رواة طنجة يرممون ذاكرة المغرب الشعبية

حسن بحراوي يتتبع سير وأعمال سلالة ظلت مقصية عن عالم الإبداع والشهرة

TT

في كتابه الجديد «حلقة رواة طنجة» (الصادر مؤخرا عن منشورات عكاظ، الرباط، يناير 2002، في 136 صفحة، في طبعة أنيقة من القطع المتوسط)، يواصل حسن بحراوي مشروعه في تحليل عناصر الثقافة السردية الشعبية، بالمغرب، شفوية كانت أو مكتوبة. ومن بين ما يحسب لهذا الباحث كونه يعمل، انطلاقا من مجهوده الفكري والبحثي الخاص، على ترميم وتجلية ذاكرتنا الثقافية الشعبية، المسرحية والغنائية والسردية، وإنقاذها من التلاشي والتجاهل والنسيان، وذلك عبر إحيائها وضمان امتدادها في الأزمنة وفي الأجيال المتلاحقة.

وفي هذا الإطار، جاء كتاب «حلقة رواة طنجة» بمثابة بحث في موضوع كان من بين انشغالات الباحث الأساسية منذ السبعينات، من القرن الماضي، أي على مدى سنوات كثيرة، اهتم فيها الباحث بقراءة قصص وروائيات وسيرة بول بولز، مستأنسا، في ذلك، بأحاديث بولز المقتضبة في تلك الجلسات المتباعدة مع هذا الكاتب الأميركي قبل وفاته، وهو الذي اختار، كما هو معروف، طنجة مدينة للإقامة والعيش فيها، بعد أن زارها، في البداية وهو في العشرين من عمره، قبل أن يقرر الاستقرار فيها بصفة نهائية عام 1947، حيث ارتبط اسمه بهذه المدينة، حتى بعد وفاته، مخلفا وراءه ثروة كبيرة من الأعمال الأدبية والمؤلفات والتأثيرات، والأسئلة أيضا، وخصوصا اهتمامه بأولئك الرواة المغاربة الأميين الذين عمل بول بولز على نشر أعمالهم، بالإنجليزية، ابتداء من فترة الستينات. ويتعلق الأمر، هنا، بالعربي العياشي ومحمد لمرابط، تحديدا، حيث غض الباحث الطرف عن نصوص أخرى لأحمد اليعقوبي وعبد السلام بولعيش لقلتها وللقيمة الفنية المتواضعة للمتوفر منها، كما استثنى الباحث نصوص محمد شكري لأنها متاحة للقراء، سواء في لغتها الأصلية أو في ترجماته المختلفة. وهم الرواة المنحدرون، يقول الباحث، من سلالة ظلت مقصية على الدوام من دائرة الإبداع والشهرة. لكنهم استطاعوا، بعد ذلك، مقاومة «الأمية والرعونة والمساس بالكرامة وآفات أخرى نتنكب عن ذكرها..وأنتجوا لنا نصوصا حكائية تتوفر على كل المقومات الأدبية والتعبيرية. وزادوا على ذلك بأن عرضوا علينا عوالم تخييلية قلما يطالها السرد الحديث بأوفاقه وحدوده الأخلاقية المتعارف عليها» (ص 8)، وهو ما جعل أرثر ميلر، وهو ذو مكانة عالمية مرموقة ـ يضيف الباحث ـ يقول إن محمد المرابط «يعلم الروائيين الغربيين مهنتهم».

من ثم، فإن اهتمام حسن بحراوي ببول بولز في علاقته برواة طنجة، يشكل في الأصل اهتماما بأسئلة وإشكالات، عمل الباحث على التنقيب فيها عبر التحليل والتأويل واستخلاص الاستنتاجات وما شاكلها من المضمرات الغميسة في تجربة بولز مع رواة طنجة (ص6).

قسم الباحث كتابه إلى خمسة فصول، إلى جانب مقدمة، من توقيع الكاتب والمترجم المغربي إبراهيم الخطيب، أحد المهتمين كذلك بدراسة أعمال بول بولز وبترجمة بعضها إلى العربية، ومدخل عام وخاتمة، عدا إدراجه لببليوغرافيا رواة طنجة وأيضا لنماذج من نصوصهم مترجما إياها إلى العربية.

في الفصل الأول، المعنون بـ«الكاتب الأميركي بول بولز»، يتتبع الباحث بالسرد والتحليل حياة بول بولز منذ ولادته أواخر عام1910بنيويورك، إلى وفاته عام 1999بطنجة، وذلك بعد طول إقامة قاسية بالمستشفى الإيطالي بالمدينة، مع ما يتخلل هذه السيرة، الطافحة بالعطاء والمغامرة والترحال، من تنقيب خاص وإضاءات جديدة للمسار الحياتي والكتابي العام لهذا الكاتب العالمي، بما يتخلله من محطات مشرقة ومن لحظات معاناة واتهامات، ومن علاقات وصداقات ربطت بين بولز وبعض الكتاب العالميين، الأميركيين والأجانب، ممن زاروا مدينة طنجة والتقوا به فيها، وهم كثر، ومن بينهم، يشير الباحث، إلى براين جيسين وويليام بورووز وجاك كيرواك وألان غينسبرغ وتينيسي وليام، وغيرهم من مشاهير الكتاب والفنانين..

أما الفصل الثاني، من هذا الكتاب الممتع، فيخصصه الباحث لتحليل طبيعة تلك العلاقة الاستثنائية التي كانت قائمة بين «بول بولز ورواة طنجة»، كما يفضل حسن بحراوي تسميتهم، لما لهذه الحلقة من ارتباط بفضاء هذه المدينة الكوسمبولوتية تخييليا وتعبيريا، ولتحلقها حول القطب بول بولز الذي أوحى لها بالانخراط في مضمار السرد الحكائي واستقطار أفضل ما في المخزون الشعبي من لحظات التألق والجاذبية، وأكثر من ذلك لاستدرارها خيالا فطريا مجنحا لم يكن ينتظر سوى من يعطيه إشارة الانبثاق والتبلور..(ص30).

