صاحب «علامات»: صدور مجلة في المغرب معناه التضحية في مجتمع يحتقر الثقافة

TT

في الوقت الذي بدأت تختفي فيه مجموعة من المجلات الثقافية المتخصصة بالمغرب التي ظهرت في الثمانينات من القرن الماضي، مثل مجلة «دراسات أدبية ولسانية» التي توقفت عام 1987 ومجلة «دراسات سيميائية أدبية ولسانية» التي توقفت عام 1992، ظهرت مجلة «علامات» المجلة الفصلية المتخصصة في أبريل (نيسان) عام 1994 بمبادرة مجموعة من المثقفين من كلية الأداب في مكناس وبادارة الباحث والكاتب المغربي سعيد بنكراد. وواصلت المجلة الصدور بانتظام حتى الآن على الرغم من المشاكل التي يعرفها سوق القراءة بالمغرب هنا حوار مع بنكراد عن مجلة «علامات»، ومتاعب ومستقبل المجلات المتخصصة

* كيف استطعتم الاستمرار لحد الآن، وأغلب المجلات المغربية تتوقف عند عشرة أعداد على أبعد تقدير؟

ـ صدر العدد الأول من المجلة في أبريل 1994 والهدف الرئيسي منها هو تثبيت دعائم تصور نظري أدبي يهدف الى فصل الدراسات الأدبية عن الدراسات غير الأدبية. وهذا لا يعني احداث قطيعة بقدر ما يعني تحديد التخصصات أو حقول كل مجال على حدة. والمجلة على الرغم من أنها متخصصة في السيميائيات فإنها غير مفصولة عن واقعها أو عن قضايا الوطن ككل. وقد جاءت بمبادرة من مجموعة من الأساتذة أغلبهم ينتمون الى كلية الأداب والعلوم الانسانية بمكناس وبمساهمة مالية من جيوبهم، حيث أننا لم نتلق أي دعم على الاطلاق. والأعداد الأولى كلها كانت نتيجة لهذا الدعم الأولي لهيئة التحرير، وبعد ذلك كان هناك دعم بسيط جدا على شكل مقتنيات، أي أن الجامعة أو الكلية اقتنت خمسين نسخة من أجل التبادل. وما عدا هذا لا وجود لأي دعم. وابتداء من العدد الخامس عشر وعدت وزارة الثقافة والاتصال بأنها ستمول المجلة بنسبة 50% من تكلفتها الاجمالية. أما لماذا استمرت مجلة «علامات» ولم تستمر بعض المجلات الأخرى فلست أدري. ولكن الأساسي أننا نحن منذ البداية وعلى عكس مجموعة من المجلات السابقة اخترنا التخصص، بمعنى أننا اخترنا قارئا محددا في الزمان والمكان له اهتمامات خاصة هي الاهتمامات التي أخذت المجلة على عاتقها بلورة تصورات المجتمع حولها. فلهذا السبب استمرت المجلة التي لم تأخذ هيئة تحريرها التصور القديم الذي يقول «كلما نوعنا من مواد المجلة اتسعت دائرة القراء» منطلقا لها، لأن هذا برأيي كان سيؤدي بالمجلة الى فقد هويتها والى التوقف لا محالة. أما بالنسبة لتوقف مجلات مثل «دراسات أدبية ولسانية» و«دراسات سيميائية أدبية ولسانية» فلا أعتقد أن المشاكل المادية هي التي كانت وراء توقفهما بقدر ما هي مشاكل داخلية عند هيئة التحرير. وأشير الى أن هاتين المجلتين كانت لهما تجربة رائدة في هذا المجال هما اللتان دفعتانا الى التفكير في التخصص وكسر ذلك الطوق القديم طوق الشمولية.

* من هو القارىء الذي تتوجه له مجلة «علامات»؟ هل لها قراء في البلدان العربية الأخرى؟

ـ المجلة لا توزع خارج المغرب، ولكنها تصل في بعض الأحيان الى القارئ المشرقي عن طريق المعارض أو عن طريق بعض المثقفين المشارقة الذين يزورون المغرب أو المثقفين الغاربة الذين يذهبون الى المشرق. ولهذا فالقارئ الذي تتوجه له المجلة هو في الأصل قارئ مغربي، وذلك ليس اختيارا لأنه ليست لنا القدرة على أن نوزع المجلة خارج المغرب. أما القارئ الذي تتوجه له المجلة بصفة عامة هو القارئ الحداثي، القارئ الجديد الذي ينظر الى الدراسات الأدبية من زاوية جديدة وهي أنه لا يمكن الفصل بين المناهج التحليلية سواء في الرواية أو الشعر أو المسرح أو السينما عن أسس معرفية فلسفية هي التي تسند هذه التحليلات. وهذا هو القارئ الأساسي بالنسبة لنا الذي يريد أن يجعل من المادة الأدبية ندا للدراسات الفلسفية والاجتماعية والتاريخية وليس مادة مشاعة لكل من يرغب في التجريب.

