قصة موت وحياة السينما الإيرانية

كان في طهران وحدها 88 دار عرض أي أكثر مما يوجد في لندن اليوم

TT

«انه المكان الذي يشاهد فيه الناس الأفعال الشائنة على شاشة، ويرتكبون الخطيئة في الظلام»، هكذا عرف الراحل آية الله روح الله الخميني السينما في واحدة من محاضراته عام 1962 عندما كان يحرض أهالي بلده قم وهي مدينة الشيعة المقدسة ضد افتتاح دار سينما جديدة في المدينة، وبالفعل قام المتمردون باحراق السينما، لكنها لم يستطيعوا منعها للأبد فقد أعيد افتتاح بيت الخطيئة بعدها بأسبوعين في حماية الشرطة، وفي ظل الاجراءات الأمنية المشددة كان واضحا ان أهالي قم أحبوا تلك التسلية الممتعة، وبعدها بسبعة عشر عاما أصبح الخميني هو الرجل الأول في إيران، وأصبح بامكانه الانتقام فأغلق كل بيوت الخطيئة بما فيها السينما. وقصة تحايل السينما الايرانية على عمليات التطهير التي قام بها الخميني معروفة، وتم سردها أكثر من مرة في مقالات باهمان مقصودي، كما ان تاريخها الحديث كان هو موضوع الكتاب الذي صدر بعنوان «الحياة والفن: السينما الايرانية الجديدة».

فحتى ينفذ الخميني خطته التطهيرية أنشأ المجلس الأعلى للثورة عام 1979 حتى يقضي على ما كان يطلق عليه «النفوذ الغربي»، وعلى الفور أغلق المجلس الجامعات الايرانية لمدة عامين وطرد من الجامعة 35 ألف طالب و8700 استاذ بدعوى انهم غير اسلاميين، وشكلت لجنة كانت مهمتها التأكد من تطبيق آراء الخميني.

وحققت اللجنة عدة انتصارات سهلة فاغلقت جميع المسارح ودور الاوبرا وصالات الديسكو وحتى المطاعم التي تقدم الموسيقى. وباختصار فقد تم تحريم الموسيقى، وبالتالي الفرق الموسيقية والنجوم المعروفين بما فيهم قادة الاوركسترا السيمفونية في طهران وشيراز الذين كانوا قد حققوا مكانة عالمية وألقى بهم في السجون وتم تشكيل فرقة عسكرية خاصة للاشراف على تدمير اسطوانات الموسيقى وأشرطة الكاسيت والآلات الموسيقية.

لكن السينما بالذات أثبتت انه من الصعب تحطيمها فهي وصلت لقم بعد ستين عاما من وصولها لطهران العاصمة. وعندما وصل الخميني للحكم كانت السينما قد أسست نفسها كصناعة كبرى في ايران، ففي عام 1977 كانت ايران واحدة من أكبر أربع دول المنتجة للأفلام السينمائية مع الولايات المتحدة والهند وفرنسا، وكانت الافلام السينمائية الايرانية تشارك وتفوز بالجوائز في المهرجانات العالمية مثل كان وبرلين وشيكاغو وموسكو. وكان عدد العاملين بالسينما الايرانية يبلغ 40 ألف شخص وهو نفس عدد العاملين في صناعة البترول، وكان هناك حوالي 900 دار عرض سينمائي في ايران، وكان بطهران وحدها 88 دار عرض أي أكثر مما يوجد في لندن اليوم، وكانت السينما واحدة من أهم عشر صناعات في القطاع الخاص الايراني.

وكان هناك من بين الملالي من يشجع السينما منهم الملا آية الله رحماني فقد كان يكتب نقدا فنيا في الصحافة الطهرانية والمجلس الأعلى نفسه الذي كان يرأسه الملا محمد خاتمي والذي أصبح فيما بعد رئيسا لايران. وكان يرى انه بدلا من تدمير صناعة السينما فمن الافضل للنظام الجديد استخدامها كوسيلة دعائية وعلى ذلك فقد تم فرض رقابة صارمة على السينما بما فيها مراجعة دقيقة للسيناريوهات وحذف المشاهد غير اللائقة من الافلام بعد تصويرها.

وبعد وصول الخميني للحكم تم تجريد اصحاب دور العرض من ملكياتهم ومنع حوالي 80 في المائة من الممثلين والممثلات من العمل وأصبحت أغلب العوائد تذهب للدولة، ولكن الخلاصة هي أن الخميني ذهب منذ 13 عاما لكن السينما الايرانية بقيت الى اليوم.

واليوم فالسينما الايرانية تعد واحدة من أهم البدائل للسينما الهوليوودية التي أغرقت العالم بتأثيراتها خاصة ضجيجها وعنفها غير الواقعي والنماذج البطولية المزيفة وكما علق الناقد السينمائي الفرنسي ميشيل تورنت «يا لها من راحة عندما تشاهد فيلما ايرانيا بعد مشاهدتك لفيلم اميركي. ومؤلف «الحياة والفن» يعيد اكتشاف لحظات الموت والحياة للسينما الايرانية بمراحلها المختلفة، ففي الايام الاولى لوصول الثورة للحكم اتهمت السينما بمساندة مشروعات بهلوي الحديثية.

