حمد بن عبد الله القاضي: الكتاب سميري.. حين عزّ مسامري

TT

لا أتخيل الدنيا بدون الكتاب أو بالأحرى دون «ثقافة مطبوعة». ولا اتصور العالم بدون حبر المطابع، وعطر الحبر. وليست هذه نظرة حالمة.. أو لأن «الحب للحبيب الأول» بصفة الكتاب أول عشقي الثقافي، ولكن لأني أُؤمن ـ حد اليقين ـ أن ثقافة الكتاب أبقى وأمتع وأيسر. أليس الكتاب ـ كما قال الجاحظ في مقولة جميلة أخاذة: «يفيدك ولا يستفيد منك إن جدّ فعبرة وإن مزح فنزهة»، ولأن الكتاب من نافذة أخرى مطواع بين يديك تقرؤه وتفيد منه، وتستمتع به وأنت جالس على الأرض، أو مسافر في طائرة، ودون وسيلة أو وسيط أو واسطة، إنك لا تحتاج إلى تيار كهرباء .. ولا إلى طقوس وطريقة جلوس معينة للإفادة منه بخلاف كل الوسائل المعلوماتية الحديثة التي تحتاج إلى شاشات حاسوبية أوشاشات عنكبوتية وغيرها.

إن رحلتي الشخصية والمعرفية مع الكتاب بدأت منذ عرفت نفسي ولعلني ولدت وفي يدي كتاب. إنني منذ عهد الصبا في مدينتي «عنيزة» في «نجد» بالمملكة العربية السعودية.. بدأت رحلتي في عشق الكتاب من أول نظرة، لقد كنت محظوظاً إذ نشأت وعلى مقربة مني مكتبة وكتاب وصحف ومجلات وأساتذة ورفاق يحفزونني على القراءة ويجذبونني إليها.

لقد كان أول كتاب قرأته للمنفلوطي كتاب «النظرات». ولهذا الكتاب ولكتب المنفلوطي أثر كبير على أسلوبي في مجال الكتابة ذات «الصبغة الرومانسية» في السابق ثم صار الاحتفاء بالشأن الاجتماعي والإنساني نهاية مطافي الكتابي. ثم بعد نزوحي إلى مدينة الرياض للدراسة الجامعية اتجهت إلى قراءة دواوين الشعر وكان للشاعر السعودي المعروف أحمد الصالح «مسافر» أثر في توجيهي لذلك من خلال إرشادي إلى بعض الدواوين الشعرية لشعراء المهجر وعمر أبو ريشة وإبراهيم ناجي وغازي القصيبي ثم قصائد الشاعر مسافر.

ثم اتجهت نحو الكتب ذات الاهتمام الاجتماعي والثقافي وبخاصة الكتب التي تجسد سماحة الإسلام بطرح مستنير ومفكرين ذوي رؤية مستنيرة مثل الشيخ الـغـزالي، وخالد محمد خالد، وبخاصة كتابه «رجال حول الرسول» والذي تحسّ وأنت تقرؤه أنه يكتب شعراً مؤثراً لا تاريخاً معلوماتياً، ومثل الشيخ يوسف القرضاوي. ومن الكتب التي قرأتها في الآونة الأخيرة وتأثرت بها كتاب «رفع الحرج في الشريعة الإسلامية» لمؤلفه الشيخ الدكتور صالح بن حميد الذي جسد فيه مؤلفه سماحة الإسلام بمنهج علمي وباسلوب مقنع. ومن الكتب التي قرأتها في الفترة الأخيرة، وأتمنى أن يقرأه كل موظف ومسؤول كتاب الدكتور غازي القصيبي «حياة في الإدارة» فهو من أفضل الكتب الذي كشف أن الإدارة فن، وأن النجاح فيها إرادة وإبداع وتجاوز للعقبات كما قال أحد المفكرين.

أما علاقتي بكتب التراث فلم انفصل عنها بحكم دراستي أولاً ثم اهتمامي وعشقي للتراث، ومن الكتب العجيبة في تراثنا ذلك الكتاب العجيب فعلاً الذي أدركت ـ بعد قراءته ـ كم هو تراثنا غني وعظيم، أعني كتاب «الشرح الوافي». إن هذا الكتاب الذي لا تتجاوز صفحاته (214) صفحة يحتوي على خمسة علوم هي: الفقه، العروض، التاريخ، النحو، القوافي قدَّمه مؤلفه «إسماعيل المقري» ـ رحمه الله على شكل جداول منسقة وجميلة وأدعو هنا إلى تقديم تراثنا بطريقة عصرية وربطه بإيقاع وهموم عصرنا لشدّ الناس والجيل الجديد بخاصة إليه. وهنا لا بد من تقديم الشكر للمؤلف السعودي الدكتور عبدالعزيز الخويطر الذي أسهم إسهاماً كبيراً في تقديم تراثنا بطريقة عصرية مغرية عبر كتابه الجميل «بُني» (خمسة أجزاء) وعبر موسوعته «إطلالة على التراث» خمسة عشر جزءاً .

