فوينتس: متى كان الأميركيون أبرياء؟

الروائي المكسيكي يكتب سيرته الذاتية ويتذكر أوروبا «الفاسدة» والولايات المتحدة «البريئة»

TT

في تلك الليلة رددت ديانا ما كان يدور في رأس الجميع، لكنها عبرت عنه من زاوية رؤيتها، كفتاة كانت تعيش في منطقة الميدل ويست وسافرت الى باريس لتنام طويلا، لتعود مثل ريب فان وينكل، إلى الوطن، لتواجهها الزوبعة ـ اغتيال كنيدي ومارتن لوثر كنغ وموت عشرات الألوف من الصبيان الذين انتقلوا من مدنهم الصغيرة إلى الغابات الآسيوية. لعبنا نحن الثلاثة ـ أنا وديانا وليو ـ كأسرة ضجرة قديمة، مستخدمين حروف الأبجدية الإنجليزية في لعبتنا. على الرغم من معرفتي الجيدة للإنجليزية، لكنها لم تصبح يوما لغتي. فلم أحلم أبدا بها. أنا أتكلمها، لكن عقلي يقوم بالترجمة السريعة من الإسبانية. وهذا من السهل ملاحظته، فإنجليزيتي زاخرة بمفردات ذات أصل لاتيني أو عربي أكثر من المفردات ذات الأصل الساكسوني أو الجيرماني. اقترح ليو كوبر لعبة أخرى: «لنتخيل أننا راب فان وينكل، وأننا نمنا مثله لمدة عشرين عاما. كيف سيكون حال البلد عند استيقاظنا؟». سألته: المكسيك أم الولايات المتحدة؟ لتوضيح أن هناك أكثر من بلد في العالم. حدق كلاهما فيّ كأنني أبله كليا.

اندفع كوبر مباشرة، متحدثا عن فكرة فقدان البراءة التي يكررها الأميركيون كثيرا. أتساءل دائما مع نفسي متى كانوا أبرياء: عندما كانوا يقتلون الهنود، أو عندما اندفعوا تحت سطوة طموحهم الجامح لاحتلال الأرض من المحيط إلى المحيط. ما زلنا في المكسيك، نحيي ذكرى الطلبة العسكريين الذين فضلوا إلقاء أنفسهم من أعلى جدران قلعة شابولتبيك عن الاستسلام لقوات الجنرال وينفيلد سكوت. هل هم كانوا مجرد مراهقين حمقى رفضوا تسليم أعلامهم للبراءة الغازية؟ متى كانت الولايات المتحدة بريئة؟ عند استغلالها للعامل الأسود المستَعَبد، عند قيام مواطنيها بقتل بعضهم بعضا أثناء الحرب الأهلية، أو حين استغلت عمل الأطفال والمهاجرين لبناء ثروات هائلة والاستحواذ عليها بطرق بريئة؟ حينما داست على بلدان عزلاء مثل نيكاراغوا وهندوراس وغواتيمالا؟ أو حين ألقت بالقنبلة على هيروشيما؟ حينما قام ماكارثي ولجانه بتدمير حيوات ومهن نتيجة لتلميح أو شك ما، أو تحت وطأة جنون الخوف؟ أو عندما خُربت غابات الهند الصينية بالمواد السامة؟

ضحكت في داخلي، متراجعا عن إجابتي للسؤال الذي أثارته لعبة «ريب فان وينكل». نعم، قد تكون الولايات المتحدة بريئة في فيتنام فقط، فلأول وآخر مرة، كانت تظن انها قادرة على «قصف فيتنام حتى تعيدها الى العصر الحجري»، مثلما قال الجنرال كيرتس لومي، قائد القوة الجوية. كم كانت الصدمة قوية على بلد لم يخسر يوما أي حرب، أن يُهزم أمام شعب أصفر، وآسيوي فقير، هذا الشعب المتدني عرقيا من وجهة نظر العقل العنصري، الذي يحمله كل أميركي في رأسه كصليب، سواء كان هذا الشعور مفضوحا أو مكبوتا، في هيئة شعور بالخجل أو بالتحدي.

