مع الذات، تلك الذات التي تشكلت منذ الصغر على «كراهية العدو» كيف لا؟ ونحن جيل تشرب كراهية العدو مع حليب الأمهات، وتكرست كراهيته بما استقيناه من المناهج المدرسية وغير المدرسية عبر مشوار الحياة.

هكذا فجأة ومن دون سابق تحضير.. أجدني وفي لحظة عابرة، مطالبة بالتعامل مع ذاك العدو كصديق عزيز، أن أمد له يدي بالورود وأغصان الزيتون.

صممت ساعتئذ على محاكمة تلك اللحظة، منجزاتها وعثراتها..

نبشت ذاكرتي، استعرضت مخزونها، استعدت تفاصيلي ثانية، قلبتها وأعدت فيها النظر، عاودت التحقق من الماضي، ورسمت نبوءتي للمستقبل.. وهالني كم بدت الأيام بعدئذ قاتلة.. وجميلة، أفزعني تدفق أفكاري كأحصنة برية، داست بحوافرها أولاً على نظام حياتي، قبل أن تمضي في رسم الشخصيات، والأحداث، والحوارات، والمشاهد، انتهكت أوقاتي العامة والخاصة، هاجمتني أثناء توجهي إلى العمل في ساعة انتظاري في بهو المحكمة، عند تناولي الوجبات.

أترك كل ما يشغلني وأعدو خلفها، أكبح جموحها، أدونها على الورق، كانت الأوراق تتربص في كل ما يخصني من متعلقات، في السيارة، إلى جوار السرير، في أجندتي الخاصة بالمحكمة.

أحمل قصاصاتي وأنطلق إلى المكتب حيث جهاز الكومبيوتر بانتظاري دائماً.

في الليل وعند سبات الناس، تبدأ أفكاري بمطاردتي، تزن في رأسي مثل بعوضة، تأمرني بتدوينها، أتحايل عليها قائلة: «خلص عرفت.. سأدونك في الصباح» تسخر مني بالمزيد من الزن المزعج أشعل النور، أدونها على مهل، أحسب أني سجلتها جميعها، أطفىء النور وأحاول أن أنام.

ما كنت أفلح في تحقيق هذه الأمنية إلا والفجر يشقشق منبثقاً من خيمة العتمة.

دونت، وسجلت، وكتبت كل ما زخته علي ذاكرتي من أفكار مبعثرة، متشظية، متناثرة مرت بي ومررت بها في السنوات الأخيرة من عمر الواقع العربي.

شطبت الكثير أحياناً وأعدت كتابة الكثير أيضاً، شططت وغاليت أحياناً وكذبت أيضاً/ تمرغت في الخيال أحياناً وشهدت بالحق أيضاً. لعبت على المكان والزمان، كسرتهما، وحدتهما، ثم شظيتهما في رواية، أطلقت عليها عنوان «موزاييك».

* كاتبة أردنية