إنني أدين للصحافة ومرافقة القلم في مصادقتي للكتاب، فالكاتب لا بد أن يقرأ ويطلع، وقد كانت بدايتي في عالم الكتابة كتابات وخواطر ذاتية ثم اتجهت إلى «الكتابة الأدبية» وبعدها توجهت إلى الكتابة في الشأن الاجتماعي والوطني، وكنت كلما قرأت كتاباً أدبياً جيداً أقدم قراءة أو دراسة عنه، ولكن مع الأسف «الأدب» هو الذي أدخلني إلى الصحافة. جاءت هذه الصحافة الناكرة للجميل فأخرجتني من نعيم الكتابة الأدبية إلى أوار الكتابة الصحافية وما أزال أكتوي على لظاها.

وهنا أتوقف لاطمئن نفسي وغيري من عشاق «الكلمة المكتوبة» أنه رغم تفجر المعلومات عبر قنوات المعرفة الحديثة، فقد ظل الكتاب وسيظل مطلوباً وستبقى الكلمة المطبوعة معشوقة، أقول هذا من خلال ما اعيشه كورّاق «بالمجلة العربية» أجد الإقبال عليها يتنامى رغم الصوارف المعرفية الجديدة، ومن خلال ما تقدمه المطابع وما تمتلئ به رفوف المكتبات التجارية ـ ولو لم يكن هناك قارئ لما طبعت صحيفة أو مجلة، ولما نشر أو وزع كتاب ـ المهم أن يوجد كتاب جيد ليوجد قارئ متابع.. وليس هناك ـ في هذه الحياة ـ شيء ينفي شيئاً.. فالإذاعة لم تنف الكتاب، والتلفزيون لم يطرد الإذاعة، وكذا الحاسب الآلي والإنترنت، فلكل عشاقه بل إن هناك تكاملاً بين هذه الأدوات الثقافية ولا يضيع ربك أحدا.

وبعد..

إنه لا يزعجني ـ كما أحس أنه يزعج غيري من عشاق القراءة ـ سوى شح الوقت، وكثرة المشاغل وإيقاع العصر.. هذه التي تحدّ من السخاء بالوقت عليك لتقرأ وتقرأ.. وكم يؤلمني عندما أجد هاتيك الكتب التي ابتعتها أو أهديت إلي ثم أُلقيت عليها نظرة سريعة، وبعد ذلك أضمها إلى مكتبتي وكأني أواريها الثرى وذلك بانتظار بعثها وانتظار الوقت الذي قد يأتي وقد لا يأتي ـ على صهوة الثواني ـ إن كان في العمر فسحة.

وأخيراً ومن خلال ولعي بالكتاب وعشقي للكلمة المطبوعة كم أجد ذلك الشاعر السعودي محمد بن عثيمين صادقاً عندما قال في بداية القرن الرابع عشر الهجري:

جعـلت سمـيـري حـين عـزّ سـامــري دفــاتــر أمـلـتـها الـعـقـول الـنـوابــغ وهذا في هذا الزمان أوفر صدقاً فقد عزّ ـ فعلاً ـ الصديق المسامر الذي تسعد بحديثه، وتهنأ ببوحه.

إن حلمي أن أتخلص ـ في يوم من الأيام ـ من التزاماتي العملية وأن اخصص الوقت الأكثر لمعانقة أهدابي لخدود الصفحات.. ولم لا يكون ذلك حلماً منتظراً؟ أليس الكتاب هو الذي كلما أضنتك أشجانك وأشجان أمّتك وجدت على ساعد الحرف الارتياح وألفيت في دفء الكتاب ما يخفف عنك صقيع الأيام.

إن هذا حلم هل يتحقق أم لا؟ وإلا فالقضية كما قالت تلك الشاعرة الحالمة وهي تغازل أحلامها التي قد لا تستطيع لثم شفتيها: «منىً إن تكن حـقـاً أسعـد الـمـنى وإلا فقد عـشْـنا بها زمـناً وغـدا»

* عضو مجلس الشورى السعودي رئيس تحرير «المجلة العربية»