واصل الأميركيان الحديث، ولأنهما كليهما ممثلان فذلك جعلني أتخيل البراءة المألوفة بأنها ليست سوى صورة لعزاء الذات، تم نشرها بشكل خاص عن طريق السينما. في الأدب، ومنذ البدء، منذ الطهرانية المعذَّبة التي عكسها هاوثورن، منذ كوابيس أدغار ألن بو الليلية، وكوابيس جيمس النهارية، لم يكن هناك أي براءة. هناك خوف فقط من القوى المظلمة التي يحملها كل انسان داخله. الذات العدوة، ليست حوتا يواجه بطل موبي ديك، على سبيل المثال. هذه الرواية هي تعريف للأدب الجيد، ملحمة الذات العدوة.

لا أعلم إن كان «توم سوير» و«هاك فين» بريئين حقيقيين، أو هما لا يمثلان سوى تلك الرغبة الرعوية للتواصل مع العائلة (توم) او النهر (هاك) اللذين كانا يشغلانهما عن جمع المال، وإخضاع الضعفاء، وممارسة الغرور، كحقوق شرعية. على أي حال، لم يكن مارك توين بريئا; كان متهكما، والتهكم شيء سلبي، حسب مبدع هذا المفهوم، كيركجارد، الذي اعتبره «نموا غير طبيعي.. مثل الكبد في وزة ستراسبورغ الذي يسبب في الأخير قتل الفرد». لكنه في الوقت نفسه طريقة للوصول الى الحقيقة لانه يقوم بتحديد وتعريف وإبطال وانتقاد أي شيء نعتبره حقيقة.

في الأفلام الأميركية، تم خلق اسطورة البراءة بدون أي روح تهكم. ففي طفولتي، امتلأت عيناي بشخصيات تأتي من الريف، والمدن الصغيرة لتقيم في المدن الكبيرة، وهناك يتم تعريضها لمخاطر جمة. إذ عليهم أن يناضلوا ضد الجنس (ليليان غيش) وضد القاطرات (بستر كيتون) وضد ناطحات السحاب (هارولد لويد). كم احببت، حينما كنت طفلا، الأفلام بالبراءة العاطفية لفرانك كابرا، حينما يهزم البطل ببراءته قوى الفساد والزيف.

إنها أسطورة جميلة، محملّة بسياسات أخلاقية وإنسانية طرحها فرانكلين روزفلت. فمنذ صدور اتفاقه الجديد NewDeal وما تلاه من حرب عالمية، ونضال ضد الفاشية، التي لم تكن بريئة فقط بل شيطانية، وهذا ما جعل اليانكيين (ونحن كلنا معهم) يؤمنون بشكل كامل بخرافة البراءة. فبفضل روح الفضيلة العالية، استطاعوا إنقاذ العالم مرتين، حينما هزموا قوى الشر، عبر تشخيصهم لمصدر الشر الصافي: القيصر الألماني وهتلر. كم مرة في حياتي سمعت اليانكيين يرددون: «مرتين، انقذنا أوروبا في هذا القرن. عليهم أن يكونوا أكثر عرفانا بالجميل»، هذه الكلمات تأتي على لسان الجميع من مختلف الطبقات الاجتماعية.

في روايات هنري جيمس «الأوروبية»، تظهر أوروبا فاسدة والولايات المتحدة بريئة. لا أظن أن هناك أي بلد في العالم، يشعر بالبراءة أو يتباهى بامتلاكه لها مثل الولايات المتحدة، خصوصا مع القوة التي يمتلكها. فالإنجليز المنافقون، والفرنسيون الساخرون، والألمان المتعجرفون، والروس العنيفون (او المتباكون) لا يعتقدون أن بلدانهم بريئة. ونتيجة لذلك، تعلن الولايات المتحدة عن أن سياستها الخارجية غير مبنية على المصلحة الذاتية بل هي ناجمة عن حبها للبشرية، وسعيها بكل نكران ذات، للدفاع عن الحرية والديمقراطية، وإنقاذ الآخرين من أنفسهم. مع ذلك فليس هناك من يؤمن بهذه الزعم عدا الولايات المتحدة. خداع النفس يقود إلى التشوش، فالكل يعرف أي مصالح هذه، لكن لا أحد يعترف بالحقيقة، لأن نكرانا للذات كهذا لم تقم به أي دولة عظمى عبر كل العصور.