هكذا يتتبع الباحث طبيعة تلك العلائق والمصادفات والأحداث التي ربطت بول بولز برواة طنجة، وفي مقدمتهم الراوي الشعبي العربي العياشي وأحمد اليعقوبي وعبد السلام بولعيش، وخاصة الراوي الفطري المتميز محمد المرابط، مبرزا طبيعة انشداد بولز بهؤلاء الرواة وبطريقتهم، الفريدة من نوعها، في سرد الحكايات، وانبهاره بموضوعاتها المأهولة بالمفاجآت والمغامرات الحياتية الخصيبة والتحولات المباغتة وأشكال الغريب والعجيب التي تحفل بها. أما محمد شكري، يضيف الباحث، فيمثل، من جهته، استثناء نوعيا في تجربة رواة حلقة طنجة لأنه لم يكن راويا بالمفهوم الفطري للكلمة، بل كان يتوفر على ثقافة عالية تؤهله للقراءة والتجاوب مع النصوص، العربية والمترجمة خاصة، الشيء الذي كان يهيئ له خلفية مرجعية لم يكن الرواة الأميون ولا أشباه الأميين يتوفرون عليها، إلى جانب تميز شكري بالوعي السياسي، القومي والوطني، الجنيني حقا، ولكن القائم آنئذ والقابل للتبلور..

ويخصص الباحث الفصل الثالث من كتابه لـ«العربي العياشي: حياة مليئة بالثقوب»، فيتناول فيه حياة هذا الراوي الذي عاش حياة صاخبة بالعنف والفتوة، كما عاش تجربة مريرة مع السجون، قبل أن يحالفه الحظ بالالتقاء ببول بولز، هذا الذي زاد اقتناعه بموهبة العياشي في السرد والحكي، خصوصا بعد أن منحه فرصة النشر على أوسع نطاق والظهور في ترجمات إنجليزية شدت إليه انتباه القراء من بقاع العالم، وتحديدا سيرته السجنية الفريدة (حياة مليئة بالثقوب)، قبل أن يهاجر العياشي إلى أميركا هاربا، حسب الباحث، من السلطة المادية والروحية الخفية، ولكن القاهرة، التي ظل يمارسها عليه بولز(ص44).

في الفصل الرابع المخصص لمحمد الحجام، المعروف في الأوساط الأدبية بمحمد المرابط، يقدم حسن بحراوي العديد من المعطيات النادرة حول هذه الشخصية الاستثنائية في تاريخ السرد المغربي الشفوي، بما يكتنفها من محطات حياتية مليئة بالتقلبات والانعطافات والمغامرات والسفريات، إلى نيويورك والمسيسيبي، قبل أن يلتقي، من جديد، ببول بولز، فيخوض معه مغامرة لم يكن أحد يتوقع نجاحها ولا تقدير النتائج التي ستسفر عنها، حيث قام بولز بنقل العديد من التسجيلات، من قصص المرابط ورواياته وحكاياته الشعبية وسيرته الذاتية، في مختلف تمفصلاتها الحكائية والزمنية، إلى اللغة الانجليزية، وقد عرفت طريقها إلى النشر العالمي، وذلك قبل أن تتوقف هذه العلاقة لكي يستقل المرابط بنفسه، فيتجه إلى اللغة الإسبانية لصياغة أعماله من دون وسيط ومن دون المرور باللغة الدارجة..

وينهي الباحث فصول كتابه بفصل أخير، خصه لمقاربة علاقة بولز بمحمد شكري في بداية الستينات، وذلك من خلال ما سماه الباحث بالصداقة المرعدة. فشكري، كان بخلاف الرواة الآخرين، يتمتع بشخصية مستقلة كانت تمكنه من رفض وضعية التابع، كما أن شكري لم يكن بالنسبة لبولز تلك «الدجاجة التي تبيض ذهبا» مثل مواطنيه العربي العياشي ومحمد المرابط.

وفي هذا الفصل أيضا، يتعرض الباحث لتلك العلاقة التي ربطت بين هذين الكاتبين، واتسمت، في عمومها، بالمد والجزر، لكي تتخذ في الأخير مظهر القطيعة، كان من نتائجها تأليف شكري لكتاب عن بول بولز، يتوقف الباحث، في كتابه هذا، عند بعض طرائفه وغاراته.

وفي خاتمة الكتاب، لا تفوت الباحث فرصة تقييم هذه التجربة الاستثنائية التي طبعت مسار بول بولز الحياتي والإبداعي، في علاقته برواة طنجة. كما أن إدراجه لنماذج من إبداعات رواة طنجة، وقد نقلها حسن بحراوي إلى العربية، ما يقدم للقارىء العربي عموما نماذج حكائية من شأنه أن يتلمس من خلالها طريقة السرد التي كان يعتمدها أولئك الرواة، بما تتميز به من فطرية وعمق واستثنائية أيضا. وكل ذلك، يجعل من هذا الكتاب مرجعا هاما للاقتراب من جوانب خاصة وعوالم جديدة من سردنا المغربي الحديث، في مستواه الفطري وفي بعده الفني العالي كذلك، كما أنه كتاب يعيد الاعتبار لعلاقات استثنائية بين كاتب عالمي ورواة من المغرب.

* حلقة رواة طنجة

* المؤلف: حسن بحراوي

* الناشر: «عكاظ» الرباط ـ يناير 2002