تطور الدولة في المغرب من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن العشرين

TT

شكلت ظاهرة الدولة بمختلف ملابساتها التاريخية والاقتصادية والفقهية مادة علمية لأغلب الدراسات والكتابات المغربية ذات المنحى الاخباري أو السياسي أو الحقوقي، وقد ازداد الاهتمام بهذه الظاهرة خاصة في منتصف القرن التاسع عشر، حيث ركزت الأدبيات الاستعمارية على مختلف ميكانيزمات الدولة بالمغرب، وبعد الاستقلال استحوذت اشكالية الدولة باهتمام جل الباحثين المغاربة الذين خصصوا لهذه الظاهرة مجموعة من المؤلفات التي تناولت مختلف جوانبها التاريخية والاقتصادية والسياسية والدستورية. كما تضاعف الاهتمام بالدولة في الآونة الأخيرة وكثر الجدل حول اشكالية تحديث الدولة والكيفيات التي يمكن بواسطتها ترسيخ دولة الحق والقانون بالمغرب خصوصا مع تبلور مجموعة من العوامل المساعدة على ذلك كتمركز الدولة بالمغرب وتحكمها في المجتمع المغربي وبداية بروز ملامح المجتمع المدني بالمغرب، حيث ظهرت في السنوات الأخيرة مجموعة من الكتابات التي حاولت ملامسة بعض الاشكاليات التحديثية المرتبطة بتطوير الدولة المغربية وعصرنتها، ولكن رغم تعدد تلك الكتابات وتنوع المؤلفات فيها بين الفردية والجماعية إلا أنه يلاحظ أن هناك فراغاً شبه تام لأي انجاز شمولي أكاديمي أو علمي حول الدولة المغربية، بحيث يمكن القول إن الأرشيف الأكاديمي المغربي لا يتوفر إلا على أبحاث ودراسات جزئية تركز على فترات تاريخية محددة من مسار هذه الدولة الطويل، أو تسلط الضوء على فترات حكم بعض الملوك والسلاطين الذين ينتمون لهذه الأسرة أو تلك. وفي هذا الاطار يأتي مؤلف الدكتور محمد شقير «تطور الدولة في المغرب: اشكالية التكون والتمركز والهيمنة (من القرن الثالث ق. م. اى القرن العشرين)»، الصادر أخيرا عن «دار افريقيا الشرق» بالدار البيضاء ليسد بعضا من الفراغ الذي يعاني منه الدرس التاريخي لظاهرة الدولة في المغرب، على اعتبار أنه يحاول رصد تطور الدولة المغربية من القرن الثالث قبل الميلاد الى القرن العشرين وذلك من خلال تقسيمه لهذا الكتاب، الذي يقع في 367 صفحة من الحجم المتوسط، الى فصل تمهيدي وقسمين كبيرين يتطرق الأول منهما لتكون الدولة بالمغرب والثاني لتجذر الدولة فيه. في الفصل التمهيدي يطرح الكاتب اشكالية الدولة بالمغرب من خلال ثلاثة أجزاء: جزء مقارباتي يبحث فيه تطور البنيات السياسية بالمغرب ويعتمد على ثلاث مقاربات لتصنيف الكتابات التي تناولتها وهي المقاربة التاريخية، المقاربة السوسيولوجية والمقاربة الاقتصادية، وجزء ثان يسميه الكاتب بـ«منطلقات» ويركز فيه على ثلاث منطلقات أساسية لرصد بطور الدولة في المغرب وهي: أولا التأكيد على خصوصية الدولة المغربية التي تتميز عن باقي الأقطار العربية والاسلامية الأخرى باحتفاظها على هويتها وأصالتها التاريخية، ثانيا الانطلاق من عدم ربط نشأة الدولة بالمغرب بفترة سياسية معينة، لأن الدولة بالمغرب كانت نتيجة لسيرورة تاريخية عامة، وثالثا التركيز على استمرارية الدولة بالمغرب وتطور هياكلها وفقا للمستجدات الداخلية والخارجية. ويتعرض الكاتب في القسم الأول من هذا الكتاب الى تكون الدولة بالمغرب من خلال جزءين كبيرين يتطرق في الأول منهما لتشكل الدولة في المغرب عبر ثلاثة فصول يحدد فيها مقومات الدولة وتجلياتها وأسباب تداعيها، وفي الجزء الثاني يتحدث الكاتب عن عملية توحيد الدولة بالمغرب التي استغرقت عدة قرون والتي لم تتحقق إلا في عهد المرابطين باقرار مذهب رسمي للدولة وتوحيد مجالها السياسي. أما في القسم الثاني فيتطرق الكاتب محمد شقير الى مسألة تجذر الدولة بالمغرب من خلال تناول ظاهرة تمركز الدولة بالمغرب والتعرض لهيمنة الدولة بالمغرب. ويخلص الكاتب في نهاية مؤلفه الى أن الدولة المغربية تتميز بالكثافة التاريخية لأنها تمتد الى ما يزيد على 20 قرنا ميلاديا، وأن ملامحها الأول ظهرت منذ القرن الثالث فبل الميلاد واستمرت في التطور رغم الأزمات التي عرفتها بسبب المشاكل السياسية الداخلية وبفعل الاحتلالات الأجنبية التي تعاقبت على المغرب. ويضيف أن المتغيرات التي شهدها العالم منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي من تكريس للعولمة ونشوء للتكتلات الاقتصادية الكبرى قد فرضت على الدولة المغربية مجموعة من التحديات أهمها: الانفتاح على الاقتصاد العالمي، الخضوع لسياسة التقويم الهيكلي والاستجابة للمد الديمقراطي العالمي، وهو ما جعل الدولة المغربية حاليا ـ كما يرى المؤلف ـ تتخبط في أزمة تتمثل في اشكالية التوفيق بين تحمل أعبائها الداخلية، التي تتزايد بشكل متواصل، والتحديات التي لا يمكن الانفلات منها.