أتخيل ديانا كطفلة تستمع إلى خطبة لوثرية في كنيسة بولاية اياوا، ما الذي كان يدور في رأس تلك الصغيرة، حينما يردد القس أن جميع البشر خطاة، وغير مقبولين، ومدانين، مع ذلك فان المسيح قد قبلهم على الرغم من وضعهم غير القابل للإصلاح، لأن موت المسيح منح تكفيرا اكبر مما نحتاج إليه، لمسح ذنوبنا؟ هل هناك نظرية بهذا الثقل قادرة على جعلنا نعيش لتبرير قدر المسيح فينا؟ أو هل هي تحكم علينا بعدم المسؤولية الكامل، طالما أن جميع ذنوبنا سيُغفر لها يوم الدينونة.

تباعدت كلمات الممثل العجوز عن تأملاتي. فالبطل «ريب فان وينكل» استيقظ ولم يتمكن من التعرف على الوطن الذي أسسه واشنطن وجيفرسون. فليو كوبر قد شاهد ما عاشه هو نفسه بعينين مفتوحتين. إذ رأى الحاجة الطهرانية الرهيبة إلى وجود عدو مرئي وثابت يمكن تسميته. فالمرض الأميركي كان هوسا جنونيا لا يرى في العالم سوى كونه منقسما إلى منطقتي الخير والشر، بدون وجود أي إصلاح ممكن. قال كوبر إن اليانكي لا يستطيع العيش بسلام إلا إذا عرف من يحارب. وهو يقنّع ذلك بقوله إن عليه تحديد الأشرار، وبذلك يستطيع الدفاع عن الاخيار، لكن عندما يستيقظ «ريب فان وينكل» فانه سيكتشف أن الأخيار، ونتيجة لدفاعه المتواصل عن انفسهم، قد اكتسبوا هم خصائص الأشرار. فمكارثي لم يطارد الشيوعيين الذين رآهم تحت سريره، بل هو طارد وأذل ودمر أناسا ديمقراطيين، بنفس الطريقة التي استخدمها فيشنسكي في الاتحاد السوفياتي لمحاربة الشيوعيين بالطبع. ضحايا المكارثية، في نهاية المطاف، وكل محاكم التفتيش المرتبطة، هم واشنطن وجيفرسون ولينكولن. سألت زميلي في اللعب: هذا البلد لم يستطع، رغم كل شيء، أن يتوافق مع مُثله، أليس كذلك؟

قال كوبر: صحيح. ليس هناك أي بلد يتوافق مع مُثله، لكن الآخرين أكثر يأسا وسخرية. نحن مثاليون، أما عرفت ذلك؟ نحن دائما نقف مع الجانب الممثل للخير، وأينما نكون يكون هناك الخير، وإذا راودنا الشك بذلك، يصيبنا الجنون.

قالت ديانا بصيغة أبسط: يجب الا نترك أبدا بيوتنا.

أتذكرها آنذاك جالسة على سجادة، حيث عقفت ساقيها ووضعت يديها فوق حضنها. «عنوان رواية توماس وولف هو ليس بإمكانك العودة إلى البيت ثانية... هذا هو العنوان الأكثر صدقا في كل الأدب الأميركي... أنت تخرج من بيتك، ثم تجد أنك غير قادر على العودة، بغضّ النظر عن مقدار رغبتك في ذلك...» أضافت جملتها الأخيرة مع نظرة متعبة.

سألتها إن كانت تلك حالتها، فهزت رأسها مؤيدة. قالت إنها بعد عودتها من فرنسا وجدت جيلا جديدا بالكامل في كاليفورنيا، في منطقة الميدل ويست، وعلى الساحل الشرقي، على استعداد لتقديم أفضل ما عندهم من إمكانيات لكن لم يسمح لهم. كان هناك فارق كبير بين المُثل التي يحملها جيل الستينات والفساد، وأكاذيب الحكومة الكثيرة، والعنف المتدفق من ثنايا المجتمع. في تلك الليلة رددت ديانا ما كان يدور في رأس الجميع، لكنها عبرت عنه من زاوية رؤيتها، كفتاة كانت تعيش في منطقة الميدل ويست وسافرت الى باريس لتنام طويلا، لتعود مثل ريب فان وينكل، إلى الوطن، لتواجهها الزوبعة ـ اغتيال كنيدي ومارتن لوثر كنغ وموت عشرات الألوف من الصبيان الذين انتقلوا من مدنهم الصغيرة إلى الغابات الآسيوية، القتلى في فيتنام، الجنود المخدَّرون، الموت العقيم، كل ذلك من أجل لا شيء.