رجل حارب إمبراطورية وكان عصيا على الفساد

مائة عام على رحيل عبد الرحمن الكواكبي (1855 ـ 1902) المبكر بسبب نوبة غضب عصفت بالسلطان عبد الحميد على الأرجح

TT

منذ مائة عام، جلس المصلح الحلبي عبد الرحمن الكواكبي كعادته في مقهى سبلنددبار القاهري لاحتساء فنجان قهوة وتبادل الآراء السياسية بشأن السلطنة العثمانية مع بعض رواد المقهى الشهير أمثال ابراهيم سليم النجار ورفيق العظم وعبد المسيح انطاكي ومحمد كردعلي. كان برفقته ابنه البكر كاظم. بعد دقائق من احتسائه القهوة، شعر بألم في معدته، فغادر سبلنددبار الى منزله، وطلب من ابنه استدعاء الطبيب، وقبيل وصول الطبيب الى المنزل، كان الكواكبي قد فارق الحياة عن عمر يناهز السابعة والاربعين، حيث كان بصدد نشر عدة كتب نهضوية منها «العظمة لله» و«صحائف قريش». فهل مات الكواكبي نتيجة نوبة قلبية على حدّ تأكيد طبيب الخديوي؟ أم ان موته نتج عن السمّ الذي دسّه في فنجان القهوة أحد عملاء السلطان عبد الحميد؟ إن جهاد الكواكبي ونتاجه الفكري يعززان الاستنتاج بأنه رحل بسبب نوبات الغضب التي عصفت بسيد قصر يلدز، وليس بفعل نوبة قلبية، غير مسبوقة فاجأت المصلح الحلبي الذي لجأ إلى القاهرة اسوة بسائر الاحرار الشوام في أواخر القرن التاسع عشر.

دشن الكواكبي حياته الصحافية بتحرير جريدة «فرات» الرسمية ولكن نزعته الى نقد المخطئين والمفسدين من موظفي الولاية، دفعته الى الاستقالة واصدار جريدة «الشهباء» في عام 1877، وهي باكورة دوريات الجمهورية السورية. وسرعان ما بدأت معركته مع الوالي العثماني وحكومة الباب العالي. كانت الحرب الروسية ـ العثمانية في أوجها، وبدأ التطوع في كل الولايات العثمانية. وكان بين المتطوعين في مدينة حلب ستة شبان من الأرمن. ولكن القائد العثماني رفض تطوعهم مشترطا تغيير اسمائهم. نشر الكواكبي الخبر في العدد الثاني الصادر في 5 مايو/ ايار 1877 وذيله بالتعليق التالي: «كلما الزمتنا ظروف الاحوال بالتشبث باسباب علاقات الود والاتحاد بين سائر التبعة العثمانية، تظهر هكذا حركات تقضي بضد ذلك لغايات بعض مآمير لا يكترثون بلوازم الاوقات، فاللازم على أولياء الامور ان يصدوا هكذا مأمورين عن غاياتهم»، وبدلا من ان يعاقب الوالي، المأمور اصدر أمراً بتوقيف «الشهباء». وحين أوقفت الجريدة بصورة نهائية بعد عامين من صدورها، اصدر الكواكبي جريدته الثانية «اعتدال». ولكن حظها من التوقيف لم يكن بأقل من حظ «الشهباء». هنا، قرر الكواكبي طيّ صفحة اصدار الصحف، خصوصا بعد ان مني بخسارة مادية كبيرة، وايقن ان الحرية الممنوحة للصحافي في ولاية حلب تنحصر في مدح السلطان والاشادة بعدالة الوالي. ولكنه اصدر صحيفته الثالثة «العرب» بعد حوالي عشرين عاما من انحجاب «اعتدال» ظناً منه ان مناخ القاهرة يساعد على صدور واستمرار الدوريات الناقدة لسياسة الباب العالي، ولم تتطابق حسابات الحقل مع حسابات البيدر. ففي حين أوقفت «الشهباء» بعد العدد السادس عشر و«اعتدال» بعد العدد العاشر، أوقف الخديوي «العرب» بعد العدد الثالث بسبب حملاتها العنيفة ضد السلطان.

استمر الكواكبي في نشر نتاجه في الصحف الاخرى بعد توقف صحفه عن الصدور. فقد نشر فصول كتابه «طبائع الاستبداد» في جريدة «المؤيد» القاهرية للشيخ علي يوسف اثر لجوئه الى مصر. وفي هذه الحقبة القصيرة من حياته، اصدر كتابه الآخر «أم القرى»، اضافة الى اصدار «طبائع الاستبداد» بعد نشره في «المؤيد» وتنقيحه.

