أخطار الداخل والخارج في كتاب مصري

د. سمير سرحان يكتب عن تغير الأخلاق في عالمنا المعاصر

TT

ما الذي يدفع استاذا جامعيا وناقدا ادبيا في الادب الانجليزي والمسرح الاميركي الحديث الى ان يهجر، ولو مؤقتا ميدان تخصصه ليكتب في قضايا السياسة والاجتماع والاقتصاد ويعلق على الاحداث الجارية من حوله؟

هذا هو السؤال الذي يطرحه الدكتور سمير سرحان في مطلع كتابه الصادر حديثا في سلسلة «كتاب اليوم» (قطاع الثقافة بدار اخبار اليوم)، الذي يحمل عنوان «صعود وانهيار امبراطورية الاخلاق» في نوع من مساءلة النفس والتنقيب في اغوار الذات، ومحاولة تفسير ما يبدو مفارقة ظاهرية.

انه في الواقع لم يهجر اهتماماته الاصلية، وانما وضعها في خدمة شكل فني من اشكال التعبير هو، فن المقالة التي تجمع بين الفائدة والمتعة، الغوص في الواقع والاغراق في الخيال.

والمقالات تتحرك على محورين: استيحاء الواقع المعيش الذي نقرأ عنه على صفحات الجرائد والمجلات والكتب، ونراه على شاشات التلفزيون ونسمعه من ميكروفون الاذاعة، ثم ربطه بشيء من قراءاته في التاريخ او الادب او السياسة او غير ذلك.

خذ عنوان الكتاب مثلا، والعنوان، كما يقول النقاد المحدثون، هو «عتبة النص» او اول ما يلتقي به القارئ ويتهيأ لولوجه الى عالم الكاتب: «صعود وانهيار امبراطورية الاخلاق»، الا يذكرنا هذا بشيء؟ الا يرن جرس في ذاكرتنا، كما يقول التعبير الانجليزي؟ واضح ان الكاتب اراد به ان نتذكر مجلد المؤرخ الانجليزي ادوارد جبون الضخم (وقد نقل الى العربية في ثلاثة اجزاء بدينة) «اضمحلال الامبراطورية الرومانية وسقوطها». هنا يؤرخ جبون، رجل القرن الثامن عشر لظاهرة تاريخية كانت عميقة الاثر في تاريخ اوروبا، بل تاريخ العالم كله، وذلك من منظور عقلاني يرفض خرافات القرون الوسطى. ويصطنع مناهج جديدة في جمع الوقائع وتفسيرها واقامة مركب منها وفق نظرة معينة الى التاريخ. وسمير سرحان يؤرخ هنا لظاهرة انهيار القيم في قطاعات معينة من مجتمعنا، وتواري قيمة العمل الجاد المخلص، وارتفاع طبقة جديدة من محدثي النعمة والحرفيين تملك المال ولكنها لا تملك ذوقاً ولا خلقا ولا ضميرا. ويذكرنا بقول المؤرخ هنري برستد في كتابيه «فجر الضمير»: ان مصر القديمة هي التي «اخترعت» الضمير، وارست مبادئ الثواب والعقاب، وفرقت بين الحق والقوة، ودعت الى مبادئ التراحم والعدل والمحبة (انظر كتاب الموتى وتعاليم اخناتون مثلا). وفي مواجهة السقوط الحضاري المروع الذي اعقب انفتاح السبعينات غدا السعي وراء المادة والكماليات وادوات الحياة العصرية هو ما يهتم به الكثيرون وتوارت قيم الوفاء والتضحية واحترام الذات والآخرين لكي تحل محلها قيم الانانية والطمع والشهوة والاجتراء على الآخر. والنظرة القصيرة التي لا ترى أبعد من مواقع رغباتها المادية الغليظة وشهواتها الحيوانية الفجة، ومن ثم كانت تلك الجرائم المروعة التي اصبحت شبه ملمح ثابت من ملامح ابواب الحوادث في جرائدنا.

ان الاخلاق كما يقول المؤلف هي، «مجموعة القيم والمثل العليا التي تحكم سلوك الفرد التي عندما تصبح سلوكا عاما للجماعة او لمعظم افراد مجتمع من المجتمعات فهي بذلك تمثل الطابع المميز لحضارة هذا المجتمع والعمود الفقري لوجودها». وعلى ضوء هذا التعريف، الاخلاق ظاهرة فردية واجتماعية معا يتقدم الى معالجة عدد من الظواهر التي تقرع ناقوس الخطر. سواء جاءت هذه الاخطار من الخارج او وهو الاخطر من عدو كامن بين صفوفنا يلبس تارة ثوب رجل الانفتاح والاستيراد والتصدير، وتارة ثوب الاصولي الديني المتطرف، وتارة ثالثة ثوب الثوري الذي لا يهادن، الملكي اكثر من الملك، غافلا بذلك عن حقائق العصر ومتغيراته ورافعا عقيرته بشعارات الستينات الحماسية التي كبدتنا خسائر مازلنا حتى اليوم نعاني من اثارها.