والمتشددون تحديداً اتهموا السينما بأنها احدى أدوات الاستعمار الثقافي الغربي لايران وكانت هدفاً مفضلا للسخط الثوري. ويدعي الكاتب أن دور العرض السينمائي أصبحت هدفاً للهجمات الخمينية أوائل عام 1978 ويقول في كتابه: «في أغسطس 1978 مات حوالي 400 شخص في حريق مدبر في مسرح ركس بابيدان بعد أن أصبح احراق دور العرض احدى الطرق الثورية لهجوم على رموز حكم الشاه. وعندما وصلت الحكومة الاسلامية للحكم عام 1979 تم تدمير 180 دار عرض سينمائي مما خلق أزمة دور عرض ما زالت تعاني منها ايران الى اليوم».

* رقابة مشددة

* ويذكر الكاتب انه تم فرض رقابة مشددة على السينما ما أن تولى النظام الجديد الحكم. فمن عام 1979 إلى 1984 لم يسمح الا بانتاج حوالي 25% من الأفلام التي تم تقديمها للرقابة كسيناريوهات للاجازة وبعدها منعوا حوالي 1958 فيلما من مجموع 2208 افلام تم انتاجها في تلك الفترة.

وفي الأفلام التي تم عرضها كانت تحذف مشاهد عديدة متعسفة لكل ما يصنف على أنه مناف للاسلام، ويشرح الكاتب كيف استطاعت ان تستفيد السينما الايرانية من المساحة المتاحة رويداً رويداً. في البداية اشترطت الثورة عدم ظهور النساء دون سن الخمسين في الأفلام، وأن لا يظهرن بدون حجاب وان لا تقل المسافة بينها بين الرجال عن ثلاثة أمتار. ومن الشروط الأخرى ألا تنظر المرأة أبداً للرجل أو للكاميرا، وأن لا ترفع عينيها عن الأرض. ومنعت الثورة أيضاً الكوميديا على اعتبار أن الايرانيين شعب جاد ولا وقت لديهم للفكاهة وببطء وثقة عاد أغلب المنتجين والمخرجين لاستئناف نشاطهم وكان على السلطات أن تقبل ذلك، فقد كان من الصعب أن تخلق الثورة سينمائيين اسلاميين بين يوم وليلة. والحقيقة ان الثورة الخمينية لم تقدم الا مخرجاً واحداً هو محمد مخملباف، لكنه ايضاً خرج من عباءة الخمينية، وشيئاً فشيئاً منعت أفلامه من العرض في ايران. وحتى الآن فأغلب السينمائيين كانوا موجودين قبل الثورة. أما الجيل الجديد من السينمائيين فهم رافضون للخمينية كايديولوجية. وحتى لتنجو من الرقابة طورت السينما الايرانية لغتها الخاصة، فاغلب الأفلام الايرانية مثلاً تحتوي على حوار أقل وذلك لتفادي الدخول في مشاكل مع الرقابة حول الكلمات والتعبيرات. فالملالي بسبب عدم امتلاكهم ثقافة واسعة، كانوا يتمسكون بالمعنى الحرفي للكلمة. كما أصبحت أغلب الأفلام تدور في القرى حيث لا يوجد الملالي، وكذلك كان التركيز على الأماكن التي توجد بها أغلبية سنية مثل طاليش وكردستان وسهل تركمان بلوشستان. ولهذا فأفلام «اللوحة السوداء» أو «جاباه» تم تصويرها في قرية ايرانية لا تتحدث الفارسية وكان ذلك وسيلة للهروب من الرقابة وكذلك كانت الاستعانة بالأطفال في الأفلام فالطبيعي أن الأطفال ليس لديهم رؤى سياسية وليس عليهم اعتراضات جنسية وهناك حوالي 40% من الأفلام الايرانية كان الأطفال هم الشخصيات الرئيسية فيها.

* الأعمال المشتركة

* مالم تفهمه الرقابة ان السينما هي فن مشترك يتشكل من خيال الجمهور والفكرة التي يكونها عن الصورة المعروضة أمامه على الشاشة. وكتاب الحياة والفن يتعرض للسينما الايرانية التي تم انتاجها في المنفى في الفترة من 1995 ـ 2000. فقد انتج حوالي 100 فيلم خارج ايران اغلبها كان في الولايات المتحدة وأغلبها لم يتم عرضه للجمهور لا في ايران ولا خارجها، ولكن بعضها تم توزيعه في شرائط الفيديو واقراص الـDVD وهو ما سمح لهذه الأفلام بالوصول للايرانيين أنفسهم، كما كان هناك سوق كبيرة لهذه الأفلام في الأماكن ذات الكثافة العالية من الايرانيين مثل جنوب كاليفورنيا والمانيا.

وقصة السينما الايرانية هي قصة ثقافة تصارع التطرف وفي هذا الصراع لم تكسب الثقافة بشكل تام فما زال السينمائيين الايرانيين غير قادرين على التعبير عن كل ما يعن لهم من أفكار. ففي بعض الأحيان يقدمون حلولا وسطا مشينة للهروب من الرقابة، وبرغم الجمال الذي يبدو على السطح الا أن القبح يختفي في العمق. إن للفيلم دائماً وجهين للحقيقة، فأحياناً لا تستطيع الأكل مع الشيطان حتى لو كان معك ملعقة طويلة. ومع ذلك، هناك شيء واحد مؤكد وهو ان السينما الايرانية عاشت وان قدرها هو التعايش مع المنع والتضييق.