* كم نسخة تطبعون من المجلة؟ ـ نطبع 1500 نسخة، وهذا هو الرقم الذي تقف عنده حتى الكتب والمجلات التي تصدر بالمغرب. وقد تصل في أقصى تقدير عند بعض الطبعات الشعبية في حدود 2000 نسخة. والمجلة توزع في جميع المناطق المغربية عن طريق شركة التوزيع التي تأخد نسبة 40% من المبيعات. وتتراوح النسبة التي تباع من المجلة ما بين 50 و60%، وما تبقى تأخذ الكليات نسبة منه وفعلا هناك مرجوعات. أما مسألة الأرباح فلا يمكن التحدث عنها لأن مداخيل عدد معين من المجلة توظف في اصدار العدد المقبل منها.

* هل استطاعت المجلة أن تحقق الأهداف التي حددتها منذ أعدادها الأولى والمتمثلة في «تقديم المجلة بشكل يحترم القواعد الأساسية التي يتطلبها اصدار وترويج منتوج ثقافي يحترم نفسه، وتوفير اطار فكري مفتوح للحوار العلمي والتبادل الثقافي بين مختلف المهتمين في العالم العربي»؟

ـ هذا سؤال لا يمكن أن أجيب عنه مباشرة، ما دمنا في المغرب لا نعرف نقاشا جديا وحوارا ثقافيا بقواعده وأصوله. فكل شخص يقول ما يريد ولا أحد يعاتبه على ما يقول ولا أحد يردعه ولا أحد يكون رقيبا على الآخر، وبالتالي ففي جو من هذا النوع لا يمكن أن نصدر حكما على أي شيء لسبب بسيط هو أن كل التيارات موجودة ولا وجود لأي تيار. ولكن مع ذلك أعتقد أن المجلة حققت بعضا من أهدافها الأساسية من حيث استقطابها لمجموعة من الباحثين الأكاديميين المغاربة والطلبة الباحثين، والدليل على ذلك هو استمراريتها وتحقيقها لقراء دائمين. أما مسألة أن نكون تيارا جاذبا لمجموعة ونمثل تيارا قائم الذات فأنا لا أدعي ذلك ولا أعتقد أن هناك مجلة في المغرب وصلت الى هذا المستوى، لسبب بسيط هو غياب الحوار الثقافي الجاد.

* على الرغم من نزوع المجلات المغربية الى التنوع فإنها لا تختلف كثيرا عن الملاحق الثقافية للصحف المغربية إلا من حيث الحجم والشكل الطباعي، فهل هذا راجع الى غياب استراتيجية واضحة للمجلات الثقافية بالمغرب؟

ـ سمعتنا سيئة في هذا المجال، لأن من جملة المآخذ التي نسمعها هي أن أغلب المقالات التي تنشر بالمجلة لا تفهم أو صعبة جدا. فإذا لم يكن القارئ متخصصا فلن يفهم أي شيء. لقد سعينا جاهدين في المجلة الى الابتعاد عن الانشاء والتمييز بين النقد العلمي الدقيق وبين الملاحق التي مهمتها فقط الآن الترويج ونشر عرض عن الكتب للتعريف بها. وعلى العموم فالمسألة تتعلق باختيارات ومجلة «علامات» التي انطلقت من أسس معرفية واضحة وقلنا بالحرف الواحد أننا نريد أن نلتصق بقضايا وطننا السياسية والثقافية والاقتصادية ولكن من زاويتنا نحن. دعونا نتموقع، ونتخندق، ودعونا ننظر الى الأشياء من زاوية نظرنا. ولهذا فحينما اخترنا السيميائيات فلأنها تشكل وعيا حضاريا جديدا ولأنها تعتبر من النظريات الفلسفية الحديثة التي جعلت كموضوع رئيسي لدراستها نشاط الانسان باعتباره نشاطا منتجا للمعنى لأنه في حاجة الى المساءلة في ذاته. لهذا فالمجلة منذ البداية لم تكن على شكل ملحق ولم تنشر ابداعا ولم تتحدث عن تعريف بكتاب. نحن ننشر مقالات مؤسسة سواء عند الغرب أو مقالات يريد أصحابها من المغرب ومن خارج المغرب أن يؤسسوا لنظرية جديدة ضمن هذا الصرح الكبير الذي اسمه السيميائيات.