لم يكتف الكواكبي بالكلمة دفاعا عن الحرية والديمقراطية، بل هو اصر على تجسيدها بسلسلة من المواقف الشجاعة، سواء كان متبوئا وظيفة حكومية في الولاية الحلبية، أو حين يكون عاملاً في القطاع الخاص.

ان ممارسة الكواكبي لآرائه الاصلاحية في الاجماع والسياسة، ابعدته عن نهج التنظير غير العلمي وجعلت من نتاجه برنامجا اصلاحيا يتسم بالجذرية والواقعية في آن. كذلك، ساهمت الوظائف الرفيعة التي تبوأها في بلورة تحديده للاستبداد وغيره من المصطلحات، والتعمق بها، اكثر بكثير من مساهمة المصلح الايطالي الفييري وغيره ممن تسنى له الاطلاع على نتاجهم المترجم الى العربية أو التركية التي كان يتقنها.

فقد تولى الكواكبي العديد من الوظائف الرسمية في ولاية حلب، بدءا برئاسة البلدية وانتهاء برئاسة المحكمة، ومروراً برئاسة غرفة التجارة في حلب والبنك الزراعي ومصلحة الريجي. ونتيجة اتباعه نهج النزاهة والعدالة في تلك الدوائر، التي تفوح منها رائحة الفساد والاستبداد، فقد استقال أو أُقيل عدة مرات، وأحياناً بعد اسابيع من توليه الوظائف. ولو لاذ بالصمت بعد خروجه من الوظيفة، لاكتفى الولاة بالاقالة عقوبة له، ولكنه كان يكتب بأسماء مستعارة في بعض الصحف العربية، خصوصاً الصادرة آنذاك في القاهرة، فاضحاً ممارسات الوالي وبعض كبار معاونيه، لذلك لم يتورع أحد الولاة وهو كامل باشا عن اتهامه بالعمالة لدولة اجنبية، واحالته للمحاكمة، والضغط على محكمة حلب باصدار حكم باعدامه. ولولا استئنافه الحكم، وعدالة قاضي محكمة بيروت، لما تأخر رحيله عشر سنوات.

وعلى ذكر ولاة حلب، فإنهم جميعاً اضطهدوا الكواكبي بسبب عدم سكوته على ممارساتهم الفاسدة، ولكن الوالي جميل باشا كان الاقسى في اضطهاده، ليس فقط بالنسبة للكواكبي، بل ايضا ازاء جميع متنوري حلب بلا استثناء. تولى هذا الوالي مهامه في ولاية حلب في اوائل الثمانينات من القرن التاسع عشر. وكان متميزا عن سائر الولاة بثقافته الواسعة، واتقانه الفرنسية التي كانت لغة السلطنة الثانية بعد التركية، ناهيك بدعم السلطان المطلق له بسبب نفوذ والده نامق باشا في قصر يلدز، وفي منتصف الثمانينات بلغ اضطهاد جميل باشا لنخبة حلب ذروته، ولكنه وضع اسم الكواكبي في رأس لائحة المضطهدين، لأنه تولى الدفاع، مجاناً، عن جميع ضحاياه، وعلى رأسهم جدّ السياسي السوري الشهير رشدي الكيخيا. زج الوالي بالكواكبي في السجن، وصادر منزله ومزرعته، وحاول المس بكرامته على مرأى من عامة الحلبيين الذين يكنون له كل احترام وتقدير. ولم يكتف جميل باشا بنهب واعتقال النخبة الحلبية، ولكنه خاض، في الوقت نفسه، معركة كسر عظم مع القنصل البريطاني في ولاية حلب. فكانت معركته مع سفير أقوى دولة في العالم آنذاك بمثابة غلطة الشاطر. ذلك ان ضغط الحكومة البريطانية أجبر السلطان على ايفاد قاضي قضاة السلطنة «صاحب بك» من أجل البت في الشكاوى المرفوعة ضد الوالي ومنها شكوى القنصل. وسرعان ما اصدر القاضي المشهور بنزاهته تقريراً يدين فيه الوالي ويبرئ ساحة الكواكبي ورفاقه، ناهيك بالقنصل. فنقل جميل باشا فوراً من ولاية حلب، وأُفرج عن جميع المعتقلين.