هذه اذن هي المنطلقات الواقعية التي يستمد منها سمير سرحان مادته، ولكنه يربطها بعوالم الفكر والخيال التي ابدعها المفكرون والكتاب والفنانون وبذلك يزيد من تأثيرها في نفوسنا، ويجعلها جزءا لا يتجزأ من خبرتنا وفكرنا وحساسيتنا.

وحين يتأمل مختلف مراحل القضية الفلسطينية ـ قضية الفرص الضائعة كما دعاها الرئيس مبارك بحق ـ وكيف رفض الفلسطينيون قديما ما وفره لهم الرئيس السادات في الورقة الثانية من اوراق كامب ديفيد وهم يسعون الآن الى نصفه بل ربعه، يتذكر اقصوصة لأنطون تشيكوف عن حوذي عجوز كان يسيء معاملة زوجته ويفقد اعصابه معها لأقل هفوة ولم يعرف قيمتها الا بعد ان ماتت. وحين يتأمل دهاء السياسة الاسرائيلية وتلمسها مواقع الاقناع من الرأي العام ومراكز صنع القرار في الولايات المتحدة الاميركية واوروبا الغربية يرى في ذلك موازيا لما عمد اليه شيلوك المرابي اليهودي في مسرحية شكسبير الشهيرة، وحين يرى ممارسات شارون في الاراضي الفلسطينية المحتلة يتذكر مكبث الطاغية في مسرحية شكسبير الشهيرة.

وفي مقالة «عيوننا اليك ترحل كل يوم» يتحدث عن الفجوة ـ بل الهوة ـ بين الواقع والمثال بين عالمنا على ما هو عليه وما ينبغي ان يكون فيذكر «جمهورية» افلاطون و«يوتوبيا» السير توماس مور، ويتذكر كوميديا دانتي الالهية، حيث تنتقل الروح من الجحيم الى النعيم مرورا بالمطهر. ويربط ـ شأن الفنان الذي لا يفوته ان يربط بين الاشياء المتباعدة ـ بين مشهد محمد الدرة وهو يتلقى رصاص الصهاينة الوحشي وابوه يحاول عبثا ان يقيه موجات الرصاص ومشهد، رآه على شاشة التلفزيون منذ عشرين عاما او تزيد، عن حرب فيتنام لقائد عسكري اميركي يصوب مسدسه الى رأس اسير من فيتنام. ويتحدث سمير سرحان عن سياسة الكيل بمكيالين التي تتبعها اميركيا فيتساءل: يا سيد البيت الابيض هل انت ماكيافيلي؟ ـ ذلك الذي كان يرى بمنطق براجماتي لا يرحم ان الغاية تبرر كل وسيلة، ويعمد الى تحقيق اغراضه بقوة الليث حيناً، ودهاء الثعلب حينا آخر. ويربط سمير سرحان هذه السياسة بتنظيرات فوكوياما، المفكر الاميركي الجنسية الياباني المولد، وصمويل هنتنجتون وغيرهما من الدعاة الى سيطرة النموذج الغربي وصدام الحضارات بدلا من حوارها، وهي الافكار الغاشمة التي تجعل من «العولمة» مجرد اسم آخر للهيمنة الاميركية، للقياصرة الجدد.

وفي ثنايا كتابه يبتعث سمير سرحان لقطة من احد افلام «شارلي شابلن» عامل المصنع الذي تنحصر مهمته في ان يربط «صامولة» في ماكينة تمر امامه على سير متحرك الى ان يتحول هو ذاته الى جزء من الآلة الدوارة مدينا بذلك تشيؤ الانسان في المجتمع الصناعي الحديث وفقدان فرديته، وتحوله الى مجرد رقم في منظومة جماعية هائلة.

ويود ابياتا لصلاح جاهين من رباعياته ويشهد على مسرح الجامعة الاميركية مسرحية سلوى بكر «الحياة حلوة» وبذلك يجول بنا جولة ممتعة في آفاق رحيبة من الخبرة والفكر والابداع.

* صعود وانهيار امبراطورية الاخلاق

* المؤلف: سمير سرحان

* الناشر: دار اخبار اليوم ـ القاهرة