* من خلال تجربة تسع سنوات في ادارة واصدار مجلة «علامات» ماذا يمكنك أن تقول عن مناخ اصدار المجلات بالمغرب؟ وهل تحظى المجلات باقبال من طرف القراء؟

ـ أولا ليس هناك جو صحي لاصدار المجلات بالمغرب على الاطلاق. فأن تصدر مجلة بالمغرب وبانتظام معناه أن تضحي بأشياء كثيرة جدا في مجتمع يحتقر الثقافة ويزدريها، لأنك لن تجد الدعم ولا السند ولا أحد ينظر اليك بعين الرضى. اضافة الى أنه ينظر اليك على أنك مزعج لأنك تطرح أشياء مزعجة في جو يحبذ الخمول والكسل. فرغم أن المجلة متخصصة فمن المؤسف في بلد يتوفر على أكثر من 50 ألف طالب يدرسون الأداب وأكثر من 50 ألف أستاذ لا تباع من المجلة إلا أعداد معينة. أكيد أن القدرة الشرائية تلعب دورها ولكن الجو الثقافي المنعدم في المغرب هو العامل الأساسي في كل هذا، وهذا لا ينسحب على المغرب بل حتى في العالم العربي حيث ما زالت الثقافة مهمشة. وبمجرد القاء نظرة بسيطة على ميزانية وزارة الثقافة المغربية مثلا التي لا تتعدى 0.1% يتبين الخبر اليقين. ولهذا فمن الصعب أن تستمر المجلة بدون تضحيات. لا يمكن أن نتصور أفرادا معزولين يصدرون مجلة وتستمر لمدة تسع سنوات بدون دعم.

* هل تعود ظاهرة اختفاء وتوقف المجلات بالمغرب الى استنفاد المجلة لمهمتها أم أن هناك معيقات وأسبابا أخرى وراء ذلك؟

ـ لا أعتقد أن المجلة حينما تتوقف فإنها قد استنفدت مهمتها، لأن توقفها يعود بالأساس الى افلاس مادي ما دامت الدولة لا تكلف نفسها تقديم مساعدات لأرباب المجلات وهو ما لن يكلفها الشيء الكثير بل بالعكس ستقدم لها المجلة خدمات لا تتصور لأن الأمر سيتعلق بوجدان المغاربة الذي سيصدر الى الوطن العربي. ولهذا فنحن نغرد خارج السرب وخارج حركة المجتمع ككل أي كما تريد الدولة، ولهذا فالهم الثقافي يأتي بعد الهم السياسي والاقتصادي بكثير.

* تراجعت نسبة القراءة في المغرب الى 2%، وهو شيء مقلق جداً على الرغم من توفر البلد على العديد من الجامعات والمؤسسات التعليمية. فما هي برأيك أسباب عزوف المغاربة عن القراءة؟وكيف يمكن تحفيزهم على القراءة؟

ـ هناك أسباب متعددة لانحصار القراءة في المغرب. أولاها القارئ الأساس الأول في الثانوي والجامعي. فكم ثانوية تتوفر على مكتبة وتتوفر على مختصين في تنشيط القراءة داخل الثانويات؟ وهل تنتقي المكتبات بالثانويات كتبا حديثة لكي تغني بها مكتباتها؟ والشيء نفسه ينطبق على الجامعة بمكوناتها التقليدية فالطالب بها نادرا ما يقرأ رواية معينة وحتى إذا قرأها فلأنها مقررة في البرنامج فقط. هذا ناهيك من الأسباب المادية التي تحول في أغلب الأحيان بين الطلبة والقراءة، لأن أغلب الطلبة في المغرب فقراء ويتقاضون منحة تقدر بـ430 درهما في الشهر. فهل من الممكن أن يشترى ذلك الطالب كتابا بـ50 أو 100 درهم؟ إن هذا غير ممكن ويبقى الحل هو المكتبات العمومية ولكنها للأسف لا تشجع على القراءة سواء من حيث البناية أو من حيث الأطر الموجودة فيها وهي في غالبها غير متخصصة وليست لها علاقة حميمية مع الكتاب، ولا من حيث مقتنيات الكتب. فالمكتبات في المغرب لا تشرح النفس ولا تشجع على القراءة. فلو أن وزارة الثقافة كانت تنتقي 500 نسخة من كل كاتب وتوزعها على المكتبات لساعدت الكاتب أولا ولسمحت للقراء بانتقاء الكتاب من المكتبات وقراءته. فهذا الجو العام اضافة الى تأثير الصورة والفضائيات والوسائط الاعلامية هو الذي جعل القراءة بالمغرب تنحصر، وفي المستقبل ستكون لذلك تأثيرات أخطر.